“واخيراً رحلت في جيب احد المسافرين الى بيروت، الذي استبدلني في سوق الصرافين بالدولار الأمريكي كي ابدأ رحلة كونية غير مستقرة حتى يومنا هذا”
محطات من رحلة درهم عراقي:
على الرغم من انني عُملة عراقية فضية صرفة، إلا انني لست من مواليد العراق. حقيقة الأمر انني من مواليد افضل مسبك للعملات المعدنية في العالم ومقره المملكة المتحدة. لقد وُلدت جميلاً مُشعاً مبهراً متميزاً بالتفاصيل الدقيقة ذات المعاني العديدة والتي فيها زهو وكبرياء لتاريخ حضارة وادي الرافدين. وعند الولادة يجمعوني مع المسكوكات الأخرى ويضعوننا في ملفوف اسطواني شبه كارتوني. نشحن بعد ذلك الى بغداد حيث مقر البنك المركزي العراقي. أنا من مواليد تموز عام ١٩٥٩ في الذكرى الأولى لثورة ١٤ تموز ١٩٥٨. حيث مثل احد جوانبي صورة زعيم الثورة عبد الكريم قاسم والوجه الثاني يمثل شعار الجمهورية الأولى والذي يمثل شمس وإشراقة تموز وسنابل العراق من الحنطة والشعير وسيفين احدهما عربي والثاني كوردي رمزًا للأخوة العربية الكردية. لاحظ ان هذا الشعار استبدل لاحقًا بشعار به نسر متكبر يمثل حاكم مارد بدلًا من ان يكون رمزاً للشعب وخيراته.
وبمرور الزمن نجد طريقنا الى الأسواق للتدوال من خلال المقايضات التجارية. وكل واحد منا له رحلته بين التجار وعامة الناس، بين المصارف والشركات، بين البقالين وسواق التكسي. نتنقل من جيب الى جيب، ومن صندوق الى صندوق، ومن يد ليد ومن حقيبة الى اخرى . ومن حسن حظي انه تم تداولي بسرعة بين المصارف لأكون جزءاً من راتب احد موظفيها. وشاء حظي في اليوم التالي ان يتم اختياري لأكون احدى عُملات مصرف الجيب اليومي لأحدى بناته الجميلات. لا تتصورون مدى فرحتي حينما لامستني تلك الأنامل الرقيقة المعطرة بالبراءة والنعومة. انها كل ما يتمناه اي درهم في الوجود. انها المكان الأمثل للأقامة الأبدية. انها افضل وسيلة كي ازور الأماكن الجميلة التي ستاخذني معها، الى المدرسة والملاعب والضحك مع البنات الأخريات. انها حلم اود ان لا افوق منه.
وفي غمرة النشوة نسيت السبب من وجودي. وهو انني خُلقت للتداول والتعامل والتبادل في السوق. وهذا ما حدث للأسف الشديد. فبعد انتهاء اليوم الدراسي ذهبت الفتيات الى دكان الحارة كي يشتروا منه الحلوى والمرطبات، وكان مصيري ان تمتد تلك اليد الناعمة الكريمة كي تمسني وتعطيني لصاحب دكان الحارة دون وداع. وبمجرد ملامستي ليدهِ الخشنة احسست بالفرق الرهيب بين منتزه الأنامل الرقيقة وبين خشونة ألاسوار العالية التي لا ترى من خلالها نور الشمس اونسيم الهواء الطلق.
قلت لنفسي، ولماذا القلق؟ اليوم هنا وسأكون في اليوم التالي في مكان آخر افضل واجمل بكثير. ومرت الأيام ومازلت في جيب ذلك التاجر البخيل الذي ابدى اعتزاز خاص بي. لماذا؟ ربما لأني كنت جديداً وناصعاً ولامعاً. كلا لا اعتقد ذلك. لانني لاحظت من انه يبع اكثر مما يشتري، ويدخر اكثر مما يصرف، وينقي النقود التي يحتفظ بها. وللأسف الشديد انا واحد من هؤلاء. ثم انه يتسلى كل يوم ولعدة مرات بعدنا ويتلذذ بأزدياد كميتنا. يحسبنا واحد واحد بيده الكبيرة الخشنة القاسية ذات الرائحة الكريهة التي تخنق الأنفاس.
وجاء اليوم الذي اعتقدت انه يوم النجاة. حيث اخرجني من صندوقه المقدس ووضعني في جيبه العميق. وذهب بي ومن معي الى السوق كي يشتري هدايا العيد لعائلته. توقف عند العديد من المحلات الى ان اعجبته احدى اللُعب. سأل عن السعر ووضع يده في جيبه واخذ يتلمسنا ويفركنا ويفركنا بيده ذات الرائحة تخنق الأنفاس من شدة تصبب العرق منها وهو متردد بين الشراء ام عدمه. واخذ يجادل السعر مع التاجر وكلما وصل مرحلة الحسم ضاقت يده علينا لحد الأختناق. وحينما يقرر عدم الشراء يرتاح نفسياً وتطلق يداه سراحنا. تكرر هذا الموقف عدة مرات الا انه في النهاية اشترى ارخص الهدايا وبأقل الأسعار ولم يصرف إلا بعض النقود التي اخذها معه. وانا لست واحداً منهم.
يا للهول! ما العمل؟ انه الكابوس الأبدي الذي سوف لا افيق منه. اريد ان اخرج من هذا الجيب اللعين ومن هذا الصندوق النتن ولا اُلامس هذه الأيادي المغلولة حتى على نفسها وابنائها. اريد الهواء الطلق، اريد الحرية، اريد التداول، اريد الترحال. اريد ان تلمسني ايادي كريمة سخية معطائة. اريد ان العب بين انامل الفتيات اللعوبات واصابع السيدات المتألقات ومحافظ الرجال ذوي الكبرياء والأعتزاز والسخاء والذين بكرمهم يتنافسون مع اقرانهم في الكرم والجود. رحلتي كانت طويلة جداً لأنني مصنوع من معدن صلب وليس من ورق مطبوع. لاحظت في ترحالي ان تداولي كان سريعا مع الفقراء وبطيئاً مع الأغنياء، سهلاً مع الشباب متعباً مع الكبار، ممتعاً مع النساء مُملاً مع الرجال. واخيراً رحلت في جيب احد المسافرين الى بيروت، الذي استبدلني في سوق الصرافين بالدولار الأمريكي كي ابدأ رحلة كونية غير مستقرة حتى يومنا هذا.
محمد حسين النجفي
آذار 2020
Two Years Later:
As time passes, the death of my brother Raad becomes more of a reality. We have lost that slim possibility that maybe it was all a nightmare and not true and when we wake up, Raad will still be alive. Around this time, two years ago my son Amer went to see his uncle, followed a few days later by his sister Nada. They went to say goodbye to their beloved uncle they cared for him so deeply while I was under cancer treatment powerless, hopeless, devastated by the doctor’s announcement that my dearest brother days among us are limited.
It was so hard for me to call and talk to him, because it meant we were saying goodbye to each other, and that was something we didn’t want to do. And as his elder son Hussein told me later, it was the same for him. His loyal wife Um-Hussein, his dearest sisters Alia and Anwaar, his two brothers Saad and Salam, his closest cousin Saleh and his wonderful children Hussein, Ali, Hasan, Mahdi and Mohammad among many others surrounded him all the time. In his final month, he remained as he always was; in command of his life, never lost faith, generous, and courteous to his waves of friends who were visiting him continuously, day and night.
It was the hardest ordeal for me that I couldn’t be by his bed in his final days. It was heartbreaking for me that the jewel of our family was evaporating from existence before our eyes and we had no say or power to change the sequence of events. We were all paralyzed, physically, emotionally and mentally. Among all, I am the one who knew him all of his life. I am the one who knows him inside and out. I am the one who lived with him without any barriers whatsoever, but I am not at his bedside.
Regardless of all that, we strongly believed that a miracle has to happen. God has to interfere to save such a faithful man. Crazy and wonderful things happen in life. We have seen that in movies, we read it in many books, we’ve heard it in so many stories from our grandmothers and grandfathers. Miracles exist and we are waiting for one to surprise us. Miracles and immortality come in many different ways. For Raad, his miracle was his strong command and his unwavering faith even during his final days. His immortality translated very well, during his Fatiha (فاتحة) proceeding with the outstanding attendance by all the drives of Iraqi community members living in Greater London. I heard from many friends who attended his Fatiha that it was the largest ever. The attendance was not for the sake of anyone. He was not a billionaire. He was not an Iraqi political leader. He was not a high ranking British official. He is not a Sayad or religious scholar. The attendance was simply to share the sorrow for the loss of a very humble gentleman they know, named; “Haj Raad Al-Najafi” “Abu-Hussein”.
Farewell, brother. You made it. You had a very good life. I am proud to be your brother. Your physical departure is a reality we have to learn to live with, but to be honest, it is not getting any easier. We will always remember you, envy the legendary record of your life, hoping to follow your footsteps and walk in the same direction. You will remain in my broken heart and in my eye’s tears forever. Till we meet again, rest well Hajjie.
“انه لاعب صغير ذو إنجاز كبير، وهذا ما استمرت عليه حياته. دائما يتوقع منه الذي لايعرفه حد أدنى ويستغربون حينما تناطح نتائج أعماله الحدود العليا”
ونتيجة لما حصل لوالدي في صغره وما رآه من حاجة للثقافة والتعليم عموما ولاهمية تعلم اللغة الأنكليزية خصوصا للأغراض التجارية، كان يسعى ليحصل ابنائه على افضل تعليم ممكن. لهذا السبب ولغيره انتقلنا الى بغداد حيث بدأ مشواري الدراسي بدخول الروضة والتمهيدي والأول ابتدائي في مدرسة راهبات الكلدان، ثم في الصف الثاني الأبتدائي الى السادس الأبتدائي في مدرسة الحكمة الأهلية في الكرادة الشرقية. اعتادت مدرسة الحكمة الأبتدائية الأهلية في الكرادة الشرقية على إقامت مهرجان رياضي ضخم بين سنة واخرى. كان العام الدراسي 1957/1956 هو العام الدراسي لهذا النشاط. وعلى الرغم من ان المدرسة لها مُعلم رياضة وهو الاستاذ عبد القادر، إلا انهم وظفوا مدربا خاصاً متفرغاً للمهرجان وهو الاستاذ انور الذي كان نشطاً ومتحكماً وبشوشاً في آن واحد، لذلك كنا نخافه ونحترمه ونحبنه في نفس الوقت. طبعاً كل الطلاب يُعتبرون من المشاركين في فعاليات المهرجان وخاصة طلبة الصف الرابع والخامس والسادس. ومن بين الألعاب المهمة هي المسيرة العسكرية (يس يم) (Marshall Band). كذلك ركض الـ 100 متر والبريد والقفز والحصان الخشبي (الجمناستك) ووووو. لقد لاحظ استاذ انور التزامي ومهارتي اثناء التدريب فأختارني للمشاركة في نشاط المسيرة العسكرية وركض الـ 100 متر والحصان الخشبي (الجمناستك) وشجعني على التركيز عليها. دعوت امي وابي لحضور المهرجان إلا انهم ليسوا من النوع الذي يحبذ الأشتراك بهذا النوع من النشاطات العامة، لكن
ابي قال لي شيئاً غير مُشجعاً وهو ان حظي بالفوز بالركض ضعيفاً وذلك لقصر أرجلي. لم افكر بالموضوع كثيراً في حينها، ولكني حينما استذكره الآن اعتقد انه اراد حمايتي من ردود الفعل النفسية في حالة الفشل.
ومدرسة الحكمة من المدارس الأهلية المختلطة التي يمتاز تدريسها بتعليم اللغة الأنكليزية من الصف الأول الأبتدائي. مؤسسها ومديرها كان الاستاذ شوكت زوما الذي استطاع ان يقدم نموذجاً جيداً لما يستطيع ان يقوم به القطاع الخاص في التربية والتعليم، حيث ان المدرسة كانت من حيث البناء والتنسق والنظافة جيدة جداً، كان لدينا قاعة خاصة لتناول الغذاء، وساحة كبيرة للالعاب، وصفوف فرهة وحمامات نظيفة. كان الأستاذ شوكت يحافظ على النظام الصفي بطريق ربما تعتبر قاسية من المنظور الحديث. حيث كان يعاقب الوكحين (المشاكسين) بالضرب بمسطرة خشبية غليظة، يضربها على كف اليد واحيانا يضرب بالجانب الحاد وليس العريض. اتذكر انه في احدى المرات كسر المسطرة على يديّ من شدة عنف الضربة. وربما كانت هي الطريقة الوحيدة التي يعرفونها او المناسبة في ذلك الوقت. كانت ست ڤكتوريا أخت أستاذ شوكت تساعده في إدارة المدرسة، وهي سيدة من الدرجة الاولى بكل معاني الكلمة. ومن المعلمين والمعلمات الذين اتذكرهم واقدرهم ست “مقبولة” التي درستنا اللغة العربية وست “ثانية” التي علمتنا اللغة الأنكليزية.
كان من زملائي في تلك الفترة مؤيد كاظم الرواف، شكيب عزت السنجقلي، فائز مزهر شنين، صباح نايف جودي،صباح رضا، رعد رزوق اسطيفان، شفيق محمد حسن شاه، محمد رضا قاسم عباس النجفي، خديجة محمود الصراف، سعاد وامل باقرالحريري، احلام عبد الرزاق الحسني، رعد نعيم نعمو، وائل عبد الأمير المرعب، اسعد عباس السعدي، اياد علي عيسى، مصطفى أمين ال عيسى، ايسر زوما، باسم محمد رزوقي، فاروق البعلي، نبيل حسن زلزلة، تغريد ناظم حميد والأخوة موفق وكاظم البياع، صادق حمرة، عدنان عبود عطرچي، ممتازة رديف العبيدي، عماد عبد الجبار الجدوع، منى وحميد وسمية، و خالد وووو.
حصدت في نهاية المهرجان ثلاثة كؤوس الأول في المارشال باند والأول في ركض الـ 100 متر والأول في الجمناستك، وبالتالي حصلت على حصة الأسد من الكؤوس. وكجزء من مراسيم ختام المهرجان يتم اختيار افضل رياضي او لاعب للمهرجان. وهنا كانت المفاجئة العظمى وهي اختياري ومنحي لقب “بطل المهرجان” ومنحي كأس كبيرة جداً امام تصفيق حاد وصوت المذيع الذي لا اعرفه مغردا بصوت جهوري وواضح لـ “بطل المهرجان اللاعب الصغير”. يوم لا يمكن نسيانه وانجاز لم استطع تكراره إلا بعد ثمانية عشر عاما حينما ناقشت رسالة الماجستير في ادارة الأعمال ودافعت عنها بحرارة ومُنحت اطروحتي درجة “الأمتياز”.
اما الذين يقيمون الثورة وزعيمها عبد الكريم قاسم سلباً سواء في فترة حكمه تلك او امتداداً ليومنا الحاضر، فإنهم نوعين: النوع الأول هم المتضررون بشكل مباشر من الثورة، وهذا يشمل العائلة المالكة والحاشية والساسة المقربين لنوري باشا والطبقة الثرية الأرستقراطية. والنوع الثاني هم من تضرروا لاحقا من تشريعات الثورة بسبب قوانين الأصلاح الزراعي وقانون الأحوال الشخصية وهم شيوخ العشائر وملاك الأراضي ورجال الدين. وكان من الطبيعي لهتين المجموعتين ان تحاربا الثورة بشتى الوسائل مستغلة بشكل فعال الحوادث المؤسفة الحزينة التي تم بها تصفية العائلة المالكة وسلوك الغوغاء في سحل عبد الأله ونوري السعيد في شوارع بغداد. وعلى الرغم من ان ذلك كله لم يحدث بأمر مباشر او غير مباشر من الزعيم او من اي حزب سياسي، إلا انها لُصقت بهم الى يومنا هذا واصبحت قميص عثمان العراق.
![]() |
![]() |
وكما يحدث عادة في كل الثورات فإنها تأكل رجالها. حيث حدث الخلاف القاتل بين الزعيم والشخص الثاني من قادة الثورة العقيدعبد السلام عارف. حيث اصر عارف على الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا) بينما فضل قاسم ان يتم الأتحاد تدريجياً وبخطوات محسوبة. وهنا قيم البعثيون والقوميون من الضباط والشباب ان الزعيم لا يملك شعور قومي واتهموه بالشعوبية، وزاد في الطين بله ان ايد الشيوعيون قاسم وتفضيلهم للأتحاد الفدرالي التدريجي بدلاً الوحدة الاندماجية الفورية. واصبح الخلاف ليس مع قاسم وانما بين القوميين والبعثيين من جهه والقاسميين والشيوعيين من جهة اخرى.
حقيقة الأمر ان عبد الكريم قاسم وتنظيم الضباط الأحرار لم يكن مُحدد بآيدولوجيا واضحة المعالم، سوى اسقاط الملكية وتأسيس الجمهورية على غرار التجربة المصرية. كان معظمهم ذو اتجاهات ومشاعر “مزدوجة” قومية عروبية من جهة ونهج يساري علماني من جهة اخرى. لذلك انقسم الضباط الأحرار والشارع العراقي في مسألة الوحدة الفورية. وتحولت الى فرصة للخلاف لا اكثر ولا اقل، استُغلت للحشد الجماهيري وللسيطرة على الحكم من قبل البعثيين. وبناء عليه جرت محاولة عبد السلام عارف للسيطرة على السلطة بعد شهرين من ق، اعقبتها حركة رشيد عالي الكيلاني ثم حركة الشواف في الموصل بتنسيق مع المخابرات المصرية بعد تسعة اشهر من الثورة ثم احداث كركوك المروعة بين الاكراد والتركمان بذكرى السنة الأولى للثورة، ومحاولة اغتيال الزعيم في شارع الرشيد و تمرد البارازاني في شمال العراق وقضية الكويت والمشاكل مع ايران ومصر والأردن وغيرها لتتكلل بقانون رقم (80) الذي استرجع العراق بموجبها اكثر من 95% من الأراضي غير المستثمرة من الشركات النفطية الأجنبية لغرض استثمارها مباشرة من قبل العراق. وكان هذا القانون القشة التي قصمت ظهر البعير والتي ادت الى اغتيال الثورة وانجازاتها وزعيمها ورفاقه بضربة واحدة في يوم 8 شباط عام 1963.
ان تقييم الزعيم على انه كان وراء تصفية العائلة المالكة ليس صحيحاً واتهامه كونه شيوعياً او يسارياً متآزراً معهم ايضاً غير صحيح، وانه كان مناهضاً للوحدة العربية عار عن الصحة ويشهد له سجل حرب فلسطين ودعمه للثورة الجزائرية ومنظمة التحريرالفلسطينية. ان ثورة تموز وزعيمها ضحية لمن حكموا العراق قبله، ومن دمروا العراق بعده ليومنا هذا. ولازلنا لحد الآن نسمع التنكيل دون اثبات او اسباب من ان ثورة تموز هي من فتح ابواب جهنم على العراق، ناسين انهم لو درسوا حقبة الحكم الملكي لوجدوا انها لم تكن مستقرة ابداً، وانها شهدت العديد من الأحداث الدموية والمحاولات الأنقلابية.
ان هذا لا يعني ان الثورة وزعيمها معصومين من الأخطاء والمسؤولية، لا بل والحق يقال ان نهاية الجمهورية الأولى بهذا الشكل المأساوي يترتب على عاتق زعيمها بالدرجة الأولى، وعلى القوى القومية التي سعت الى السلطة بشكل دموي بالدرجة الثانية. حيث ان احتفاظ الزعيم بالسلطات التشريعية والتنفيذية وحتى القضائية (الأحكام العرفية) طيلة فترة حكمه وزجه للمعارضة السلمية في المعتقلات والسجون وعدم تأسيسه لمجلس قيادة الثورة او مجلس نواب منتخب وغير ذلك من الأمور مهد ومنح خصومه ادوات فعالة استُغلت في خلق الظروف المواتية لردة 8 شباط 1963.
أسئلة ستبقى في ذهن المؤرخين:
هل كان هناك ضرورة ملحة لثورة 14 تموز 1958؟
ما هو حال العراق اليوم لو لم تحدث ثورة تموز او اي حركة مماثلة لها؟
محمد حسين النجفي
14 تموز 2019
“قلت: … شيخنا الموضوع كذا وكذا ونحن عائلة مدنية مسالمة ولسنا من العشائر، ولسنا مؤهلين لدفع فدية او دية عشائريا. أجابني الشيخ الموقر بكل تواضع وخجل وقال لي: هل فعلاً يستحق موضوع كهذا جلسة عشائرية؟ وأضاف “والله أكوا ناس دينزلون قيمة العشاير والمشايخ ويشوهون سمعتنا، ولكن مع ذلك يا أستاذ بما انه طلب منك ذلك، لابد لنا من الجلسة واترك الباقي عليّ….”
صديقنا قحطان إما جائته الأوامر من حزب البعث او اخذته الحمّية وخرج الى شارع الكرادة داخل قرب شارع الهندي في محلة البوجمعة ليشارك مع مجموعة من المراهقين المندفعين بالهجوم على احدى باصات مصلحة نقل الركاب الحمراء، كي يحرقوها ويعتدوا على سائقها وجابيها، ليسقط قتيلا برصاص رجال الأمن الذين كانوا في باصات الأمانة لحمايتها بأعتبارها من الممتلكات العامة. سماعنا للخبر كان صدمة كبيرة. قحطان صديقنا قتل! لماذا وكيف وهل كان يجب ان يقتل؟ وهل يستحق الأضراب مثل هذه التضحيات الجسام؟ قحطان لم يكن سائق سيارة وبالتالي لا علاقة له بسعر البنزين. قحطان لم يكن سياسياً بمعنى الكلمة لأنه لم يكن سوى فتىً مراهقاً تحت تأثير الأفكار القومية.
كان لما حصل لقحطان اثر وتأثير واعادة تفكير لما كان يحصل حولنا. اسئلة عديدة منها، لماذا تلجأ القوى السياسية الى العنف؟ ولماذا تستخدم الدولة اقصى درجات الردع لتصل الى حد قتل متظاهرين، حتى وان كانوا يعتدون على الممتلكات العامة؟ مضت ستون عاما على هذا الحدث وللأسف مازال يتكرر ويتكرر ويتكرر عبر العقود.
ومن الجدير بالذكر انه بعد انقلاب 8 شباط 1963 أعتبر قحطان شهيداً ومنح رتبة ملازم لأغراض التقاعد، وسُميت ساحة مهمة بأسمه هي “ساحة قحطان” في اليرموك تخليداً له. الشعب العراقي قدم الآلاف من الشهداء السياسين وخاصة الوطنيين واليساريين في كل العهود. اين هي نُصبهم ورموزهم واسمائهم في شوارع وازقة بغداد وعموم العراق؟ ولماذا تتنكر الحكومات المتعاقبة لتضحياتهم علما ان الكل يشيد بوطنيتهم وثقافتهم ونظافة اياديهم وولائهم للوطن؟
#محمد_حسين_النجفي #قحطان_عبد_اللطيف_السامرائي #أضراب_البنزين_العراق #حكمت_الدقاق #شارع_الهندي
#الكرادة_الشرقية
“ظل مسيطرا ومتحكما في الموقف، ومتصنعا لحركات متعمدة ولعدة مرات كي يريني انه يحمل مسدساً تحت سترته”
كانت تجارة والدي الاساسية هي استيراد السلع المنزلية المصنوعة من الكرستال والبورسلين من اليابان وبولونيا والصين وألمانيا وچيكوسلوفاكية (قبل انفصالها الى دولتين). نشتري من هذه الدول من خلال ممثلي الشركات في بغداد أو من خلال وكلائهم العراقيين.
اخبرني بعض الأصدقاء انه في مقهى اوربا عند مدخل فندق اوربا الكبير(Grand Hotel Europa) في شارع فاسلافسكي ناميساي الرئيسي يلتقي العديد من الطلبة العراقيين والمقيمين في براغ. ذهبت في اليوم الثالث الى هناك والتقيت بأحد العراقيين ثم جاء الثاني والثالث الى ان اصبح على طاولتنا ما يقارب الستة اشخاص. كلهم طلاب ومخضرمين ولهم مدة طويلة هناك، ويبدوا على
الجميع انهم طلاب بالأسم فقط. وانا كزائر وكتاجر فرشت لهم الوليمة بالكامل من مشروبات ومأكولات وما لذ وطاب. واخذنا الحديث هنا وهناك الى ان سألني احدهم ما اذا كان حقا ما نسمعه من ان الناس يقفون في طوابير ويتدافعون للحصول على طبقة البيض او الدجاج المستورد. قلت لهم نعم ذلك حقيقة واقعة. وتحدثنا عن الأوضاع الأقتصادية بأعتباري تاجر وابن سوق. لم نتكلم بالسياسة او طبيعة السلطة قط. لم يأتي اسم حزب البعث او البكر او صدام في المحادثة اطلاقا. المهم نهاية الجلسة دفعت الحساب واخذت تاكسي الى فندق الكونتنانتل.
ايقضتني والدتي وانا في عز النوم. لم استطع ان افتح عيوني لشدة الأرهاق من السفر. قالت أكعد (استيقظ) هناك من كان يطرق الباب مرارا، وحينما فتحت الباب له سأل عنك. انه شخص
غريب ومخيف والساعة هي الخامسة صباحاً. قلت حسناً امي ادخليه في غرفة الضيوف وسأنزل حالاً. وضعت الروب على كتفي ورشقت بعض الماء في وجهي استعداداً للمجهول الذي سيجلبه زائر الصباح المشؤوم، ولم يأتي على بالي سوى ما حدث في براغ. دخلت الغرفة واذا به “سعدي” صديق لصديق الطفولة “رياض الطحان”. معرفتي به لا تتجاوز سوى ان رياض قد جاء به في احدى سفراتنا الى الصدور. اعرف اخاه “طالب” الذي كان من دورتنا في الثانوية الشرقية. والاثنين هما ابناء عم حسن العامري واخوة زوجته، الذي كان عضو في القيادة القطرية لحزب البعث ووزير التجارة آن ذاك. شريط سريع مر في ذاكرتي كي افهم معنى هذه الزيارة الرهيبة. سعدي كان في منتهى الأناقة يلبس بنطلون وسترة ورباط، وكأنه اثناء الدوام او ذاهب للدوام في احدى دوائر الدولة التي تتطلب شياكة عالية. كان سلامه معي مقتطبا وكأنه في مهمة رسمية وليس في زيارة ودية لصديق. رحبت به وجلست كي يجلس، إلا انه ظل واقفاً مسيطرا ومتحكما في الموقف، وبدأ يتحرك امامي رواحاً ومجيئاً كبندول ساعة حائط قديمة، متصنعا لحركات متعمدة ولعدة مرات كي يريني انه يحمل مسدساً تحت سترته. قلت في نفسي انه ربما جاء بسبب ما حدث في براغ. وبما انه يحمل مسدساً واستطاع ان يعرف مسكني علماً انه ليس من محلتنا ولم يزرني سابقاً ابدا، اذن انه يعمل في الأمن او المخابرات او مرافق لنسيبه حسن العامري. وأخيرا تكلم عن سبب زيارته وقال بشكل جدي وبوجه عبوس يحمل التهديد بطريقة قوله: آني آسف جئتك في وقت غير مناسب ولكني بحاجة الى ان استدين منك 500 دينار. (الدينار العراقي كان يساوي 3.5 دولار آن ذاك اي ما يساوي 1,750 دولار). ارتحت لذلك كثيراً لأنه ليس اسوأ الأحتمالات. قلت له: سعدي لقد كنت مسافراً خارج العراق ووصلت قبل حوالي خمس ساعات وليس لدي اي مبلغ الآن. اذا امكن تعطيني عدة ايام لأرى ما استطيع تدبيره. ظل يفكر ويروح ويجيئ في الغرفة وانا لا استطيع ان اسحب النفس بسهولة. تعمد ان يرينيني المسدس عدة مرات وهو يتحرك امامي للعلم والتحذير. قال متردداً: حسناً إلا انني بحاجة ماسة للمبلغ ولا بد لي من الحصول عليه.
يا (أُم عوفٍ) ومايدريك ماخبأت لنا المقاديرُ من عُقبى ويدرينا
“قال لا اريد شهادتك، إطلع قبل ان يخرجك ابو اسماعيل (الشرطي) بالجلاليق (بالركل بالأرجل على المؤخرة)”
منذ ان فطنت للحياة كانت هناك ازمة مواصلات وزحمة في الطرق والساحات المدورة التي اشتهرت بها بغداد مثل ساحة التحرير وساحة الطيران في الستينات والسبعينات من القرن الماضي. والزحمة والتدافع ليس بين السيارات فقط وانما بين الركاب سواء في باصات الأمانة او تكسي النفرات (التكسي المشترك). وطبعا هناك تداعيات لهذه الأختناقات في المواصلات نتيجة للتلاصق الجسدي الذي لا مفر منه سواء ان كنت واقفا او جالساً. من بينها ان معظم حالات النشل (السرقة من الجيب) تحدث في باصات الأمانة المزدحمة. كذلك فان الأزدحام يوفر فرصة ذهبية للتحرش الجنسي الذي كان سائدا في تلك الأيام. وقد يعتقد البعض ان التحرش الجنسي كان من تصرفات المراهقين. كلا، وانما كان سمة سائدة خاصة من قبل الرجال في اعمار متقدمة. كان التحرش الجنسي يتم بشكل شبه علني دون خوف او خجل ودون اي تدخل من قبل الآخرين لأيقافه. وللأسف نادراً ما نرى فتاة او امرأة تتجرأ امام الملأ وتفضح المتحرش.
ومن بين احدى ذكرياتي التي من الصعب نسيانها انني في صباح احد الأيام حينما وصلت الى محطة تكسي النفرات كان قد سبقني ثلاثة اشخاص من محلتنا في السبع قصور الكرادة الشرقية داخل. احد هؤلاء الأشخاص سيدة حامل في مرحلة متقدمة لا تستطيع معها التحرك بالسرعة التي تقتضيها الحصول على مقعد في التكسي. وبما انه لا توجد ثقافة او نظام ان الأفضلية للأسبق، فانه حينما يقف التكسي يركض الجميع كالغزلان ومن هواسرع يحصل على المقعد. والباقون ينتظرون التكسي القادم، والقادم والذي بعده، وهذا ما حدث للسيدة التي ظلت تلاحق التكسي وهي تسير كطائر البطريق عدة مرات دون نجاح. ظللت مندهشاً كيف ان رجال محلتنا كانوا يأتون بعد جارتهم السيدة الحامل ويسارعون لسرقة دورها منها دون تردد او حياء او خجل او مروة اوحتى رجولة. حينها بدأت افكر ان المشكلة لم تعد في السلطة السياسية فقط، وانما في اخلاقية الشعب ايضا الذي تغير عبر الزمن نحو الأسوأ.
وفي احد ايام شتاء عام 1969 ركبت تكسي النفرات من الباب الشرقي متوجهاً الى الشورجة حيث مركز تجارتنا. كان السائق في عمر منتصف الأربعينيات يدخن سيكارته ويستمع بشرود واضح الى اغاني فيروز الصباحية. كانت ظاهرة التدخين مقبولة ومتعارف عليها في تلك الأيام فيما عدا باصات الأمانة كانت ممنوعة. معظم الركاب يبدوا انهم موظفين في حالة من الأستعجال للوصول الى مآربهم. بدأ السير يتباطئ كلما ابتعدنا عن ساحة التحرير، إلا انه تباطئ اكثر بعد عبور ساحة الخلاني ومن ثمّ شارع النهضة، وأخذ الجميع يُأفف من الأزدحام وينظرون الى ساعاتهم بشكل متكرر، وبدأت اصوات الهورنات تثقب الآذان وتغطي على الزغردات الفيروزية.
وقبل الوصول الى الشورجة وبالقرب من جامع الخلفاء حدث ان تصادم التكسي الذي نحن به مع سيارة شيفروليت (ستيشن واكن) عسكرية تعود لضابط برتبة لواء كما يدعي سائقها وهو عسكري برتبة عريف. ونتيجة للأزدحام حاول العريف ان يفتح طريق له من امام التكسي الذي نحن به. وبما ان سيارة سائقنا كانت واقفة وليست متحركة، فإن الخطأ كان واضحاً من العريف سائق سيارة اللواء، علماً ان اللواء لم يكن في السيارة. نزل العريف من سيارته مكيلاً ابشع الشتائم وابذل الألفاظ على سائق التكسي المسكين الذي لم يستطع فتح فمه ولو بكلمة واحدة. اخيراً طالب لا بل امر العريف سائقنا بالذهاب الى مركز شرطة النهضة لتسجيل الحادث. وافق سائق التكسي على ذلك مرغماً. لم يتحدث او يتدخل اي من الركاب في الموضوع، اما لعدم اهتمامهم او لخوفهم من العريف. بعدها طلب وتوسل السائق من جميع الركاب كي نذهب معه كشهود ليثبت حقه وينقذ نفسه. اعتذر الجميع لوجود اسباب حقيقية لأنهم موظفين او اسباب وهمية كي يتملصوا من المسؤولية. أما انا فكنت اصغرهم سناً وكان عليّ مسؤولية فتح باب متجرنا في الشورجة ولديّ عذري المشروع. ولكن لم يكن كل ذلك ما افكر به. كان تفكيري كله ينصب على سائق التكسي المسكين وكيف سيثبت حقه امام سائق عسكري برتبة لواء. لم اجد الموضوع مطمأناً او متوازناً. ولما كنت “ممن يحملون السلم بالعرض” ويمشون به كما يقولون، قررت الذهاب معه كي امنحه فرصة متكافئة وامنح نفسي فرصة لأكون جزءاً من الصراع غير المتكافئ.
وصلنا الى مركز الشرطة وكان العريف قد سبقنا للحديث مع مأمور المركز. وبقينا انا والسائق في خارج الغرفة بالأنتظار. امرنا الشرطي كي ندخل على المفوض مأمور المركز. دخلنا وبادر المأمور بسؤالي بطريقة سلطوية عنيفة: من انت وماذا تعمل هنا؟ قلت انا راكب في السيارة وجئت كشاهد. ومن طلب شهادتك؟ قالها بعصبية شديدة اللهجة. قلت لا احد، تطوعت لأعتقادي بأنكم ستحتاجون الى شاهد عيان محايد. استمريت وبلغة اكاديمية وكأني اترافع نيابة عن موكلي: انك امام شخصين كل واحد سيروي قصته، ألا تريد ان تسمع رأي شاهد لا مصلحة لديه مع اي من الطرفين؟ طبعاً كل هذا وهو يرى اني شاب بهندام لائق واحمل معي كتب جامعية ويستطيع التدليل منها عن امور اخرى! كان وقع كلامي هذا قد أثار حفيظته، وقال: ” لا اريد شهادتك، إطلع قبل ان يخرجك ابو اسماعيل (الشرطي) بالجلاليق (بالركل بالأرجل على المؤخرة)”. وقبل ان اجيبه واورط نفسي اكثر، سحبني سائق التكسي من يدي وطلب مني الخروج متوسلاً، وقال لي: الله وياك عَمي، روح، الله يخليك لا احتاج الى شهادتك، واستخدم كلتا يديه لمسك كتفيّ كي يحول وجهتي، ودفعني صوب الباب كي اخرج، واستمر يؤشر لي بيديه روح روح (اذهب اذهب).
خرجت من مركز الشرطة مُهان ومكسور الجناح لا حول لي ولا قوة عارفاً ان ما سيحدث لسائق التكسي المسكين سيكون ظلما وامتهانا. خرجت وانا افكرهل سيبات في بيته ذلك المساء ام لا؟ هل ان سائق التكسي هو مالك للسيارة ام يعمل بالأجرة بها؟ واذا غرموه هل لديه المال كي يدفع؟ إلا ان اكثر ما ادهشني وافرحني بنفس الوقت هو شهامة وشجاعة واخلاق سائقنا الذي تغير همه فجأة وبلحظة، فبدلاً من ان ينقذ نفسه قانونياً ومالياً ويستفاد من افادتي، قرر ان يحافظ على كرامة شاب وطالب جامعي من الأهانة والأعتداء من قبل كامل القوات المسلحة العراقية، “الجيش الذي هو سور للوطن والشرطة التي هي في خدمة الشعب”. الف شكر وتحية خالصة لشهامة سائق التكسي الكادح ولحسن اخلاقه ولحمايتي من الحماة.
محمد حسين النجفي
www.mhalnajafi.org
#مواصلات #العراق
روابط اخرى:
مخالفة مرورية في شارع الرشيد
تدعوا هذه المقالة الى الحوار البناء المستمد من الدراسة المستفيضة للأديان والأفكار المعاصرة مع التركيز على الأسس المنهجية والنظرية بدلاً من الأعتماد على النقد اللاذع المبني على الممارسات الخاطئة او على التجارب الفاشلة او على التطبيق المغالط، كما يرد أحيانا بسذاجة في أحاديث أشخاص وكتاب يستخفون بالآخرين:
ألمقالـــــــــــــــــــــــــــــــــــة:
يكاد يخلو الخطاب السياسى لليسار العراقي والمثقفين العلمانين من اية اشارة او محاكات للفكر الديني المعاصر، على الرغم من وجود تراث هائل من الافكار والآراء ودراسات فلسفية دينية او المتأثرة في الدين. أضافة الى ذلك ظاهرة أنتشار التدين بشكل لم يسبق له مثيل في الوقت الحاضر، وفي الوقت ذاته نعيش ظاهرة انتشار التمسك الديني والطائفي، ليس متمثلاً في الأخوان والقاعدة وداعش والفكر والممارسة التكفيرية المصحوبة بالعنف فقط، بل كظاهرة فردية وعائلية وممارسة اجتماعية معتدلة وسلمية في معظم الأحيان. ويشمل ذلك جميع الأديان والطوائف. خذ على سبيل المثال تضاعف اعداد من يؤمون صلاة الجماعة في يوم الجمعة للمسلمين ويوم الأحد للمسيحين. اوالاعداد الغفيرية المليونية المشاركة في الشعائر الحسينية وزيارات الأئمة. او ازدياد اعداد من يحجون بيوت الله في مكة، والمدينة المنورة المقدستين. وكذلك احتلال الحركات الدينية مركز الصدارة في الصراع السياسي، واضمحلال الأحزاب السياسية ذات الأيدولوجية اليسارية والقومية والعلمانية. ومن جهة اخرى نرى ان الخطاب السياسى للحركات الدينية يتجنب ويتردد، لا بل ويتجاهل مناقشة وانتقاد الفكر الماركسي او الأشتراكي او النهج العلماني الغربي لأدارة الدولة. كذلك فإنهم يتجاهلون وجود حضارات و أفكار أخرى ويكتفون برفضها كلياً وقطعياً. إن الطرفين يتجاهلون بعضهما كأن كل منهما يعيش في كوكب مختلف. وحقيقة الأمر ان كل الأديان الأفكار تهتم بمضمونها بنفس الأمور الأجتماعية والأقتصادية والسياسية، إلا انها تختلف احياناً وتلتقي في بعضها. ان التفاعل بين الأفكار هو العمود الفقري لنشر الثقافة التعددية التي ندعوا اليها، حيث ان الثقافة الأحادية ماهي إلا تلقين يصل لحد غسيل ألادمغة.
ان هذا الزخم المكثف من الافكار والحركات الدينية فى زمننا هذا، ليس في العراق فحسب او في العالم الأسلامي، وانما في عموم العالم قاطبة. وهذا التيار القوي ليس ضمن الديانة الأسلامية فقط، وانما المسيحية واليهودية وحتى الأديان غير السماوية . وعلى الرغم من ذلك، نرى ان المفكرين التقدميين والسياسيين العلمانيين والمثقفين بشكل عام يسخرون ويسفهون او يقللون من اهمية ورواج ظاهرة انتشار الوعي والألتزام الديني. الا انه ليس من الضرورة ان تكون الافكار والمناهج الدينية المعتدلة تسير على خط متعارض او متصادم مع الافكار اليسارية والاشتراكية والعلمانية. وانه لربما ان الاثنين يلتقيان ويتعانقان في الكثير من الاهداف والغايات الأجتماعية العامة. وعليه لا بد من المحاكاة بين هذه التيارات من الناحية الفلسفية ثم في الغايات النهائية وبعد ذلك البرامج والوسائل العملية لتحقيقها.
ان موضوع هذة المقالة هو الترويج لهذا التفاعل وبشكل صحي وملائم لظروف صعبة وحساسة تمر بها العديد من الشعوب ومنها الشعب العراقي. ولما كنت عراقيا و مسلماً ذو نهج علماني، فسأحاول ان أتحدث ضمن الأطار الذي أنا أعرف به. وقبل أن نضع أسس لهذا التفاعل لابد لنا من الأستفادة من بعض التجارب التأريخية والعالمية السابقة في هذا المجال، ومن خلال الأمثلة التالية:
1- حينما بعث الأمام علي (رض) إبن عمه عبد الله بن العباس لمفاوضة الخوارج، قال له على شكل وصية وأمر بأن “لا تناقشهم بهذا” وأشار بيده الى القرآن الكريم.
2 – خلال زيارة الكاتب الأيطالي التقدمي المعروف البرتو مورافيا الى الصين الشعبية أبان الثورة الثقافية في الستينات من القرن الماضي، دخل في حوار مع مثقفي تلك الثورة. وقد لاحظ انه حينما يجادلهم بشئ، فإنهم يقلبون صفحات الكتاب الأحمر لماوتسي تونج ويجدون فيها جوابا للرد عليه.
3- عندما أصدر الكاتب البريطاني المنحدر من أصول أسلامية هندية سلمان رشدي كتابه سيئ الصيت “الآيات الشيطانية”، أحتجت عليه معظم الدول الأسلامية وعُلمائها. كذلك أحتج عليه وهذه ربما تكون مفارقة “أتحاد الكتاب السوفيت” ولم تحتج عليه أي منظمة او دولة غربية بل على العكس روجوا له بحماس.
وهناك عبر في هذه الأمثلة الثلاث لعلها تساعدنا على وضع أطار حضاري للتفاهم ما بين منهجين يبدوا أنهما على طرفي نقيض، ولكن من المؤكد وجود العديد من نقاط الألتقاء ليس في أمور جانبية فقط، وأنما في إمور أساسية وجوهرية.
فحينما طلب الأمام علي (رض) من ابن عمه ان لا يناقش الخوارج فى كتاب الله، كان ذلك لعلمه بأن الخوارج كانوا من الثقافة والألمام الواسع في الآيات واحكام الدين واحاديث الرسول(ص). ولأن كتاب الله حمال أوجه كما ابلغه . ومهما بلغت امكانية وايمان عبد الله بن عباس، فإنه سوف يخسر مقارعة من هذا النوع، لأنهم أكثر مهارة منه في المحاججة . وعلى ذلك فإن اراد المثقفون العلمانيون والتقدميون ان يحاوروا المفكرين الأسلاميين عليهم تثقيف انفسهم بالفلسفة الأسلامية واحكامها، قبل التجرأ على مناقشتها. وعلى نفس المنوال على المثقفين الأسلامين ان يفعلوا ذات الشئ.
اما بالنسبة الى البرتو مورافيا، فإنه خسر جولة الحوار في اليوم الأول مع المثقفين الصينيين. وحال ذهابه الى فندقه في المساء قرر دراسة الكتاب الأحمر ليس ليناقضه، وانما ليجد فيه نصوص يستند فيها لأرائه. وحينما ذهب في اليوم التالي في حوار مع الصينين فإنه كان يقول لهم افتحوا الصفحة الفلانية في الكتاب الأحمر وأقرأُ الفقرة التالية . وبذلك استطاع محاورتهم من كتابهم . وعليه حينما ينتقد سلوك من يدعون النهج الأسلامي المتشدد او الطائفي يجب أن يكون بناء على مخالفتهم للدين الذي يديون به لأنه منهجهم ومصدر تعاليمهم.
اما السبب في ان اتحاد الكتاب السوفييت في عام 1980 أو 1981 أحتج على كتاب سلمان رشدي وطالب بمنعه لأنه اعتبر ان الكتاب ذو نهج استفزازي لا يحترم فيه مشاعر الملايين من المؤمنين بالدين الأسلامي، وبالتالي فإنه لم يكن كتابا موضوعيا، حواريا أو نقديا. وإنما كان كتابا ساهم في في شهرة كاتبه وتكوين ثروته ولكنه خلق عداءاً وتنافراً بين الحضارات بدلاً من بناء الجسور وخلق الحوار البناء بينهما.
ان الدين الأسلامي هو دين شامل متكامل يضع أسس متينة وتفصيلية لما يلي :
1- علاقة الأنسان بخالقه وفق مناهج وطقوس التعبد .
2- الحياة بعد الممات والعقاب والثواب (المتافيزيقيا).
3- قواعد قانونية واجتماعية واقتصادية لنظام دولة ومجتمع وعائلة وافراد .
ان الفقرتين الاولى والثانية ترتبطان بعضهما ببعض وهما أساس الشريعة الأسلامية . وهذا يتعلق بالأيمان الشخصي والأرتباط الروحي ومدى تعلق الأنسان بخالقه ودرجة ايمانه بالحياة بعد الموت وبالجنة والنار . وهذا موجود بشكل وبآخر في كل الأديان السماوية وغير السماوية. وأحيانا كثيرة يكون جزءا من العادات والتقاليد التي يتربى عليها الفرد والمجتمع . فإذن تعتبر الفقرتين الأولى والثانية مسألة شخصية بحته ليس بالضرورة أن ترتبط بشكل مباشر بالفقرة الثالثة. وهي كيف يعيش الأنسان مع أخيه الأنسان على الأرض بأفضل ما يمكن. وهذا هو موضوع هذه المقالة والذي يتطلب المزيد من الدراسة والأستقصاء للتوصل الى معرفة مجالات اللقاء والوفاق بين عموم الأفكار السائدة في مرحلة من مراحل المجتمع المقصود. وعلى سبيل المثال لا الحصر هناك امور تهم الأسلاميين والعلمانيين على نفس الدرجة من الأهمية، وهي :
1- تباين الدخول بين أفراد المجتمع . هل يقبل الأسلام بالثراء الفاحش؟ وهل يمكن وجود فقراء في مجتمع اسلامي متكامل؟ وما هو دور الدولة الأسلامية في أعادة توزيع الثروة، وكيف؟
2- الحرية الشخصية ومنها حرية المرأة وصيانها من كل أذى . حقها في قرار الزواج والطلاق. تعدد الزوجات. حق المرأة في الثقافة والتعليم والعمل .
3- ادارة الدولة وأساليبها مثل الديمقراطية والشورى. حدود وصلاحيات الحاكم. ولمن تكون الولاية؟ للفقيه أو الحاكم ام للشعب؟
4- الدولة ودورها في الكيانات والنشاطات الأقتصادية، حدود تدخلها في الشؤون التجارية والمالية مثل النظام المصرفي والنظام الضريبي وادارة الثروة الوطنية، ودور القطاع العام والقطاع الخاص.
5- دور الدولة الأجتماعي من حيث الضمان الأجتماعي، والضمان الصحي ومجانية التعليم ونشر الوعي وحفظ القانون والعدالة الأجتماعية.
كذلك ان على المفكرين الأسلاميين الأطلاع والتعرف على الأفكار والآراء السياسية والأقتصادية والأجتماعية الرأسمالية منها والأشتراكية، للنهل منها والبحث فيها عما يتلائم للأستفادة منه في المجتمعات الأسلامية او ربما تقبله بعد تعديله جزئياً . وعليهم أيضاً حين المقارنة والمناقشة ان يناقشوا من خلال ادبيات تلك الفلسفة وليس من خلال مقالات صارمة ورادعة. وهنا اريد ان اعطي مثالين متناقضين صالحين للمقارنة، والعجيب الغريب انهما حدثا في نفس الفترة الزمنية وهي بداية الستينات من القرن المنصرم:
محمد حسين النجفي
كاليفورنيا، أيلول 2009
تنقيح واعادة نشر تشرين ثاني 2018