“قلت: … شيخنا الموضوع كذا وكذا ونحن عائلة مدنية مسالمة ولسنا من العشائر، ولسنا مؤهلين لدفع فدية او دية عشائريا. أجابني الشيخ الموقر بكل تواضع وخجل وقال لي: هل فعلاً يستحق موضوع كهذا جلسة عشائرية؟ وأضاف “والله أكوا ناس دينزلون قيمة العشاير والمشايخ ويشوهون سمعتنا، ولكن مع ذلك يا أستاذ بما انه طلب منك ذلك، لابد لنا من الجلسة واترك الباقي عليّ….”
صديقنا قحطان إما جائته الأوامر من حزب البعث او اخذته الحمّية وخرج الى شارع الكرادة داخل قرب شارع الهندي في محلة البوجمعة ليشارك مع مجموعة من المراهقين المندفعين بالهجوم على احدى باصات مصلحة نقل الركاب الحمراء، كي يحرقوها ويعتدوا على سائقها وجابيها، ليسقط قتيلا برصاص رجال الأمن الذين كانوا في باصات الأمانة لحمايتها بأعتبارها من الممتلكات العامة. سماعنا للخبر كان صدمة كبيرة. قحطان صديقنا قتل! لماذا وكيف وهل كان يجب ان يقتل؟ وهل يستحق الأضراب مثل هذه التضحيات الجسام؟ قحطان لم يكن سائق سيارة وبالتالي لا علاقة له بسعر البنزين. قحطان لم يكن سياسياً بمعنى الكلمة لأنه لم يكن سوى فتىً مراهقاً تحت تأثير الأفكار القومية.
كان لما حصل لقحطان اثر وتأثير واعادة تفكير لما كان يحصل حولنا. اسئلة عديدة منها، لماذا تلجأ القوى السياسية الى العنف؟ ولماذا تستخدم الدولة اقصى درجات الردع لتصل الى حد قتل متظاهرين، حتى وان كانوا يعتدون على الممتلكات العامة؟ مضت ستون عاما على هذا الحدث وللأسف مازال يتكرر ويتكرر ويتكرر عبر العقود.
ومن الجدير بالذكر انه بعد انقلاب 8 شباط 1963 أعتبر قحطان شهيداً ومنح رتبة ملازم لأغراض التقاعد، وسُميت ساحة مهمة بأسمه هي “ساحة قحطان” في اليرموك تخليداً له. الشعب العراقي قدم الآلاف من الشهداء السياسين وخاصة الوطنيين واليساريين في كل العهود. اين هي نُصبهم ورموزهم واسمائهم في شوارع وازقة بغداد وعموم العراق؟ ولماذا تتنكر الحكومات المتعاقبة لتضحياتهم علما ان الكل يشيد بوطنيتهم وثقافتهم ونظافة اياديهم وولائهم للوطن؟
#محمد_حسين_النجفي #قحطان_عبد_اللطيف_السامرائي #أضراب_البنزين_العراق #حكمت_الدقاق #شارع_الهندي
#الكرادة_الشرقية
“ظل مسيطرا ومتحكما في الموقف، ومتصنعا لحركات متعمدة ولعدة مرات كي يريني انه يحمل مسدساً تحت سترته”
كانت تجارة والدي الاساسية هي استيراد السلع المنزلية المصنوعة من الكرستال والبورسلين من اليابان وبولونيا والصين وألمانيا وچيكوسلوفاكية (قبل انفصالها الى دولتين). نشتري من هذه الدول من خلال ممثلي الشركات في بغداد أو من خلال وكلائهم العراقيين.
اخبرني بعض الأصدقاء انه في مقهى اوربا عند مدخل فندق اوربا الكبير(Grand Hotel Europa) في شارع فاسلافسكي ناميساي الرئيسي يلتقي العديد من الطلبة العراقيين والمقيمين في براغ. ذهبت في اليوم الثالث الى هناك والتقيت بأحد العراقيين ثم جاء الثاني والثالث الى ان اصبح على طاولتنا ما يقارب الستة اشخاص. كلهم طلاب ومخضرمين ولهم مدة طويلة هناك، ويبدوا على
الجميع انهم طلاب بالأسم فقط. وانا كزائر وكتاجر فرشت لهم الوليمة بالكامل من مشروبات ومأكولات وما لذ وطاب. واخذنا الحديث هنا وهناك الى ان سألني احدهم ما اذا كان حقا ما نسمعه من ان الناس يقفون في طوابير ويتدافعون للحصول على طبقة البيض او الدجاج المستورد. قلت لهم نعم ذلك حقيقة واقعة. وتحدثنا عن الأوضاع الأقتصادية بأعتباري تاجر وابن سوق. لم نتكلم بالسياسة او طبيعة السلطة قط. لم يأتي اسم حزب البعث او البكر او صدام في المحادثة اطلاقا. المهم نهاية الجلسة دفعت الحساب واخذت تاكسي الى فندق الكونتنانتل.
ايقضتني والدتي وانا في عز النوم. لم استطع ان افتح عيوني لشدة الأرهاق من السفر. قالت أكعد (استيقظ) هناك من كان يطرق الباب مرارا، وحينما فتحت الباب له سأل عنك. انه شخص
غريب ومخيف والساعة هي الخامسة صباحاً. قلت حسناً امي ادخليه في غرفة الضيوف وسأنزل حالاً. وضعت الروب على كتفي ورشقت بعض الماء في وجهي استعداداً للمجهول الذي سيجلبه زائر الصباح المشؤوم، ولم يأتي على بالي سوى ما حدث في براغ. دخلت الغرفة واذا به “سعدي” صديق لصديق الطفولة “رياض الطحان”. معرفتي به لا تتجاوز سوى ان رياض قد جاء به في احدى سفراتنا الى الصدور. اعرف اخاه “طالب” الذي كان من دورتنا في الثانوية الشرقية. والاثنين هما ابناء عم حسن العامري واخوة زوجته، الذي كان عضو في القيادة القطرية لحزب البعث ووزير التجارة آن ذاك. شريط سريع مر في ذاكرتي كي افهم معنى هذه الزيارة الرهيبة. سعدي كان في منتهى الأناقة يلبس بنطلون وسترة ورباط، وكأنه اثناء الدوام او ذاهب للدوام في احدى دوائر الدولة التي تتطلب شياكة عالية. كان سلامه معي مقتطبا وكأنه في مهمة رسمية وليس في زيارة ودية لصديق. رحبت به وجلست كي يجلس، إلا انه ظل واقفاً مسيطرا ومتحكما في الموقف، وبدأ يتحرك امامي رواحاً ومجيئاً كبندول ساعة حائط قديمة، متصنعا لحركات متعمدة ولعدة مرات كي يريني انه يحمل مسدساً تحت سترته. قلت في نفسي انه ربما جاء بسبب ما حدث في براغ. وبما انه يحمل مسدساً واستطاع ان يعرف مسكني علماً انه ليس من محلتنا ولم يزرني سابقاً ابدا، اذن انه يعمل في الأمن او المخابرات او مرافق لنسيبه حسن العامري. وأخيرا تكلم عن سبب زيارته وقال بشكل جدي وبوجه عبوس يحمل التهديد بطريقة قوله: آني آسف جئتك في وقت غير مناسب ولكني بحاجة الى ان استدين منك 500 دينار. (الدينار العراقي كان يساوي 3.5 دولار آن ذاك اي ما يساوي 1,750 دولار). ارتحت لذلك كثيراً لأنه ليس اسوأ الأحتمالات. قلت له: سعدي لقد كنت مسافراً خارج العراق ووصلت قبل حوالي خمس ساعات وليس لدي اي مبلغ الآن. اذا امكن تعطيني عدة ايام لأرى ما استطيع تدبيره. ظل يفكر ويروح ويجيئ في الغرفة وانا لا استطيع ان اسحب النفس بسهولة. تعمد ان يرينيني المسدس عدة مرات وهو يتحرك امامي للعلم والتحذير. قال متردداً: حسناً إلا انني بحاجة ماسة للمبلغ ولا بد لي من الحصول عليه.
يا (أُم عوفٍ) ومايدريك ماخبأت لنا المقاديرُ من عُقبى ويدرينا
“قال لا اريد شهادتك، إطلع قبل ان يخرجك ابو اسماعيل (الشرطي) بالجلاليق (بالركل بالأرجل على المؤخرة)”
منذ ان فطنت للحياة كانت هناك ازمة مواصلات وزحمة في الطرق والساحات المدورة التي اشتهرت بها بغداد مثل ساحة التحرير وساحة الطيران في الستينات والسبعينات من القرن الماضي. والزحمة والتدافع ليس بين السيارات فقط وانما بين الركاب سواء في باصات الأمانة او تكسي النفرات (التكسي المشترك). وطبعا هناك تداعيات لهذه الأختناقات في المواصلات نتيجة للتلاصق الجسدي الذي لا مفر منه سواء ان كنت واقفا او جالساً. من بينها ان معظم حالات النشل (السرقة من الجيب) تحدث في باصات الأمانة المزدحمة. كذلك فان الأزدحام يوفر فرصة ذهبية للتحرش الجنسي الذي كان سائدا في تلك الأيام. وقد يعتقد البعض ان التحرش الجنسي كان من تصرفات المراهقين. كلا، وانما كان سمة سائدة خاصة من قبل الرجال في اعمار متقدمة. كان التحرش الجنسي يتم بشكل شبه علني دون خوف او خجل ودون اي تدخل من قبل الآخرين لأيقافه. وللأسف نادراً ما نرى فتاة او امرأة تتجرأ امام الملأ وتفضح المتحرش.
ومن بين احدى ذكرياتي التي من الصعب نسيانها انني في صباح احد الأيام حينما وصلت الى محطة تكسي النفرات كان قد سبقني ثلاثة اشخاص من محلتنا في السبع قصور الكرادة الشرقية داخل. احد هؤلاء الأشخاص سيدة حامل في مرحلة متقدمة لا تستطيع معها التحرك بالسرعة التي تقتضيها الحصول على مقعد في التكسي. وبما انه لا توجد ثقافة او نظام ان الأفضلية للأسبق، فانه حينما يقف التكسي يركض الجميع كالغزلان ومن هواسرع يحصل على المقعد. والباقون ينتظرون التكسي القادم، والقادم والذي بعده، وهذا ما حدث للسيدة التي ظلت تلاحق التكسي وهي تسير كطائر البطريق عدة مرات دون نجاح. ظللت مندهشاً كيف ان رجال محلتنا كانوا يأتون بعد جارتهم السيدة الحامل ويسارعون لسرقة دورها منها دون تردد او حياء او خجل او مروة اوحتى رجولة. حينها بدأت افكر ان المشكلة لم تعد في السلطة السياسية فقط، وانما في اخلاقية الشعب ايضا الذي تغير عبر الزمن نحو الأسوأ.
وفي احد ايام شتاء عام 1969 ركبت تكسي النفرات من الباب الشرقي متوجهاً الى الشورجة حيث مركز تجارتنا. كان السائق في عمر منتصف الأربعينيات يدخن سيكارته ويستمع بشرود واضح الى اغاني فيروز الصباحية. كانت ظاهرة التدخين مقبولة ومتعارف عليها في تلك الأيام فيما عدا باصات الأمانة كانت ممنوعة. معظم الركاب يبدوا انهم موظفين في حالة من الأستعجال للوصول الى مآربهم. بدأ السير يتباطئ كلما ابتعدنا عن ساحة التحرير، إلا انه تباطئ اكثر بعد عبور ساحة الخلاني ومن ثمّ شارع النهضة، وأخذ الجميع يُأفف من الأزدحام وينظرون الى ساعاتهم بشكل متكرر، وبدأت اصوات الهورنات تثقب الآذان وتغطي على الزغردات الفيروزية.
وقبل الوصول الى الشورجة وبالقرب من جامع الخلفاء حدث ان تصادم التكسي الذي نحن به مع سيارة شيفروليت (ستيشن واكن) عسكرية تعود لضابط برتبة لواء كما يدعي سائقها وهو عسكري برتبة عريف. ونتيجة للأزدحام حاول العريف ان يفتح طريق له من امام التكسي الذي نحن به. وبما ان سيارة سائقنا كانت واقفة وليست متحركة، فإن الخطأ كان واضحاً من العريف سائق سيارة اللواء، علماً ان اللواء لم يكن في السيارة. نزل العريف من سيارته مكيلاً ابشع الشتائم وابذل الألفاظ على سائق التكسي المسكين الذي لم يستطع فتح فمه ولو بكلمة واحدة. اخيراً طالب لا بل امر العريف سائقنا بالذهاب الى مركز شرطة النهضة لتسجيل الحادث. وافق سائق التكسي على ذلك مرغماً. لم يتحدث او يتدخل اي من الركاب في الموضوع، اما لعدم اهتمامهم او لخوفهم من العريف. بعدها طلب وتوسل السائق من جميع الركاب كي نذهب معه كشهود ليثبت حقه وينقذ نفسه. اعتذر الجميع لوجود اسباب حقيقية لأنهم موظفين او اسباب وهمية كي يتملصوا من المسؤولية. أما انا فكنت اصغرهم سناً وكان عليّ مسؤولية فتح باب متجرنا في الشورجة ولديّ عذري المشروع. ولكن لم يكن كل ذلك ما افكر به. كان تفكيري كله ينصب على سائق التكسي المسكين وكيف سيثبت حقه امام سائق عسكري برتبة لواء. لم اجد الموضوع مطمأناً او متوازناً. ولما كنت “ممن يحملون السلم بالعرض” ويمشون به كما يقولون، قررت الذهاب معه كي امنحه فرصة متكافئة وامنح نفسي فرصة لأكون جزءاً من الصراع غير المتكافئ.
وصلنا الى مركز الشرطة وكان العريف قد سبقنا للحديث مع مأمور المركز. وبقينا انا والسائق في خارج الغرفة بالأنتظار. امرنا الشرطي كي ندخل على المفوض مأمور المركز. دخلنا وبادر المأمور بسؤالي بطريقة سلطوية عنيفة: من انت وماذا تعمل هنا؟ قلت انا راكب في السيارة وجئت كشاهد. ومن طلب شهادتك؟ قالها بعصبية شديدة اللهجة. قلت لا احد، تطوعت لأعتقادي بأنكم ستحتاجون الى شاهد عيان محايد. استمريت وبلغة اكاديمية وكأني اترافع نيابة عن موكلي: انك امام شخصين كل واحد سيروي قصته، ألا تريد ان تسمع رأي شاهد لا مصلحة لديه مع اي من الطرفين؟ طبعاً كل هذا وهو يرى اني شاب بهندام لائق واحمل معي كتب جامعية ويستطيع التدليل منها عن امور اخرى! كان وقع كلامي هذا قد أثار حفيظته، وقال: ” لا اريد شهادتك، إطلع قبل ان يخرجك ابو اسماعيل (الشرطي) بالجلاليق (بالركل بالأرجل على المؤخرة)”. وقبل ان اجيبه واورط نفسي اكثر، سحبني سائق التكسي من يدي وطلب مني الخروج متوسلاً، وقال لي: الله وياك عَمي، روح، الله يخليك لا احتاج الى شهادتك، واستخدم كلتا يديه لمسك كتفيّ كي يحول وجهتي، ودفعني صوب الباب كي اخرج، واستمر يؤشر لي بيديه روح روح (اذهب اذهب).
خرجت من مركز الشرطة مُهان ومكسور الجناح لا حول لي ولا قوة عارفاً ان ما سيحدث لسائق التكسي المسكين سيكون ظلما وامتهانا. خرجت وانا افكرهل سيبات في بيته ذلك المساء ام لا؟ هل ان سائق التكسي هو مالك للسيارة ام يعمل بالأجرة بها؟ واذا غرموه هل لديه المال كي يدفع؟ إلا ان اكثر ما ادهشني وافرحني بنفس الوقت هو شهامة وشجاعة واخلاق سائقنا الذي تغير همه فجأة وبلحظة، فبدلاً من ان ينقذ نفسه قانونياً ومالياً ويستفاد من افادتي، قرر ان يحافظ على كرامة شاب وطالب جامعي من الأهانة والأعتداء من قبل كامل القوات المسلحة العراقية، “الجيش الذي هو سور للوطن والشرطة التي هي في خدمة الشعب”. الف شكر وتحية خالصة لشهامة سائق التكسي الكادح ولحسن اخلاقه ولحمايتي من الحماة.
محمد حسين النجفي
www.mhalnajafi.org
#مواصلات #العراق
روابط اخرى:
مخالفة مرورية في شارع الرشيد
تدعوا هذه المقالة الى الحوار البناء المستمد من الدراسة المستفيضة للأديان والأفكار المعاصرة مع التركيز على الأسس المنهجية والنظرية بدلاً من الأعتماد على النقد اللاذع المبني على الممارسات الخاطئة او على التجارب الفاشلة او على التطبيق المغالط، كما يرد أحيانا بسذاجة في أحاديث أشخاص وكتاب يستخفون بالآخرين:
ألمقالـــــــــــــــــــــــــــــــــــة:
يكاد يخلو الخطاب السياسى لليسار العراقي والمثقفين العلمانين من اية اشارة او محاكات للفكر الديني المعاصر، على الرغم من وجود تراث هائل من الافكار والآراء ودراسات فلسفية دينية او المتأثرة في الدين. أضافة الى ذلك ظاهرة أنتشار التدين بشكل لم يسبق له مثيل في الوقت الحاضر، وفي الوقت ذاته نعيش ظاهرة انتشار التمسك الديني والطائفي، ليس متمثلاً في الأخوان والقاعدة وداعش والفكر والممارسة التكفيرية المصحوبة بالعنف فقط، بل كظاهرة فردية وعائلية وممارسة اجتماعية معتدلة وسلمية في معظم الأحيان. ويشمل ذلك جميع الأديان والطوائف. خذ على سبيل المثال تضاعف اعداد من يؤمون صلاة الجماعة في يوم الجمعة للمسلمين ويوم الأحد للمسيحين. اوالاعداد الغفيرية المليونية المشاركة في الشعائر الحسينية وزيارات الأئمة. او ازدياد اعداد من يحجون بيوت الله في مكة، والمدينة المنورة المقدستين. وكذلك احتلال الحركات الدينية مركز الصدارة في الصراع السياسي، واضمحلال الأحزاب السياسية ذات الأيدولوجية اليسارية والقومية والعلمانية. ومن جهة اخرى نرى ان الخطاب السياسى للحركات الدينية يتجنب ويتردد، لا بل ويتجاهل مناقشة وانتقاد الفكر الماركسي او الأشتراكي او النهج العلماني الغربي لأدارة الدولة. كذلك فإنهم يتجاهلون وجود حضارات و أفكار أخرى ويكتفون برفضها كلياً وقطعياً. إن الطرفين يتجاهلون بعضهما كأن كل منهما يعيش في كوكب مختلف. وحقيقة الأمر ان كل الأديان الأفكار تهتم بمضمونها بنفس الأمور الأجتماعية والأقتصادية والسياسية، إلا انها تختلف احياناً وتلتقي في بعضها. ان التفاعل بين الأفكار هو العمود الفقري لنشر الثقافة التعددية التي ندعوا اليها، حيث ان الثقافة الأحادية ماهي إلا تلقين يصل لحد غسيل ألادمغة.
ان هذا الزخم المكثف من الافكار والحركات الدينية فى زمننا هذا، ليس في العراق فحسب او في العالم الأسلامي، وانما في عموم العالم قاطبة. وهذا التيار القوي ليس ضمن الديانة الأسلامية فقط، وانما المسيحية واليهودية وحتى الأديان غير السماوية . وعلى الرغم من ذلك، نرى ان المفكرين التقدميين والسياسيين العلمانيين والمثقفين بشكل عام يسخرون ويسفهون او يقللون من اهمية ورواج ظاهرة انتشار الوعي والألتزام الديني. الا انه ليس من الضرورة ان تكون الافكار والمناهج الدينية المعتدلة تسير على خط متعارض او متصادم مع الافكار اليسارية والاشتراكية والعلمانية. وانه لربما ان الاثنين يلتقيان ويتعانقان في الكثير من الاهداف والغايات الأجتماعية العامة. وعليه لا بد من المحاكاة بين هذه التيارات من الناحية الفلسفية ثم في الغايات النهائية وبعد ذلك البرامج والوسائل العملية لتحقيقها.
ان موضوع هذة المقالة هو الترويج لهذا التفاعل وبشكل صحي وملائم لظروف صعبة وحساسة تمر بها العديد من الشعوب ومنها الشعب العراقي. ولما كنت عراقيا و مسلماً ذو نهج علماني، فسأحاول ان أتحدث ضمن الأطار الذي أنا أعرف به. وقبل أن نضع أسس لهذا التفاعل لابد لنا من الأستفادة من بعض التجارب التأريخية والعالمية السابقة في هذا المجال، ومن خلال الأمثلة التالية:
1- حينما بعث الأمام علي (رض) إبن عمه عبد الله بن العباس لمفاوضة الخوارج، قال له على شكل وصية وأمر بأن “لا تناقشهم بهذا” وأشار بيده الى القرآن الكريم.
2 – خلال زيارة الكاتب الأيطالي التقدمي المعروف البرتو مورافيا الى الصين الشعبية أبان الثورة الثقافية في الستينات من القرن الماضي، دخل في حوار مع مثقفي تلك الثورة. وقد لاحظ انه حينما يجادلهم بشئ، فإنهم يقلبون صفحات الكتاب الأحمر لماوتسي تونج ويجدون فيها جوابا للرد عليه.
3- عندما أصدر الكاتب البريطاني المنحدر من أصول أسلامية هندية سلمان رشدي كتابه سيئ الصيت “الآيات الشيطانية”، أحتجت عليه معظم الدول الأسلامية وعُلمائها. كذلك أحتج عليه وهذه ربما تكون مفارقة “أتحاد الكتاب السوفيت” ولم تحتج عليه أي منظمة او دولة غربية بل على العكس روجوا له بحماس.
وهناك عبر في هذه الأمثلة الثلاث لعلها تساعدنا على وضع أطار حضاري للتفاهم ما بين منهجين يبدوا أنهما على طرفي نقيض، ولكن من المؤكد وجود العديد من نقاط الألتقاء ليس في أمور جانبية فقط، وأنما في إمور أساسية وجوهرية.
فحينما طلب الأمام علي (رض) من ابن عمه ان لا يناقش الخوارج فى كتاب الله، كان ذلك لعلمه بأن الخوارج كانوا من الثقافة والألمام الواسع في الآيات واحكام الدين واحاديث الرسول(ص). ولأن كتاب الله حمال أوجه كما ابلغه . ومهما بلغت امكانية وايمان عبد الله بن عباس، فإنه سوف يخسر مقارعة من هذا النوع، لأنهم أكثر مهارة منه في المحاججة . وعلى ذلك فإن اراد المثقفون العلمانيون والتقدميون ان يحاوروا المفكرين الأسلاميين عليهم تثقيف انفسهم بالفلسفة الأسلامية واحكامها، قبل التجرأ على مناقشتها. وعلى نفس المنوال على المثقفين الأسلامين ان يفعلوا ذات الشئ.
اما بالنسبة الى البرتو مورافيا، فإنه خسر جولة الحوار في اليوم الأول مع المثقفين الصينيين. وحال ذهابه الى فندقه في المساء قرر دراسة الكتاب الأحمر ليس ليناقضه، وانما ليجد فيه نصوص يستند فيها لأرائه. وحينما ذهب في اليوم التالي في حوار مع الصينين فإنه كان يقول لهم افتحوا الصفحة الفلانية في الكتاب الأحمر وأقرأُ الفقرة التالية . وبذلك استطاع محاورتهم من كتابهم . وعليه حينما ينتقد سلوك من يدعون النهج الأسلامي المتشدد او الطائفي يجب أن يكون بناء على مخالفتهم للدين الذي يديون به لأنه منهجهم ومصدر تعاليمهم.
اما السبب في ان اتحاد الكتاب السوفييت في عام 1980 أو 1981 أحتج على كتاب سلمان رشدي وطالب بمنعه لأنه اعتبر ان الكتاب ذو نهج استفزازي لا يحترم فيه مشاعر الملايين من المؤمنين بالدين الأسلامي، وبالتالي فإنه لم يكن كتابا موضوعيا، حواريا أو نقديا. وإنما كان كتابا ساهم في في شهرة كاتبه وتكوين ثروته ولكنه خلق عداءاً وتنافراً بين الحضارات بدلاً من بناء الجسور وخلق الحوار البناء بينهما.
ان الدين الأسلامي هو دين شامل متكامل يضع أسس متينة وتفصيلية لما يلي :
1- علاقة الأنسان بخالقه وفق مناهج وطقوس التعبد .
2- الحياة بعد الممات والعقاب والثواب (المتافيزيقيا).
3- قواعد قانونية واجتماعية واقتصادية لنظام دولة ومجتمع وعائلة وافراد .
ان الفقرتين الاولى والثانية ترتبطان بعضهما ببعض وهما أساس الشريعة الأسلامية . وهذا يتعلق بالأيمان الشخصي والأرتباط الروحي ومدى تعلق الأنسان بخالقه ودرجة ايمانه بالحياة بعد الموت وبالجنة والنار . وهذا موجود بشكل وبآخر في كل الأديان السماوية وغير السماوية. وأحيانا كثيرة يكون جزءا من العادات والتقاليد التي يتربى عليها الفرد والمجتمع . فإذن تعتبر الفقرتين الأولى والثانية مسألة شخصية بحته ليس بالضرورة أن ترتبط بشكل مباشر بالفقرة الثالثة. وهي كيف يعيش الأنسان مع أخيه الأنسان على الأرض بأفضل ما يمكن. وهذا هو موضوع هذه المقالة والذي يتطلب المزيد من الدراسة والأستقصاء للتوصل الى معرفة مجالات اللقاء والوفاق بين عموم الأفكار السائدة في مرحلة من مراحل المجتمع المقصود. وعلى سبيل المثال لا الحصر هناك امور تهم الأسلاميين والعلمانيين على نفس الدرجة من الأهمية، وهي :
1- تباين الدخول بين أفراد المجتمع . هل يقبل الأسلام بالثراء الفاحش؟ وهل يمكن وجود فقراء في مجتمع اسلامي متكامل؟ وما هو دور الدولة الأسلامية في أعادة توزيع الثروة، وكيف؟
2- الحرية الشخصية ومنها حرية المرأة وصيانها من كل أذى . حقها في قرار الزواج والطلاق. تعدد الزوجات. حق المرأة في الثقافة والتعليم والعمل .
3- ادارة الدولة وأساليبها مثل الديمقراطية والشورى. حدود وصلاحيات الحاكم. ولمن تكون الولاية؟ للفقيه أو الحاكم ام للشعب؟
4- الدولة ودورها في الكيانات والنشاطات الأقتصادية، حدود تدخلها في الشؤون التجارية والمالية مثل النظام المصرفي والنظام الضريبي وادارة الثروة الوطنية، ودور القطاع العام والقطاع الخاص.
5- دور الدولة الأجتماعي من حيث الضمان الأجتماعي، والضمان الصحي ومجانية التعليم ونشر الوعي وحفظ القانون والعدالة الأجتماعية.
كذلك ان على المفكرين الأسلاميين الأطلاع والتعرف على الأفكار والآراء السياسية والأقتصادية والأجتماعية الرأسمالية منها والأشتراكية، للنهل منها والبحث فيها عما يتلائم للأستفادة منه في المجتمعات الأسلامية او ربما تقبله بعد تعديله جزئياً . وعليهم أيضاً حين المقارنة والمناقشة ان يناقشوا من خلال ادبيات تلك الفلسفة وليس من خلال مقالات صارمة ورادعة. وهنا اريد ان اعطي مثالين متناقضين صالحين للمقارنة، والعجيب الغريب انهما حدثا في نفس الفترة الزمنية وهي بداية الستينات من القرن المنصرم:
محمد حسين النجفي
كاليفورنيا، أيلول 2009
تنقيح واعادة نشر تشرين ثاني 2018
سألت عادل ما اذا اصبح بياع كتب؟ امتعظ من سؤالي وأجابني بنوع من الحدة: كلا، إنما انا انشر الثقافة التقدمية والفكر الثوري ……. عندها اعتذرت واستأذنت منه بالرحيل ولَم اشتري اَي كتاب، لا لأني كنت قد قرأت كل هذه الكتب وغيرها وأحرقناها في 8 شباط عام 1963، وإنما ليقيني الجازم من انه كان مراقب ومرصود من قبل المخابرات التي تعمل باستقلالية تامة عن اَي اتفاق سياسي أو جبهوي أو غير ذلك، لعلمهم وثقتهم بقصر أمده وانه سيأتي اليوم الذي يطلبون منهم اعتقالهم. ابتعدت عنه بأتجاه الباب الشرقي وانا متوجس من احدا سيتبعني. ظللت ليالي وأيام متخوفا من “طوارق الليل وزائري الفجر”. وظللت أفكر ما جدوى ما يقوم به عادل؟ وهل يستحق ذلك العمل المخاطر التي حتماً سيتعرض لها؟ ولماذا لم تتعلم الحركات السياسية من تجارب الماضي القاسية؟
من اهم ميزات التحصيل الجامعي إنها تجمع الطلبة من كل المحافظات في صف واحد. ومن بين هؤلاء ثلاثة طلاب احدهم من كربلاء والثاني من تكريت والثالث من بغداد. اجتمعوا في الجامعة المستنصرية لغرض التحصيل العلمي وفي صف واحد. طبعا من المؤكد ان الخلفية البيئية والتربية العائلية تؤثر على السلوك الفردي وتميزه نوعا ما. هؤلاء الثلاثة تفاعلت معهم أو تفاعلوا معي من خلال دراما فريدة من نوعها مررت بها شخصياً معهم واليكم القصة باختصار: Read More
طلب مني الأستاذ مهدي العاني أن أساعده بمراقبة الطلاب أتناء أداءهم امتحان فصلي لانه صف مدرج وواسع من الصعب السيطرة عليهم. وافقت على ذلك بترحاب. ذهبت معه إلى أحد صفوف السنة الأولى اقتصاد حيث يحاضر فيها الأستاذ مهدي مادة مبادئ الاقتصاد. وزع عليهم الأسئلة وبدأ الطلاب بالإجابة كالمعتاد. لفت نظري ان احد الطلاب في منتصف المدرج تقريبا يحاول الغِشّ من زميله المجاور. ذهبت اليه وبمنتهى الهدوء طلبت منه ان لا يفعل ذلك وان يركز نظره على ورقة إجابته فقط. طبعاً أستاذ مهدي لاحظ ذلك من موقعه في مقدمة الصف خلف منصة إلقاء المحاضرة. كان هذا الطالب مصمماً وبشكل واضح وعلني في سعيه بالغش عن طريق أخذ المعلومات من زميله المجاور. وبما أني لم أكن أستاذه المباشر قررت ان أنبهه مرة ثانية بدل من إخراجه من الصف.
مهدي العاني وعلى يمينه تقي العاني اثناء حضورهم نقاش |
الدكتور عبد الجبار عبد الله |
لم يفهم الطالب جدية الموضوع وتصور أن التحذير سيبقى تحذيراً. طبعاً في هذه المرحلة ركز عليه أستاذ مهدي، وحينما رَآه يغش للمرة الثالثة طلب منه ان يسلم ورقته الامتحانية ويترك القاعة. وحينما رفض الطالب ذلك، صاح عليه أستاذ مهدي بأعلى صوته بأن يترك الصف. نزل الطالب من المدرج وقبل ان يخرج قال بعصبية وأسلوب تهديدي:
“سأذهب إلى الاتحاد اللي يحميني منك واشتكي عليك”
وللأسف أجابه أستاذ مهدي بانفعال حاد:
“اطلع خره عليك وعلى الاتحاد”
قنبلة رماها الطالب المتهور، رد عليه الأستاذ بقنبلة مدوية اتعس منها. كلمات خرجت من فمه دون تفكير بالعواقب الوخيمة المترتبة على مَسبت “الاتحاد الوطني لطلبة العراق” وهو المنظمة الطلابية الرسمية وجناح من الأجنحة المهمة لحزب البعث العربي الاشتراكي، الحزب الحاكم الذي يسيطر على السلطة بيد من حديد. كان وقع هاتين القنبلتين في عام 1977 على القاعة التي تحوي على حوالي ثمانين طالب وطالبة معظمهم على الأغلب منتسبين للاتحاد ولحزب البعث، همهمة مدوية أعقبها سكون مخيف وتوجس مذهل.
نزلت من اعلى المدرج إلى أسفله حيث منصة ألإلقاء التي يحتمي خلفها الأستاذ مهدي. قلت له: ماذا فعلت؟ قال: “أكلت خره”. قلت: ماذا ستفعل؟ قال: لا ادري. فكرت سريعاً، وقلت له: حسناً، ليس أمامك سوى إنكار ما قلت وسوف اشهد بذلك. قال: ولكن سمعني كل الطلاب. أجبته بقوليً المشهور: “كلهم بكف وانا بكف”. قال: كيف؟ قلت: لا عليك. كل ما أريدك أن تقوله انك قلت خره عليك وعلى أليحميك. اخبرته من اني مضطر للخروج فوراً كي ارتب الأمور قبل فوات الأوان. خرجت من الصف ابحث عن زميل وصديق لديه نفوذ لدى الاتحاد والحزب، الذي نعتمد عليه في الشدائد والملمات. وحينما عثرت عليه أخبرته بمنتهى الصراحة في الموضوع، وقلت له اريد مساعدتك كي ننقذ أستاذ مهدي. قال: كيف؟ قلت: دعني أتصرف معتمداً على أساندك لي، طبعاً بيني وبين الزميل صداقة متينة عابرة للالتزامات السياسية. وبينما كنا نفكر كيف سنعالج الموضوع، بدأ طلبة الأستاذ مهدي يخرجون من الصف متجمعين حول رئيس الاتحاد عبد الكريم، وهو احد طلابي في السنة السابقة ومن الطلاب المعقولين جداً في تصرفاتهم. كان الطلاب متذمرين جداً من أستاذ مهدي لأنه أهان اتحادهم.
طلبت من عبد الكريم رئيس الاتحاد أن أكلمه، الذي وافق احتراماً وخجلاً. جلسنا أنا وهو وصديق الأسناد في غرفة الأساتذة. أبلغته من أني كنت مع أستاذ مهدي في القاعة والموضوع ليس كما صوره له الطلاب. أجابني: أستاذ كل طلاب الصف يقولون إن الأستاذ سب الاتحاد. وبعد أخذ ورد أقنعته ان نستدعي الطلاب انفراداً ونستفسر منهم ما حدث. بدأ الطلاب يدخلون تباعاً الواحد بعد الآخر. كنت اركز في أسئلتي هل لاحظوا كم مرة حذرت الطالب؟ قالوا نعم، وكيف أنه تحدي ألأستاذ وهدده؟ قالوا نعم. إلا أني حينما أقول أني سمعت أستاذ مهدي يقول “خره عليك وعلى الذي يحميك” يقولون كلا قال: ” خره عليك وعلى الاتحاد”. بعد ان اكتفينا بالشهود سألت عبد الكريم: ما الذي تريد ان تفعله؟ قال: أنا رئيس الاتحاد ولايمكن أن أتسامح مع شخص يسب الاتحاد مهما كان ولا بد لي من ان ارفع تقرير بذلك. قلت له كريم كل الحق معك، وأنا أرى من الضروري أن يعتذر أستاذ مهدي في نفس الصف وبحضورك أنت شخصياً. أجابني ان هذا لا يكفي وان الموضوع قد خرج من يديه وان كل الطلاب سوف يكتبون التقاريرعما حدث. قلت بصراحة كريم ان عدد الأساتذة العراقيين هو اقل من الأساتذة المصريين. وان لدينا مشكلة، حيث ان الأساتذة المصريين بالرغْم من جدارتهم العلمية إلا إن الامتحانات منفلتة في صفوفهم. ونحن الأساتذة العراقيين لا نسمح بالانفلات والغش. وحينما نمسك احدهم متلبسا يهددنا بالاتحاد. ودعني أسألك هل ان الاتحاد فعلا سوف يقف إلى جانب الطالب الغشاش ضد الأستاذ الذي يحترم مهنته؟ أني أرى انه بعد ان يعتذر أستاذ مهدي تتحدث أنت بعده وتبلغ الطلبة من ان للاستاذ الحق في محاسبة الطالب الذي يسعى للنجاح عن طريق الغِشّ وانه لا يمكن للاتحاد أن يسند هذا النوع من الطلاب.
وعلى الرغم من هدوء وعدم كلام صديق الأسناد كثيرا إلا أن وجوده معي قد منحني زخم وثقة في الكلام. تأمل عبد الكريم قليلا ووافق على هذا الحل. تنفست الصعداء وذهبت لغرفة اساتذة قسم الاقتصاد وأبلغت أستاذ مهدي بالإنجاز العظيم. كان رد فعله غريبا من انه لا يريد الاعتذار وانه على حق والطالب “داس في بطنه”. وعلى الرغم من تقديري واعتزازي بموقفه الشجاع إلا اني توسلت اليه واقنعته ان يتقبل الحل وإلا ستكون النتائج ربما وخيمة وغير محمودة. اتفقنا على يوم الاعتذار بحضور رئيس الاتحاد. جاءني بعد ذلك عبد الكريم وقال لي ان أستاذ مهدي لم يعتذر بشكل واضح. أجبته من أني متيقِّن من انه ندم على ما قال ولكنك لا ترد أن تذله أمام طلبته اكثر من ذلك. طبعاً كنا جمعياً نتوجس الخوف لأيام واسابيع من ان هذا الحدث سوف يأخذ مجرى آخر.
مرت الأعوام وسألت عنه الزميل حمزة الشمخي فقال لي للأسف الشديد ان الدكتور مهدي صالح العاني الذي اكمل الدكتوراه في الاقتصاد من بولونيا وعاد للوطن لخدمته، قد اغتيل في شهر أيار من عام 2007 وكان من ضحايا العنف الطائفي اللعين الذي شهده العراق بعد عام 2003، والذي شهدته الجامعة ألمستنصريه بشكل مكثف في الأعوام 2007/2005. كان الأستاذ مهدي صالح العاني من الدفعة الأولى لخرجي ماجستير اقتصاد، جامعة بغداد عام 1975. تعين عضواً في الهيئة التدريسية مع مجموعة شابة من دفعته هم فوزي العاني وأوس وتقي العاني وفليح الغري. كانوا مجموعة من المخلصين في عملهم ارادوا خدمة وطنهم، ولكن بدلاً من ان يحترموا ويقيموا، دفعوا ثمناً غالياً وصل حد التضحية القسوى. وللأسف الشديد فإن العلماء والأطباء والمهندسين والمثقفين والأقتصاديين والتكنوقراط دائماً يستهدفون بالفصل او ألاعتقال أو القتل كلما حدث تغيير سياسي في العراق. ومن سلم منهم او افرج عنه اضطر الى مغادرة العراق خوفاً من العقاب الذي لا نهاية له. ولنا في قصة عالم العلماء الفيزيائي ورئيس جامعة بغداد المحترم والمقدر محليا ودوليا البروفيسور عبد الجبار عبد الله، وما تعرض له من سجن وإهانة وتعذيب على ايدي حركة 8 شباط 1963 خير مثال ونموذج لما يمكن ان يحصل لكل عالم او طبيب او مهندس يعود لوطنه كي يخدمه. ولهذا السبب تجد افضل الكفاءات العلمية العراقية موزعة على أنحاء دول العالم في إنكلترا وأمريكا وأوربا واليمن وليبيا والجزائر والأردن وكافة الدول الأخرى. وفي اعتقادي ان اضطهاد الكفاءات هو من بين الأسباب الرئيسة لتدهورالحضارة والوصول إلى ما نحن عليه اليوم.
محمد حسين النجفي
www.mhalnajafi.org
#الجامعة_المستنصرية #الدكتور_مهدي_صالح_العاني #عبد_الجبار_عبد_الله #التعليم_العالي #العراق #محمد_حسين_النجفي
روابط ذات علاقة:
خلفية الموضوع:
هناك ثلاث مؤسسات او خطوط عمل رئيسة لمقومات فكر ونشاط وممارسة المسلمين الشيعة في العراق. وعلى الرغم من تداخل هذه المؤسسات مع بعضها البعض في النشاط او الدور المؤثر على تابعيها، إلا ان هناك مايمز بعضها عن بعض من ناحية العلوم الفقهية والأمكانات العلمية وصلاحيات الفتوى وطبيعة الممارسة وآفاقها:
وهي اعلى سلطة تفسيرية وتشريعية وتوجيهية. وهم من اعلم العلماء في شوؤن الدين في تلك الحقبة والمكان. وعادة هم ممن يكونون مرجعاً للفتوى والتوجيه. هم الأساتذة في الحوزة العلمية وممن يركزون نشاطهم على البحث والتفسير وابداء الرأي في الأمور الحياتية المستجدة. وهذه المجموعة من الأفاضل يكونون عادة بمنئ من الأجتماع بالناس او الخطابة او السياسة ومهاتراتها. ويديرون مهامهم من مركز الحوزة او بيوتهم ومكاتب عملهم المتواضعة عادة. ويلتقون بالعامة مباشرة بأقتضاب او من خلال وكلائهم المنتشرين في ارجاء المعمورة. ويحصل المرجع على المال من جمع التبرعات واستحصال الخمس والزكات من اتباعهم ومقلديهم. وتدير وتمول الحوزة المدارس والجامعات الدينية وتنفق على مراكز المساعدات الأجتماعية التابعة لها.
يتكون المنبر الحسيني من عاملين اساسين هما الخطيب او القارئ وتوفر المكان الذي عادة يكون مسجد او حسينية واحياناً في بيوت من هم قائمين بهذا النشاط. والخطباء هم ليسوا علماء وانما هم مجموعة من القراء الذين يأمون المساجد والحسينيات ولديهم حد معين من التحصيل العلمي سواء في الحوزة او خارجها. وهناك منهم من لم ينتسب لأي مؤسسة دينية وانما اعتمد على الثقافة الذاتية والأهتمام الخاص بالدين. ولذلك ترى ان العديد منهم هم في الأصل اطباء اومهندسين او مدرسين. وللمنبر الحسيني تقاليده واسلوبه في شرح الآيات القرآنية وربطها في الأمور الحياتية المعاصرة، ثم توثيق ذلك بالسنة النبوية وسيرة الأئمة الأثني عشر والصحابة الأجلال (رض) مع خصوصية وذكر متواصل لواقعة الطف ومصاب الحسين وعائلته واصحابه(ع) في كل خطبة. وعادة ما يبدأ القارئ كلمته بالسلام على الأمام الحسين (ع) والمقولة “فياليتنا كنا معكم سادتي فنفوز فوزاً عظيما”، وهم عادة ما يأمون صلاة الجماعة ويلقون خطبتهم بعد الصلاة. والخطيب المهني عادة يجلس على المنبر الحسيني اما الخطيب غير المهني وغير الخريج من المدارس الدينية فإنه يلقي كلمته واقفاً. ومعظم الخطباء المهنيين يرتدون الملابس التقليدية والعمامة السوداء ان كان سيدا والعمامة البيضاء ان لم يكن سيدا ويسمى بالشيخ، بينما الخطيب الغير متفرغ يلبس الملابس المدنية (أفندي). وعادة يُدفع راتب او مكافأة للقارئ المعمم، بينما القارئ الأفندي يكون عمله طوعياً معظم الأحيان. ينشط المنبر الحسيني في رمضان، وفي شهري محرم وصفر حيث تمر ذكرى واقعة كربلاء في العاشر من محرم واربعينيتها في العشربن من صفر.
وهي مؤسسات مجتمع مدني محلي في كل مدينة سواء كانت كبيرة ام صغيرة. يقود المواكب العريقة كبار واشراف القوم في كل محلة اوطرف ممن يوثق بهم وممن لديهم الأمكانات المالية لتمويل المواكب التي تكون مُكْلفة في المواسم. والقائمين بأدارة المواكب ليسوا بالضرورة لديهم امكانيات او ثقافة دينية، وانما لديهم حب آل البيت (رض) والرغبة الطوعية في احياء الشعائر الحسينية. والمواكب الحسينية نشاطها ليس دائمياً، وانما موسمياً وبالخصوص في شهر محرم الحرام حيث ذكرى واقعة الطف في اليوم العاشر وشهر صفر حيث تمر في العشرين منه ذكرى اربعينية استشهاد الحسين واهله واصحابه (رض) وشهر رمضان الكريم وتمر فيه ذكرى جرح واستشهاد الأمام علي(رض). واهم ما يحرك المواكب هو القارئ (اوالرادود) الذي يجب ان يمتاز بقدرة ألقائية وفصاحة لسان وامكانية على الأثارة والحماس. والرادود يختلف عن خطيب المنبر. فالرادود ليس بالضرورة مؤهل دينيا وانما يمتاز بقدرة صوتية عالية ومعرفة بالمقامات التي تستخدم في القاء القصائد. والمكون الآخر المهم هو الشاعر الحسيني الذي يُنضم قصائد من وحي تراث واقعة كربلاء والقدرة على تصويرها بشكلها المأساوي. وكذلك فإن معظم الشعراء الحسينيون ليسوا بالضرورة من خريجي الدراسات الدينية. وبالتالي ممكن ان يكونوا من الشعراء الذين يتنوع نشاطهم الأدبي. وكما ذكرت فإن المواكب بأنواعها وممارساتها اجتماعية تقليدية اكثر من كونها مؤسسات دينية. وبالتالي فإن هناك شعائر وممارسات لا تحسب على المذهب او الدين وقسم منها غير مقبول مثل التطبير وضرب الزنجيل والزحف وغير ذلك من الممارسات الدخيلة. ان قسم من هذه المواكب تتكون بشكل مؤقت و تستحدث لها مراكز تجمع مؤقتة وهو ما يسمى بـ التكيات. واحياناً يديرها شباب دون النضوج. ويمارسون الشعائر من خلال الأستفادة من بعض الأماكن او الأراضي الشاغرة او الخانات او البيوت او المحلات التجارية.
وموضوعنا هنا ليس التحدث عن المرجعية الموقرة وانما عن المنبر الحسيني والمواكب الحسينية ودورهما في المجتمع العراقي. وجدير بالذكر هنا انه ليس بالضرورة ان كل اوقسم مما يقوله الخطيب او الرادود يمثل المرجعية الشيعية. لا بل في معظم الأحيان فإن الخطيب والرادود يندفعون بالتيار الحماسي ويخرجون عن الخط العام المعتدل الذي ترسمه المرجعية. وليس بعيداً عن ذهن الجميع من ان في كل طائفة مجموعة تبتعد عن الخط المعتدل العام وتضع كل المكون في موقف لا يحسد عليه. وهنا لا نريد ان نقيم هذه المراسيم وما لها وما عليها، وانما نريد ان نقيم دورها في الأحداث السياسية والهموم والآمال الوطنية التي مر بها الشعب العراقي في العصر الحديث من خلال ما شاهدته وسمعته وما شاركت به. ولعلي استطيع ان ابرز الدور الأيجابي الفعال لهذا النشاط الذي يزداد اتساعاً يوماً بعد آخر. ولكن علينا ان لا ننكر ان هناك الكثير من الممارسات التي لا تمثل مسيرة الحسين (ع)، لا بل تعطي انعكاساً سلبياً وحجج لمنطلقات طائفية.
كانت بداية تعرفي على النشاط الحسيني هي ذهابي مع صديق العمر “حكمت الدقاق” الى حسينية المرحوم “عبد الرسول علي” في الكرادة الشرقية، وهو من اعيان بغداد ورئيس غرفة تجارتها المنتخب في حينه. بدأنا نذهب من العام 1955 ونحن اطفال نستمع الى الشيخ الوائلي في مجالس محرم ورمضان. وعلى الرغم من انه كان شاباً وفي بداياته، إلا ان طريقته ومنهجيته المعتدلة والمبتعدة عن الغلو والمبالغة قد اعجبت الكثير من الشيب والشباب. وعلى الرغم من صغرنا كنا نفهم ما يقول وكنا نواضب على الحضور كل يوم في مواسم محرم الحرام ورمضان. وكان منبر الشيخ الوائلي مدرسة دينية واخلاقية للشباب اكثر من كونها للشيوخ على مر السنين.
اما مساهمتي في نشاط المواكب والشعائر الحسينية فكانت في مدينة الكوفة، حيث يقطن كل اقربائي من جهة والدتي. وكان شباب العائلة في ذلك الوقت اعضاء نشطين في موكب محلة الجديدة ( وتلفظ الجيديدة). ومنهم ابناء خالات امي ناجي عبد الحسين و كان من اكثرهم نشاطاً وهو عضو في مجلس ادارة الموكب ومحمد جواد واخوته وهاب، وستار وسالم وغانم وكانوا جميعاً من الذين يعزفون البوق (البرزان) الذي يستخدم في مراسيم التطبير. كانوا جميعاً اكبر مني سناً عدا سالم وغانم، ولكني كنت احضى بأهتمامهم جميعاً بأعتباري “بغدادي” وضيف عليهم. كانت زيارتي للكوفة تحدث اثناء العطلة الصيفية حيث كان يصادف محرم آن ذاك اثنائها.
عام 1957 كان العام الذي سافرت به مع اقربائي من الكوفة الى كربلاء المقدسة للمشاركة في مراسيم زيارة الأربعين ضمن موكب الجديدة، وهو موكب لطمي وليس تطبيري. طبعاً كان يخيم على الردات الحسينية احداث العدوان الثلاثي على مصر اثر تأميم قناة السويس عام 1956. ولا زلت اتذكر ردات موكبنا السياسية ذات الصبغة الوطنية والقومية:
هاي الشباب تريد قايد به عز ومرجلة، يا هلا
إجنود كل إحنا إله، يا هلا
وبجمال إنمثله، يا هلا
حيدر، علي
اضغط على الرابط ادناه الى
موكب شباب طرف الجديدة في الكوفة
ولا بد من الذكر هنا ان العلاقة بين العراق ومصر لم تكن على مايرام. وكان هناك منافسة شرسة بين نوري السعيد وجمال عبد الناصر لزعامة الأمة العربية. وعلى الرغم من ذلك لم يتعرض الموكب لأية مضايقات من السلطات الأمنية السعيدية.
وفي صيف عام 1958 حدثت ثورة تموز بقيادة الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم. ومن جملة اجراءات الثورة هي منع التطبير وتشجيع وحماية المواكب الحسينية اللطمية، بدلالة ان اذاعة بغداد كانت تنقل مباشرة قراءة المقتل من الصحن الحسيني الذي يقرأه المرحوم الشيخ عبد الزهرة الكعبي في صباح العاشر من محرم. ذهبت في ذلك العام ايضاً الى الكوفة، وكان ان اختارني موكب عزاء الجديدة لأمثل شبيه القاسم وعلي الأكبر. وكان هذا شرفاً كبيراً لا يحضى به كل شخص. وطبيعي البسوني الملابس الجميلة واركبوني الحصان وتقبلت النذور وشاركت كرمز في مقدمة موكب الجديدة وصولاً الى مسجد الكوفة حيث يتم قراءة القصائد الحسينية مع المشاركة اللطمية. وكانت معظم الردات اشادة في الزعيم والثورة:
أضغط على الرابط ادناه لتستمع الى
واقعة الطف بصوت الشيخ عبد الزهرة الكعبي
لم يستمر الوضع مسالماً، ففي نهاية عام 1958 وبداية عام 1959 ادى الخلاف بين الزعيم عبد الكريم قاسم والعقيدعبد السلام عارف الى انقسام الشارع العراقي الى معسكرين رئيسيين. الغالبية مؤيد للزعيم ومؤيدة لموقفه في دعوته الى اتحاد فدرالي مع الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا). واقلية ذات اندفاع قومي مؤيد لعبد السلام عارف ودعوته الى الوحدة الفورية دون قيد او شرط او مفاوضات مع مصر وسوريا تحت قيادة الرئيس جمال عبد الناصر. ليلة عاشوراء عام ١٩٥٩ كنت في النجف الأشرف وفي مدخل السوق الكبير اتذكر ردات احد المواكب وعلى الأغلب كان موكب “البراق” الذي كان ذو نزعة يسارية، وذلك لأرتباطه بالرادود عبد الرضا والشاعر الحسيني عبد الحسين ابو شبع. كانت الردة كما يلي:
اتحاد فيدرالي وصداقة سوفيتية
وفلتحيا الصين الشعبية
حيدر، علي
ثم جاءت احداث عام 1963 وتم اعدام الزعيم وقادة ثورة تموز وقتل واعتقال الالاف من الوطنيين واليساريين وكان من بين المعتقليين العديد من شعراء القصائد الحسينية ورواديدها ومنهم الشاعر عبد الحسين ابو شبع واخيه شهيد ابو شبع وغيرهم كثيرون. وبالتالي كان موسم عام 1963 عام تكميم الأفواه وهو العام الوحيد الذي لم استطع المشاركة فيه من قريب اوبعيد. بعد احداث 18 تشرين الأول عام 1963 حيث سيطر عبد السلام عارف على السلطة وقام بحل الحرس اللاقومي الذي عاث في الأرض فساداً استطاع الشارع العراقي ان يعلن عن فرحته وفي نفس الوقت لعنته لتلك الأشهر التسع المقيته ورموزها ومنهم ميشيل عفلق القائد المؤسس لحزب البعث ومذيع مكروه ذو نفس لئيم هو فاروق ويسمى فاروق الأعور صاحب مقولة “اخرسي ياموسكو”. ففي زيارة الأربعين في عام 1964 نزل موكب طرف العباسية الكربلائي بهذه الردات:
فاروق الأعور سقط وسافر
وميشيل عفلق النذل شاجخيله خنجر
عام 1965 كان عبد السلام عارف رئيساً للجمهورية وكانت طبيعة السلطة ذات توجه قومي وطائفي معادي للشيعة. وكان ان حدث انقلاب على أحمد بن بلا رئيس الجمهورية الجزائرية قام به رئيس اركان الجيش او وزير الدفاع هواري بومدين. وكانت زيارة الأربعين في كربلاء المقدسة، وهذه احدى الردات النارية:
يا الحبل جرار وين ابن بيلا صار
حيدر، علي
وكان عبد السلام عارف قد منح نفسه رتبة مشير، وكانت الردات تحاكي رجال الأمن المنتشرين الذي يأخذون صور ويسجلون الردات الحسينية وكتابة التقارير عن الناشطين. ولم يذكر ان سلطة عبد السلام قامت بحملة اعتقالات على اثرها، علما ان معظم الشعارات لذلك العام كانت معادية للسلطة التي اعتبرت طائفية.
سجل يا أمن واخبر مُشيرك لو ثار الشعب شنهو مصيرك
حيدر، علي
ولم ينسى اهل السماوة الغيارى ضحايا قطار الموت في عام 1963 ويعلمون ان معتقلي نقرة السلمان الصحراوية الذين يمرون عبر مدينتهم قبل الوصول اليها، ما هم إلا مناضلين في سبيل الوطن. وذلك نزوا بهذه الردات في اربعينة الحسين في كربلاء عام 1965:
كم شاب نايم بالسجن ومن جرحه اليون
يانكرة السلمان للظلم عنوان
ليش طلع صاحبنا قاسي وغدار
من السماوة انصار
حيدر، علي
وللشيخ احمد الوائلي عميد المنبر الحسيني دور بارز في الدعوة لتهذيب ممارسة الشعائر الحسينية الغير مناسبة مثل التطبير وضرب الزناجيل وغيرها. وبما انه من اتباع منهج آل البيت والأمام علي (عليهم السلام) فإن دعوته للأصلاح والعدالة الأجتماعية ومحاربة التباين الطبقي والفروقات بين الأغنياء والفقراء، كانت جزءاً مهماً في رسالته من على منبره. وهذا جزء مما قاله في قصيدته الرائعة (بغداد) في عهد عبد السلام عارف في مهرجان الأدباء العرب عام 1965 :
بـغداد يـومك لا يزال كأمسه صورٌ على طرفي نقيض تجمع
يـطغى الـنعيم بجانب وبجانب يـطغى الـشقا فمرفّه ومضيع
في القصراغنية على شفةِ الهوى والـكوخ دمعٌ في المحاجر يلذع
ومن الطوى جنب البيادر صرّع وبـجنب زق ابي نؤاس صرّع
ويـد تـكبّل وهـي مما يُفتدى ويـدٌ تـقبّل وهـي مما يُقطع
وبـراءة بـيد الـطغاة مـهانة ودنـاءة بـيد الـمبرِّر تـصنع
ويـصان ذاك لأنـه من معشر ويـضام ذاك لأنّـه لا يـركع
كـبرت مـفارقة يـمثّل دورُه بـاسم الـعروبة والعروبةُ ارفع
فـتبيّني هذي المهازل واحذرى مـن مـثلها فوراء ذلك إصبع
شُـدّي وهزي الليل في جبروته وبـعهدتي انَّ الـكواكب تطلع
كذلك جابه الشيخ الوائلي الطائفية حينما رأى بداية غرسها ونشأتها في نفس العهد العارفي فكان منبره منبراً توحيدياً ارشادياً وهذه مقاطع من قصيدته رسالة الشعر:
ومـشت تـصنّفنا يـدٌ مـسمومةٌ مـتـسنّنٌ هــذا وذا مـتـشيّعُ
يـا قـاصدي قـتل الأُخوّة غِيلةً لـمّوا الـشباك فـطيرنا لا يُخدعُ
غـرس الإخاء كـتابنا ونـبيّنا فـامتدّ واشـتبكت عـليه الأذرعُ
أضغط على الرابط ادناه كي تستمع للـ
الشيخ الوائلي في رائعته “رسالة الشعر”
كما ان الشيخ الوائلي عُرف بأمتعاضه الشديد من تشويه احداث واقعة الطف والمبالغة والغلو في المبالغة التي تفقد القضية مصداقيتها. ويستنكر الشعائر والممارسات الدخيلة ايام عاشواء كالتطبير بالقامات، والسير حفات القدين على جمر النار والزحف والتمرغل في الطين وما الى ذلك. وكان لدعوته هذه الكثير من الأنصار والمؤيدين، إلا الجهلة والغلاة شنوا حملة غير مقدسة عليه وصلت لحد السباب والشتائم وحاربوه لذلك وكأنه من معادي الحسين (ع).
بعد عام ١٩٦٨:
وبعد عام 1968 حكم حزب البعث العراق بقيادة أحمد حسن البكر وصدام حسين. وكانت سياسة سلطة البعث ان تسيطر وتسير كافة المنظمات الأجتماعية سواء منها الرياضية او الفنية او الأدبية. وقد نجحت بذلك بأستخدام اساليب الترهيب والترغيب. إلا انها واجهة صعوبة بالغة في سيطرتها على المواكب الحسينية، وخاصة مواكب النجف الأشرف العريقة وذلك لأنها مؤسسات شعبية يديرها اشراف الأحياء الرئيسة في النجف الأشرف وهي احياء (البراق، المشراق، الحويش والعمارة).
وحينما اندلعت حرب رمضان عام 1973 بين مصر واسرائيل تحولت الشعائر الحسينية في ذكرى جرح ووفاة الأمام علي (رض) الى شعائر وقصائد تبارك معركة التحرير وعبور قناة السويس وتدعوا الى مباركة مشاركة الجيش العراقي الذي دخل الحرب لأسناد الجيش السوري على استعجال. وفي ذلك العام كنت في السنة الأولى لدراسة ماجستير ادارة اعمال وكنت دائما مع الزميل والصديق محمد العزاوي وحينما ابلغته ان من عادتي ان اذهب لزيارة النجف كل عام بهذه المناسبة ابدى رغبته وكذلك والدته رحمة الله عليها بالذهاب معي ومع جدتي حيث كانت والدتي قد توفيت مؤخراً. وقد انبهر بقوة النزعة الوطنية والشعور القومي من خلال ما سمعه من قصائد، وكان منها قصيدة عبد الحسين ابو شبع التي القاها الرادود عبد الرضا مخاطبا فيها الأمام علي(رض)والتي لازلت اذكر بعض مقاطعها:
ولون ما غدر الضماير والأطماع
لن قضيت عليهم بيومه
والمقصود به حرب خيبر وكيف ان الأمام علي (رض) قاتل فرسان اليهود وصرعهم، بينما كان المنافقين من قريش يتآمرون على النبي (ص) مع اليهود الذين ارادوا اذلال المسلمين. ثم ختم الرادود عبد الرضا المجلس بالدعاء لنصرة جيوش مصر وسوريا والوطن العربي على اسرائيل.
انتفاضة خان النص 1977:
ولما لم تستطع سلطة البعث من السيطرة على المواكب الحسينية والشعراء الحسينيون، قررت الغاء او تقليص نشاط هذه المواكب. ففي بداية شباط عام 1977 استقدم محافظ النجف جاسم محمد الركابي رؤساء المواكب الرئيسة في النجف المذكورة سلفاً، وطلب منهم عدم اقامة شعائر المشي على الأقدام من النجف الأشرف الى كربلاء المقدسة في تلك السنة. وقال لهم انها اوامر من بغداد. حاول رؤساء المواكب افهامه من ان هذا النشاط غير سياسي وان الناس تنذر للعيشة او التخلص من مرض اوضائقة او تمني النجاح الى آخره، وبالتالي لا يستطيعون عدم الأيفاء بالنذر. إلا انه كان جازماً وحازماً ومهدداً. فقالوا له انهم لا يملكون سلطة كي يمنعوا الناس من المشي الى كربلاء. وفي يوم 4 شباط تجمع الناس من كل احياء مدينة النجف في صحن الأمام علي (ع) وقرروا الزحف الى كربلاء مرددين:
أهل النجف يا امجاد راياتكم رفعوها وإسلامنا ما ننساه أيسوا يابعثية
وخاض الزاحفون يوم 6 شباط معارك ومشادات مع السلطات الأمنية والحزبية لحين وصولهم الى خان الربع. وكانت احدى رداتهم تقول:
ياصدام كُل للبكر ذِكر حسين منعوفة
اضغط على الرابط ادناه
وفي يوم 7 شباط ساروا الى خان النص بعد مصادمات دموية مع السلطة التي بدأت التخطيط لمواجة حاسمة امام مداخل مدينة كربلاء جهة النجف حيث اصطفت المدرعات والدبابات والهلكوبترات. وهذا ما حصل فعلاً يوم 8 شباط عام 1977 لتصل الى مواجهة دموية واعتقالات جماعية. هرب البعض من خلال البساتين ووصل البعض الى الضريحين. وكانت مجزرة اخرى ذكرتنا بمجزرة شباط عام 1963.
في يوم 24 شباط 1977 اذيع بيان اعدام تسعة اشخاص بضمنهم مراهق لم يبلغ الثامنة عشر وشيخ عمره فوق السن القانونية للأعدام. شكلت السلطة محكمة صورية يرأسها الدكتور عزت مصطفى الذي رفض التوقيع على القرار وعضوية الوزير فليح حسن الذي رفض توقيع القرار ايضاً وعضوية الوزير حسن العامري الذي وقع القرار. وملفت للنظر ان العضوين اللذين رفضا التوقيع على قرار الأعدام هم من اهل السنة والوزير الذي وقع القرار كان حسن العامري من اهل الشيعة! ففي خلال عشرة ايام تم التحقيق والمحاكمة والحكم والأستأناف وتنفيذ الحكم. وقد تم عزل الدكتور عزت مصطفى وفليح حسن من كافة مناصبهم السياسية والحزبية والحكومية. ترك هذا الحدث شرخاً كبيراً وكان من الأحداث التي ساهمت في تأجيج الطائفية، حيث كان العديد من المعتقلين من المنتمين لحزب البعث إلا انهم آثروا المشاركة في الشعائر الحسينية التي تربوا عليها.
وفي عام 1978 سمحت سلطة البعث ان يشارك موكب النجف الأشرف في الزيارة الأربعينية لكربلاء. وكان ان اختيار الموكب الشاعر المناضل وغير المهادن، ليكتب قصيدة حسينة تجسد ثورة الحسين وتحاكي الأحداث الدوموية لأنتفاضة خان النص قبل ذلك بعام. وهذا الشاعر هو “عبد الحسين ابو شبع” وقصيدته على لسان زينب (ع) والتي القاها الرادود وطن النجفي:
رحنه بضعينه هاليوم اجينه
من كربله رحنه ايتام للكوفه والكتر الشام
ومن يدري بينه هاليوم إجينه
وفي عام 1979 وقبيل زيارة الأربعين استدعت قوى الأمن في النجف بطلب الشاعر ابو شبع للحضور للتعرف على مستهلا ت زيارة الأربعين. ما كان له إلا ان يمثل للطلب وفي مكاتب الأمن ضيوفوا الشاعر بأستكان (قدح) شاي، بعد ذلك شكروه وصرفوه دون السؤأل عن الردات. اشتغرب الشاعر من عدم التحقيق معه ومن مجاملتهم غير المألوفة، وحس من ان هناك “إنه”، وابلغ ذلك بعض اصدقائه تلك الشكوك. وما ان نام تلك الليلة، حتى استيقض احد ابنائه ليرى والده يرتجف في الفراش، ووافته المنة تلك الليلة في المستشفى حيث اخبرهم الطبيب ان سبب الوفاة مات مسموماً.
واليوم الذي يعتبر العديد من الناس مغالطة ان الحكم بيد الشيعة، نرى ان المواكب الحسينية وخاصة في الزيارات الأربعينية المليونية كانت اول من رفعت صوتها وهتفت عالياً منددةً بالفساد الذي استشرى والطائفية التي استفحلت. نعم الجمهور الحسيني لا يستطيع ان يستملكه احد ولا يستطيع المدعين من سياسيي الأحزاب الدينية ان يستخدموا هذه المواكب كما تم لهم ذلك في السنوات الأولى بعد سقوط الصنم عام 2003. وهذ هي البعض من الردات الحسينية التي رددها موكب عزاء جمهور طرف العباسية الكربلائي المعروف بنهجه الوطني ودفاعه عن الكادحين والمسحوقين والفقراء، مستمدين العزيمة والقوة من الذي ارخص دمه لقضية المظلومين، الأمام الحسين بن علي (ع). وهذه بعض رداتهم عام 2013 في شهر محرم الحرام:
البرلماني وعنده راتب عالي تكول نص الشهر ما يبقالي
حقنه ضاع بين ايديك الله لا يرضى عليك
يابو الأحرار هذي اصواتنه
**************
أنتو تختلفون واحنه شحالنه والله ما عدكم رحم لأطفالنه
ليش يوميه انفجار قتل وبوضح النهار
يا ابو الأحرار هذي اصواتنا
اضغط على الرابط ادناه كي تستمع لهتافات موكب العباسية
موكب عزاء طرف العباسية في كربلاء المقدسة
غزوة داعش صيف عام 2014:
ولا يفوتنا ان نذكر دور المرجعية الموقرة بعد سقوط محافظة نينوى وصلاح الدين بالكامل والجزء الأكبر من محافظة ديالى والأنبار تحت سيطرة تنظيم داعش في صيف عام 2014 حيث اصدر مكتب المرجع السيستاني في مدينة النجف بياناً أعلن فيه عن قلق المرجع السيستاني البالغ من التطورات الأخيرة في مدينة نينوى ودعا القيادات السياسية العراقية إلى توحيد كلمتها كما أعلن عن دعمه لأبناء القوات المسلحة العراقية في حربها ضد داعش.
وبعد فترة وجيزة جداً وفي يوم 13 حزيران تحديداً أفتى المرجع السيستاني بالجهاد الكفائي ودعا من لديهم القدرة على حمل السلاح إلى الانضمام إلى صفوف القوات العراقية المسلحة لمقاتلة داعش . وتشكلت على أثر هذه الفتوى قوات الحشد الشعبي التي تستمد معنوياتها وقدرتها عن الدفاع عن الوطن من تضحيات الأمام حسين (ع) التي تغذوا بها في مشاركتم في المواكب الحسينية ومراسيم عاشوراء والأربعين. ويرى كثير من المسؤولين والمحللين السياسيين في العالم بأن فتوى السيد السيستاني هي التي أنقذت العراق وأجهضت مخططات داعش بعد ان فشل السياسيون والقادة العسكريون المتخاذلون.
المرجعية وانتخابات عام 2018:
أثارت فتوى “المجرب لا يجرب” للمرجع الشيعي علي السيستاني، التي تحض الناخبين على اختيار مرشحين لم يسبق لهم تولي مناصب حكومية أو كانوا نوابًا في البرلمان، جدلا كبيرا في العراق، حيث يجتهد كل تيار في تأويلها لصالحه، قبل أيام قليلة من انطلاق الانتخابات العراقية المقرر لها 12 مايو المقبل. وقد رأى العديد من السياسين انه لابد من تبنيها، حتى ان الأحزاب العلمانية رأت في تلك المقولة شعار بناء يستحق التقدير والأستفادة منه. واني لمتأكد من ان المواكب الحسينية هذا العام سوف تستمد القوة من هذا الشعار الذي اطلقته المرجعية بوجه الفاسدين.
وهكذا توالت الأعوام ولم تنسى المواكب الحسينية هموم الشعب العراقي، ولم تخنع للحاكم طيلة الدهر. وهذا العام كغيره لا بل اكثر نتوقع ان ترفع الحناجر الحسينية عالياً صوتها ضد الفساد والفاسدين، وضد داعش والتكفريين، وضد الطائفيين من مدعي رعاية الشيعة والسنة وغير المنتمين.انه التجمع المليوني سيصيح كي يصم آذان الذين بأسم الدين عبثوا بالأرض فساداً بشكل اجرامي ومشين وحرموا المواطن العراقي من ابسط حقوقه في الحصول بيسر على الماء والكهرباء والخدمات الصحية والتعليم النافع.
وامنياتي ان يكون للمرجعية الموقرة موقف واضح من عدم استغلال هذه المناسبات المقدسة من قبل موظفي الدولة كي يمنحوا انفسهم اجازات مفتوحة ومدفوعة، وصوت ملزم ومسموع لتهذيب الممارسات الغير مناسبة والدخيلة كي يكون للمواكب الحسينية والمنبر الحسيني الدور الأيجابي في خلق مجتمع بناء تسوده المحبة والعدالة الأجتماعية بعيداً عن الطائفية والمحاصصة والمناطقية والنعرات القومية.
محمد حسين النجفي
اكتوبر 2016
جُدد في ايلول 2018
#الشعائر_الحسينية #العراق #المواكب_الحسينية #المنبر_الحسيني #كربلاء #الكوفة #الشيخ_احمد_الوائلي #حمزة_الصغير #خان_النص #محمد_حسين_النجفي