درهم في جيب بخيل

“واخيراً رحلت في جيب احد المسافرين الى بيروت، الذي استبدلني في سوق الصرافين بالدولار الأمريكي كي ابدأ رحلة كونية غير مستقرة حتى يومنا هذا”

محطات من رحلة درهم عراقي:
على الرغم من انني عُملة عراقية فضية صرفة، إلا انني لست من مواليد العراق. حقيقة الأمر انني من مواليد افضل مسبك للعملات المعدنية في العالم ومقره المملكة المتحدة. لقد وُلدت جميلاً مُشعاً مبهراً متميزاً بالتفاصيل الدقيقة ذات المعاني العديدة والتي فيها زهو وكبرياء لتاريخ حضارة وادي الرافدين. وعند الولادة يجمعوني مع المسكوكات الأخرى ويضعوننا في ملفوف اسطواني شبه كارتوني. نشحن بعد ذلك الى بغداد حيث مقر البنك المركزي العراقي. أنا من مواليد تموز عام ١٩٥٩ في الذكرى الأولى لثورة ١٤ تموز ١٩٥٨. حيث مثل احد جوانبي صورة زعيم الثورة عبد الكريم قاسم والوجه الثاني يمثل شعار الجمهورية الأولى والذي يمثل شمس وإشراقة تموز وسنابل العراق من الحنطة والشعير وسيفين احدهما عربي والثاني كوردي رمزًا للأخوة العربية الكردية. لاحظ ان هذا الشعار استبدل لاحقًا بشعار به نسر متكبر يمثل حاكم مارد بدلًا من ان يكون رمزاً للشعب وخيراته.

وبمرور الزمن نجد طريقنا الى الأسواق للتدوال من خلال المقايضات التجارية. وكل واحد منا له رحلته بين التجار وعامة الناس، بين المصارف والشركات، بين البقالين وسواق التكسي. نتنقل من جيب الى جيب، ومن صندوق الى صندوق، ومن يد ليد ومن حقيبة الى اخرى . ومن حسن حظي انه تم تداولي بسرعة بين المصارف لأكون جزءاً من راتب احد موظفيها. وشاء حظي في اليوم التالي ان يتم اختياري لأكون احدى عُملات مصرف الجيب اليومي لأحدى بناته الجميلات. لا تتصورون مدى فرحتي حينما لامستني تلك الأنامل الرقيقة المعطرة بالبراءة والنعومة. انها كل ما يتمناه اي درهم في الوجود. انها المكان الأمثل للأقامة الأبدية. انها افضل وسيلة كي ازور الأماكن الجميلة التي ستاخذني معها، الى المدرسة والملاعب والضحك مع البنات الأخريات. انها حلم اود ان لا افوق منه. 

وفي غمرة النشوة نسيت السبب من وجودي. وهو انني خُلقت للتداول والتعامل والتبادل في السوق. وهذا ما حدث للأسف الشديد. فبعد انتهاء اليوم الدراسي ذهبت الفتيات الى دكان الحارة كي يشتروا منه الحلوى والمرطبات، وكان مصيري ان تمتد تلك اليد الناعمة الكريمة كي تمسني وتعطيني لصاحب دكان الحارة دون وداع. وبمجرد ملامستي ليدهِ الخشنة احسست بالفرق الرهيب بين منتزه الأنامل الرقيقة وبين خشونة ألاسوار العالية التي لا ترى من خلالها نور الشمس اونسيم الهواء الطلق.

قلت لنفسي، ولماذا القلق؟ اليوم هنا وسأكون في اليوم التالي في مكان آخر افضل واجمل بكثير. ومرت الأيام ومازلت في جيب ذلك التاجر البخيل الذي ابدى اعتزاز خاص بي. لماذا؟ ربما لأني كنت جديداً وناصعاً ولامعاً. كلا لا اعتقد ذلك. لانني لاحظت من انه يبع اكثر مما يشتري، ويدخر اكثر مما يصرف، وينقي النقود التي يحتفظ بها. وللأسف الشديد انا واحد من هؤلاء. ثم انه يتسلى كل يوم ولعدة مرات بعدنا ويتلذذ بأزدياد كميتنا. يحسبنا واحد واحد بيده الكبيرة الخشنة القاسية ذات الرائحة الكريهة التي تخنق الأنفاس. 

وجاء اليوم الذي اعتقدت انه يوم النجاة. حيث اخرجني من صندوقه المقدس ووضعني في جيبه العميق. وذهب بي ومن معي الى السوق كي يشتري هدايا العيد لعائلته. توقف عند العديد من المحلات  الى ان اعجبته احدى اللُعب. سأل عن السعر ووضع يده في جيبه واخذ يتلمسنا ويفركنا ويفركنا بيده ذات الرائحة تخنق الأنفاس من شدة تصبب العرق منها وهو متردد بين الشراء ام عدمه. واخذ يجادل السعر مع التاجر وكلما وصل مرحلة الحسم ضاقت يده علينا لحد الأختناق. وحينما يقرر عدم الشراء يرتاح نفسياً وتطلق يداه سراحنا. تكرر هذا الموقف عدة مرات الا انه في النهاية اشترى ارخص الهدايا وبأقل الأسعار ولم يصرف إلا بعض النقود التي اخذها معه. وانا لست واحداً منهم.

يا للهول! ما العمل؟ انه الكابوس الأبدي الذي سوف لا افيق منه. اريد ان اخرج من هذا الجيب اللعين ومن هذا الصندوق النتن ولا اُلامس هذه الأيادي المغلولة حتى على نفسها وابنائها. اريد الهواء الطلق، اريد الحرية، اريد التداول، اريد الترحال. اريد ان تلمسني ايادي كريمة سخية معطائة. اريد ان العب بين انامل الفتيات اللعوبات واصابع السيدات المتألقات ومحافظ الرجال ذوي الكبرياء والأعتزاز والسخاء والذين بكرمهم  يتنافسون مع اقرانهم في الكرم والجود. رحلتي كانت طويلة جداً لأنني مصنوع من معدن صلب وليس من ورق مطبوع. لاحظت في ترحالي ان تداولي كان سريعا مع الفقراء وبطيئاً مع الأغنياء، سهلاً مع الشباب متعباً مع الكبار، ممتعاً مع النساء مُملاً مع الرجال. واخيراً رحلت في جيب احد المسافرين الى بيروت، الذي استبدلني في سوق الصرافين بالدولار الأمريكي كي ابدأ رحلة كونية غير مستقرة حتى يومنا هذا.

محمد حسين النجفي

آذار 2020 

www.mhalnajafi.org

Remembering My Brother Haj Raad

Two Years Later:
As time passes, the death of my brother Raad becomes more of a reality. We have lost that slim possibility that maybe it was all a nightmare and not true and when we wake up, Raad will still be alive. Around this time, two years ago my son Amer went to see his uncle, followed a few days later by his sister Nada. They went to say goodbye to their beloved uncle they cared for him so deeply while I was under cancer treatment powerless, hopeless, devastated by the doctor’s announcement that my dearest brother days among us are limited.

London 2015

It was so hard for me to call and talk to him, because it meant we were saying goodbye to each other, and that was something we didn’t want to do. And as his elder son Hussein told me later, it was the same for him. His loyal wife Um-Hussein, his dearest sisters Alia and Anwaar, his two brothers Saad and Salam, his closest cousin Saleh and his wonderful children Hussein, Ali, Hasan, Mahdi and Mohammad among many others surrounded him all the time. In his final month, he remained as he always was; in command of his life, never lost faith, generous, and courteous to his waves of friends who were visiting him continuously, day and night.

It was the hardest ordeal for me that I couldn’t be by his bed in his final days. It was heartbreaking for me that the jewel of our family was evaporating from existence before our eyes and we had no say or power to change the sequence of events. We were all paralyzed, physically, emotionally and mentally. Among all, I am the one who knew him all of his life. I am the one who knows him inside and out. I am the one who lived with him without any barriers whatsoever, but I am not at his bedside.

California 1985

Regardless of all that, we strongly believed that a miracle has to happen. God has to interfere to save such a faithful man. Crazy and wonderful things happen in life. We have seen that in movies, we read it in many books, we’ve heard it in so many stories from our grandmothers and grandfathers. Miracles exist and we are waiting for one to surprise us. Miracles and immortality come in many different ways. For Raad, his miracle was his strong command and his unwavering faith even during his final days.  His immortality translated very well, during his Fatiha (فاتحة) proceeding with the outstanding attendance by all the drives of Iraqi community members living in Greater London. I heard from many friends who attended his Fatiha that it was the largest ever. The attendance was not for the sake of anyone. He was not a billionaire. He was not an Iraqi political leader. He was not a high ranking British official. He is not a Sayad or religious scholar.  The attendance was simply to share the sorrow for the loss of a very humble gentleman they know, named; “Haj Raad Al-Najafi” “Abu-Hussein”.

Farewell, brother. You made it. You had a very good life. I am proud to be your brother. Your physical departure is a reality we have to learn to live with, but to be honest, it is not getting any easier. We will always remember you, envy the legendary record of your life, hoping to follow your footsteps and walk in the same direction. You will remain in my broken heart and in my eye’s tears forever. Till we meet again, rest well Hajjie.

 

اللاعب الصغير ومدرسة الحكمة

 “انه لاعب صغير ذو إنجاز كبير، وهذا ما استمرت عليه حياته. دائما يتوقع منه الذي لايعرفه حد أدنى ويستغربون حينما تناطح نتائج أعماله الحدود العليا”
الذكريات:
كان هناك اعتقاد موهوم لدى بعض رجال الدين (وليس المرجعية) وخاصة الشيعة، من ان المدارس الحكومية والأهلية غير الدينية تُدرس مواد علمية وأدبية ربما تتنافى مع التعاليم السماوية. لذا كان بعض رجال الدين ينصحون اتباعهم بأن لا يبعثوا ابنائهم الى تلك المدارس. وهذا ما حدث بالضبط الى والدي حينما كان في الصف الثاني او الثالث الأبتدائي.  حيث انه حينما كان يسير في السوق الچبير (السوق الكبير المسقف) في النجف الأشرف مع والده، صادفهم رجل مُعمم (وليس عالم دين) الذي عاتب جدي لأنه ادخل ابنه “علي” في المدرسة الحكومية، وطلب هذا الشخص من جدي بأن يخرج والدي من المدرسة لأنها حرام. تدخل والدي (وهو في العشر سنوات من عمره) في الحديث دون ترخيص من جدي، وقال له: لكن ابنك معي في المدرسة، لماذا لا تخرجه؟ اعتبر جَدي كلام والدي تحدي وقلة ادب من ابنه، فكفخه على رأسه (ضربه بيده على خلفية رأسه)، وزجر به وفعلاً اخرجه من المدرسة. كان ذلك في حدود عام 1930 في مدينة النجف الأشرف. لقد ادى هذا النهج الى ضعف انتشارالثقافة التعليمية في مناطق الجنوب والفرات الأوسط، لذلك انحسر دورهم في الوظائف الحكومية، بينما اتسع في مجالات التجارة والأعمال الحرة. وبموجب ذلك تغير مسار والدي من الدراسة الى المباشرة في العمل بالسوق الكبير في بيع وشراء اي شيء وكل شيء حسب الموسم وما كان له حاجة في السوق الى ان استقر على التركيز على السلع المنزلية والمطبخية. وكان له صديق من عمره يقوم بذات الشيء وكانوا يأتون الى بغداد لغرض التسوق ويعودون الى النجف معاً. كان هذا الشخص هو الحاج علي مرزة الذي دامت صداقته لأبي ولي شخصيا من بعد ذلك لحين الفراق الأبدي. تطور والدي في التجارة ليصبح من التجار المعروفين في السوق الكبير في النجف في أربعينيات القرن الماضي. ثم لينتقل بعد ذلك الى بغداد للعمل في سوق الشورجة المركز التجاري الرئيس لبغداد وعموم العراق وليكون عضواً في غرفة تجارة بغداد واحد كبار المستوردين للكريستال والفرفوري والسلع المنزلية . 

ونتيجة لما حصل لوالدي في صغره وما رآه من حاجة للثقافة والتعليم عموما ولاهمية تعلم اللغة الأنكليزية خصوصا للأغراض التجارية، كان يسعى ليحصل ابنائه على افضل تعليم ممكن. لهذا السبب ولغيره انتقلنا الى بغداد حيث بدأ مشواري الدراسي بدخول الروضة والتمهيدي والأول ابتدائي في مدرسة راهبات الكلدان، ثم في الصف الثاني الأبتدائي الى السادس الأبتدائي في مدرسة الحكمة الأهلية في الكرادة الشرقية. اعتادت مدرسة الحكمة الأبتدائية الأهلية في الكرادة الشرقية على إقامت مهرجان رياضي ضخم بين سنة واخرى. كان العام الدراسي 1957/1956 هو العام الدراسي لهذا النشاط. وعلى الرغم من ان المدرسة لها مُعلم رياضة وهو الاستاذ عبد القادر، إلا انهم وظفوا مدربا خاصاً متفرغاً للمهرجان وهو الاستاذ انور الذي كان نشطاً ومتحكماً وبشوشاً في آن واحد، لذلك كنا نخافه ونحترمه ونحبنه في نفس الوقت. طبعاً كل الطلاب يُعتبرون من المشاركين في فعاليات المهرجان وخاصة طلبة الصف الرابع والخامس والسادس. ومن بين الألعاب المهمة هي المسيرة العسكرية (يس يم) (Marshall Band). كذلك ركض الـ 100 متر والبريد والقفز والحصان الخشبي (الجمناستك) ووووو. لقد لاحظ استاذ انور التزامي ومهارتي اثناء التدريب فأختارني للمشاركة في نشاط المسيرة العسكرية وركض الـ 100 متر والحصان الخشبي (الجمناستك) وشجعني على التركيز عليها. دعوت امي وابي لحضور المهرجان إلا انهم ليسوا من النوع الذي يحبذ الأشتراك بهذا النوع من النشاطات العامة، لكن

محمد حسين

ابي قال لي شيئاً غير مُشجعاً وهو ان حظي بالفوز بالركض ضعيفاً وذلك لقصر أرجلي. لم افكر بالموضوع كثيراً في حينها، ولكني حينما استذكره الآن اعتقد انه اراد حمايتي من ردود الفعل النفسية في حالة الفشل.

ومدرسة الحكمة من المدارس الأهلية المختلطة التي يمتاز تدريسها بتعليم اللغة الأنكليزية من الصف الأول الأبتدائي. مؤسسها ومديرها كان الاستاذ شوكت زوما الذي استطاع ان يقدم نموذجاً جيداً لما يستطيع ان يقوم به القطاع الخاص في التربية والتعليم، حيث ان المدرسة كانت من حيث البناء والتنسق والنظافة جيدة جداً، كان لدينا قاعة خاصة لتناول الغذاء، وساحة كبيرة للالعاب، وصفوف فرهة وحمامات نظيفة. كان الأستاذ شوكت يحافظ على النظام الصفي بطريق ربما تعتبر قاسية من المنظور الحديث. حيث كان يعاقب الوكحين (المشاكسين)  بالضرب بمسطرة خشبية غليظة، يضربها على كف اليد واحيانا يضرب بالجانب الحاد وليس العريض. اتذكر انه في احدى المرات كسر المسطرة على يديّ من شدة عنف الضربة. وربما كانت هي الطريقة الوحيدة التي يعرفونها او المناسبة في ذلك الوقت. كانت ست ڤكتوريا أخت أستاذ شوكت تساعده في إدارة المدرسة، وهي سيدة من الدرجة الاولى بكل معاني الكلمة. ومن المعلمين والمعلمات الذين اتذكرهم واقدرهم ست “مقبولة” التي درستنا اللغة العربية وست “ثانية” التي علمتنا اللغة الأنكليزية.

كان من زملائي في تلك الفترة مؤيد كاظم الرواف، شكيب عزت السنجقلي، فائز مزهر شنين، صباح نايف جودي،صباح رضا، رعد رزوق اسطيفان، شفيق محمد حسن شاه، محمد رضا قاسم عباس النجفي، خديجة محمود الصراف، سعاد وامل باقرالحريري، احلام عبد الرزاق الحسني، رعد نعيم نعمو، وائل عبد الأمير المرعب، اسعد عباس السعدي، اياد علي عيسى، مصطفى أمين ال عيسى، ايسر زوما، باسم محمد رزوقي، فاروق البعلي، نبيل حسن زلزلة، تغريد ناظم حميد والأخوة موفق وكاظم البياع، صادق حمرة، عدنان عبود عطرچي، ممتازة رديف العبيدي، عماد عبد الجبار الجدوع، منى وحميد وسمية، و خالد وووو.

وجاء يوم المهرجان، وهو يوم مهم لمدرسة الحكمة وللكرادة الشرقية وللأسف لم يحضر اي من عائلتي سوى الصديق حكمت الدقاق. ابتدأ المهرجان الذي كان في باحة المدرسة وكان اهل التلاميذ في ملابسهم الأحتفالية الزاهية يجلسون في موقع عالي (الطارمة) مشرف على باحة النشاط. ابتدأ المهرجان بالسلام الملكي والمسيرة العسكرية، وكان هناك معلق وميكرفون ومصورين. وفعلا كان احتفالا ابتهاجياً تفتخر به مدرسة الحكمة واستاذ انور واستاذ شوكت. كان الجمهور متحمساً ومشاركاً بالهتاف والتصفيق وخاصة المذيع الذي منحني من دون الآخرين لقب “اللاعب الصغير” بعد ان فزت الأول في المارشال باند. اعقبها وهذه كانت مفاجئة للجميع فوزي بالمرتبة الأولى في ركض الـ 100 متر. استمرت السباقات وكان آخرها اهمها وهو سباق العاب (الجمناستك) الذي كنت مشاركاً فيه. كانت العاب الجمناستك تتم على الحصان الخشبي الذي يتضمن قفزات والعاب عليه لتنتهي في النهاية بقفزة من حافة الحصان لنصل الى الأرض واقفين بثبات دون التأرجح او السقوط. كان المذيع متحمساً للجميع إلا انه منحازاً بشكل واضح لـ “اللاعب الصغير” الذي كانت خطواته وقفزاته وثباته على الأرض متميزاً بدقته واناقته.
الحصان الخشبي

حصدت في نهاية المهرجان ثلاثة كؤوس الأول في المارشال باند والأول في ركض الـ 100 متر والأول في الجمناستك، وبالتالي حصلت على حصة الأسد من الكؤوس. وكجزء من مراسيم ختام المهرجان يتم اختيار افضل رياضي او لاعب للمهرجان. وهنا كانت المفاجئة العظمى وهي اختياري ومنحي لقب “بطل المهرجان” ومنحي كأس كبيرة جداً امام تصفيق حاد وصوت المذيع الذي لا اعرفه مغردا بصوت جهوري وواضح لـ “بطل المهرجان اللاعب الصغير”. يوم لا يمكن نسيانه وانجاز لم استطع تكراره إلا بعد ثمانية عشر عاما حينما ناقشت رسالة الماجستير في ادارة الأعمال ودافعت عنها بحرارة ومُنحت اطروحتي درجة “الأمتياز”.

وانا خارج من باب المدرسة استوقفني أستاذ شوكت ليقول لي “عافرم” مبروك الفوز. قلت له شكراً أستاذ. قال عليك ان تعطيني الكأس الكبير كي نحتفظ به في المدرسة ويسجل تحت اسمك. لم يكن في اليد حيلة أعطيته الكأس الكبير وأحسست بالإخفاق بعد ان كنت فرحاً به. كنت أودّ ان آخذ الكأس الكبير لأمي وابي كي يفتخروا بأبنهم صاحب الارجل القصيرة الذي فاز بلقب بطل الاستعراض وسُميّ باللاعب الصغير. خرجت من المدرسة مع الآخرين والكل كان يهنأني ويناديني باللاعب الصغير. انه لاعب صغير ذو إنجاز كبير، وهذا ما استمرت عليه حياته. دائما يتوقع منه الذي لايعرفنه حد أدنى ويستغربون حينما تناطح نتائج أعماله الحدود العليا.
في العطلة الصيفية من عام 1958 وحينما كنا  ما بين الصف الخامس والسادس الأبتدائي حدثت ثورة الرابع عشر من تموز التي هزت مشاعر العراقيين جميعاً، رجالهم ونسائهم، كبارهم وصغارهم، مثقفيهم وامييهم، اغنيائهم وفقرائهم، عربهم واكرادهم. كانت غالبية الناس معها ومع زعيمها عبد الكريم قاسم، وكانت هناك اقلية تتعاطف مع العائلة المالكة. المهم ان الثورة اججت المشاعر الوطنية لدينا مصحوبة بعداء للأستعمار متمثلاً بالولايات المتحدة وبريطانيا العظمى. ولذلك حينما تخرجت من السادس الأبتدائي كان من المفروض ان اكمل دراستي الثانوية في “كلية بغداد” (وهي مدرسة ثانوية اهلية معظم تدريسها باللغة الأنكليزية، بأدارة فاذرية (قسسة) من امريكا، وهذا ما اراده ابي بأصرار. إلا ان “اللاعب الصغير في عمر الثانية عشر تحول الى مناضل كبير!”، لذلك عارضت ذلك بشدة بأعتبارها مدرسة تابعة للاستعمار، وعلينا ان نبتعد عنهم وعن مصادر ثقافتهم. وعليه اكملت دراستي في الثانوية الشرقية مخالفاً بذلك رغبة والدي في الحصول على افضل تحصيل علمي. وعلى الأغلب فإن قراري كان خاطئً ، لأن من المفروض ان التحصيل العلمي مسعى منفصل (اطلب العلم ولو في الصين) عن المشاعر السياسية. ومع ذلك لا اعتقد ان قراري يخلوا من الحدس الصحيح، حيث ان بعض خريجي كلية بغداد تأثروا ببعض مظاهر ونمط الحياة الغربية. ولا اعتقد ان في ذلك مشكلة، سوى انها ليست ما كنت اصبوا اليه في حينها. 
طبعاً  كان ومازال يتفقه علينا اميوا الشؤون الدينية ويدرسونا هذا حلال وذاك حرام وكرروا ذلك حينما اخترع التلفاز، ثم حينما وصل الأنسان وهبط على سطح القمر، وهم لم يتعلموا المعنى الحقيقي للاديان السماوية ونسوا او تناسوا ان اول كلمة نزلت على النبي (ص) في غار حراء هي: “أقرأ”.
شكرا لأبي الذي تعلم من تجربته السلبية، ومنحنا فرصة لم تتسنى له، وشكرا لأمي ربة البيت الأمية التي لاتعرف من القراءة سوى قراءة القرآن الكريم بطريقة الهجاء الملائية، والتي شجعتنا على تحصيل العلم في مدارس الراهبات ولم تجد في ذلك ما يتنافى مع تعاليم الأسلام.
محمد حسين النجفي
25 آب 2019
www.mhalnajafi.org

التقييم الموضوعي لثورة تموز عام 1958

ما زال العديد من المثقفين والمؤرخين يعيدون ذكريات ثورة 14 تموز عام 1958 ويُقيمون تلك التجربة وزعيمها عبد الكريم قاسم من وجهات نظر متباينة جداً. فمعظم اليساريين والشيوعيين موقفهم واضح في التقييم الإيجابي للثورة وزعيمها، على الرغم من أنّ معظم قادة الثورة وزعيمها لم يشاطرهم  نفس المشاعر او التقييم. ويعلم اليساريون عموماً والشيوعيون خاصة انهم لاقوا من الاضطهاد والحيف والعزل والسجون في عهد قاسم اكثر مما نالهم في زمن العهد الملكي.  إلا انهم ظلوا مناصرين ومدافعين عنه بحجة ان  “تقيمهم للثورة ولعبد الكريم قاسم يعتمد على ما تقدمه الثورة من انجازات تشريعية واقتصادية واجتماعية لعموم الشعب، ولا يعتمد على طبيعة علاقتهم به فقط”. 

اما الذين يقيمون الثورة وزعيمها عبد الكريم قاسم سلباً سواء في فترة حكمه تلك او امتداداً ليومنا الحاضر، فإنهم نوعين: النوع الأول هم المتضررون بشكل مباشر من الثورة، وهذا يشمل العائلة المالكة والحاشية والساسة المقربين لنوري باشا والطبقة الثرية الأرستقراطية. والنوع الثاني هم من تضرروا لاحقا من تشريعات الثورة بسبب قوانين الأصلاح الزراعي وقانون الأحوال الشخصية وهم شيوخ العشائر وملاك الأراضي ورجال الدين. وكان من الطبيعي لهتين المجموعتين ان تحاربا الثورة بشتى الوسائل مستغلة بشكل فعال الحوادث المؤسفة الحزينة التي تم بها تصفية العائلة المالكة وسلوك الغوغاء في سحل عبد الأله ونوري السعيد في شوارع بغداد. وعلى الرغم من ان ذلك كله لم يحدث بأمر مباشر او غير مباشر من الزعيم او من اي حزب سياسي، إلا انها لُصقت بهم الى يومنا هذا واصبحت قميص عثمان العراق.

الزعيم عبد الكريم قاسم
الملك فيصل الثاني

وكما يحدث عادة في كل الثورات فإنها تأكل رجالها. حيث حدث الخلاف القاتل بين الزعيم والشخص الثاني من قادة الثورة العقيدعبد السلام عارف. حيث اصر عارف على الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا) بينما فضل قاسم ان يتم الأتحاد تدريجياً وبخطوات محسوبة. وهنا قيم البعثيون والقوميون من الضباط والشباب ان الزعيم لا يملك شعور قومي واتهموه بالشعوبية، وزاد في الطين بله ان ايد الشيوعيون قاسم وتفضيلهم للأتحاد الفدرالي التدريجي بدلاً الوحدة الاندماجية الفورية. واصبح الخلاف ليس مع قاسم وانما بين القوميين والبعثيين من جهه والقاسميين والشيوعيين من جهة اخرى.

حقيقة الأمر ان عبد الكريم قاسم وتنظيم الضباط الأحرار لم يكن مُحدد بآيدولوجيا واضحة المعالم، سوى اسقاط الملكية وتأسيس الجمهورية على غرار التجربة المصرية. كان معظمهم ذو اتجاهات ومشاعر “مزدوجة” قومية عروبية من جهة ونهج يساري علماني من جهة اخرى. لذلك انقسم الضباط الأحرار والشارع العراقي في مسألة الوحدة الفورية. وتحولت الى فرصة للخلاف لا اكثر ولا اقل، استُغلت للحشد الجماهيري وللسيطرة على الحكم من قبل البعثيين. وبناء عليه جرت محاولة عبد السلام عارف للسيطرة على السلطة بعد شهرين من ق، اعقبتها حركة رشيد عالي الكيلاني  ثم حركة الشواف في الموصل بتنسيق مع المخابرات المصرية بعد تسعة اشهر من الثورة ثم احداث كركوك المروعة بين الاكراد والتركمان بذكرى السنة الأولى للثورة، ومحاولة اغتيال الزعيم في شارع الرشيد و تمرد البارازاني في شمال العراق وقضية الكويت والمشاكل مع ايران ومصر والأردن وغيرها لتتكلل بقانون رقم (80) الذي استرجع العراق بموجبها اكثر من 95% من الأراضي غير المستثمرة من الشركات النفطية الأجنبية لغرض استثمارها مباشرة من قبل العراق. وكان هذا القانون القشة التي قصمت ظهر البعير والتي ادت الى اغتيال الثورة وانجازاتها وزعيمها ورفاقه بضربة واحدة في يوم 8 شباط عام 1963.

ان تقييم الزعيم على انه كان وراء تصفية العائلة المالكة ليس صحيحاً واتهامه كونه شيوعياً او يسارياً متآزراً معهم ايضاً غير صحيح، وانه كان مناهضاً للوحدة العربية عار عن الصحة ويشهد له سجل حرب فلسطين ودعمه للثورة الجزائرية ومنظمة التحريرالفلسطينية. ان ثورة تموز وزعيمها ضحية لمن حكموا العراق قبله، ومن دمروا العراق بعده ليومنا هذا. ولازلنا لحد الآن نسمع التنكيل دون اثبات او اسباب من ان ثورة تموز هي من فتح ابواب جهنم على العراق، ناسين انهم لو درسوا حقبة الحكم الملكي لوجدوا انها لم تكن مستقرة ابداً، وانها شهدت العديد من الأحداث الدموية والمحاولات الأنقلابية.

ان هذا لا يعني ان الثورة وزعيمها معصومين من الأخطاء والمسؤولية، لا بل والحق يقال ان نهاية الجمهورية الأولى بهذا الشكل المأساوي يترتب على عاتق زعيمها بالدرجة الأولى، وعلى القوى القومية التي سعت الى السلطة بشكل دموي بالدرجة الثانية. حيث ان احتفاظ الزعيم بالسلطات التشريعية والتنفيذية وحتى القضائية (الأحكام العرفية) طيلة فترة حكمه وزجه للمعارضة السلمية في المعتقلات والسجون وعدم تأسيسه لمجلس قيادة الثورة او مجلس نواب منتخب وغير ذلك من الأمور مهد ومنح خصومه ادوات فعالة استُغلت في خلق الظروف المواتية لردة 8 شباط 1963.

أسئلة ستبقى في ذهن المؤرخين:

هل كان هناك ضرورة ملحة لثورة 14 تموز 1958؟

ما هو حال العراق اليوم لو لم تحدث ثورة تموز او اي حركة مماثلة لها؟

محمد حسين النجفي
   14 تموز  2019  

جلسة فصل عشائرية

“قلت: … شيخنا الموضوع كذا وكذا ونحن عائلة مدنية مسالمة ولسنا من العشائر، ولسنا مؤهلين لدفع فدية او دية عشائريا. أجابني الشيخ الموقر بكل تواضع وخجل وقال لي: هل فعلاً يستحق موضوع كهذا جلسة عشائرية؟  وأضاف “والله أكوا ناس دينزلون قيمة العشاير والمشايخ ويشوهون سمعتنا، ولكن مع ذلك يا أستاذ بما انه طلب منك ذلك، لابد لنا من الجلسة واترك الباقي عليّ….”
القصة كما حدثت:
وقع حادث صدام مروع بين اخي عصام مع سائق سيارة اخرى وجها بوجه في الشارع الرئيسي الملتوي في مدينة الدورة احدى ضواحي جنوب بغداد في جانب الكرخ تطل على الشاطئ الغربي لنهر دجلة، مقابل الجادرية نهاية شبه جزيرة الكرادة الشرقية. كان اخي عصام معلماً في ابتدائية الدورة عام 1977. حدث التصادم عصرا بعد انتهاء الدوام. كان الصدام شديدا جداً، نقل على اثره الأثنين الى مستشفى الكرامة. ذهبت الى مستشفى الكرامة لتفقده قالوا انهم قد اخرجوه بعد تضميد جرح في رأسه. ولكنه لم يأتي الى البيت، فأين هو؟ اجابني احد الموظفين بأنهم اخذوه الى مركز شرطة الدورة. ذهبت الى مركز شرطة الدورة كي اراه وكان كل رأسه ملفوف بضمادات بيضاء مليئة ببقع حمراء، وهو متعب جدا لا يستطيع فتح عينيه وغير قادر على الكلام. سألت لماذا اخي موقوف، انه حادث سيارة؟ قالوا لأن السائق الآخر راقد في المستشفى. قلت وهل استطيع اخراجه بكفالة؟ قالوا كلا لأن الشخص الآخر مازال في المستشفى، وهذا هو القانون. سألت عن الشخص الآخر، قالوا انه ضابط في الأمن الأقتصادي (مخابرات)! إتصل اخي رعد بصديقه محمد حسن حبيب الذي يعمل في وزارة الصحة. كان محمد حسن من الشباب المقدامين والجريئين اضافة لكونه مدعوم سياسياً. ذهب الى مستشفى الكرامة ليستفسر كيف ولماذا اخرجوا عصام من المستشفى وهناك ضربة وجرح عميق في رأسه؟ اخبرنا محمد حسن مساءا بكامل ما جرى في المستشفى. ان الكادر الطبي في مستشفى الكرامة خضع لضغط من قبل ضابط الأمن الذي لم يلحقه اذى نتيجة الحادث سوى كسر احد اسنانه الأمامية. وانهم اصدروا اوراق على انه أُدخل المستشفى كي يتم توقيف عصام بناء على ذلك. وانه ضغط على طبيب الطوارئ كي يأمر بعدم ضرورية بقاء عصام في المستشفى كي يتم توقيفه انتقاماً.
 
 كان قلقي الرئيسي هو ماذا لو كان هناك نزيف داخلي في رأس عصام؟ وماذا وماذا لو؟ سيطرت الأفكار السوداء على تفكيري طوال الليل، لذلك اتصلت بخالي الحاج كريم في لندن لأنه يعرف صديق مشترك هو قيس، كي نستنجد به لا لشئ وانما كي ارجع عصام الى المستشفى. اتصل خالي به ومهد لأتصالي به. ذهبت اليه في شارع هويدي الثاني وشرحت له الموضوع. قال دعنا نذهب الى مركز شرطة الدورة. قيس كان من الحرس الخاص المرافق لرئيس الجمهورية آن ذاك أحمد حسن البكر. الا انه بعد حركة ناظم كزار احيل على التقاعد. طلب مني قيس البقاء في السيارة. ترجل ومشى بطريقة مهيبة تدل على انه ضابط مهم بالرغم من كونه مدني وضابط سابق. استعد له شرطي المناوبة في باب المركز. دخل قيس يعربد بصوت عال مستعملا الفاظا مهينة: اين مأمور المركز…… اين ضابط المركز….. وانا خارج المركز اسمعه يهينهم …. فعلكم….. ترككم…… ويقول لماذا عصام ليس بالمستشفى؟  ولماذا …. والله سوف افعل كذا وكذا…….
 
خرج قيس من المركز ومعه عصام. اخذناه مباشرة الى مستشفى الكرامة حيث كان محمد حسن بالأنتظار . ادخله الدكتور ليبقى للمراقبة 48 ساعة. تركته مع محمد حسن لأوصل قيس الى بيته متشكراً منه مساعدتنا عالماً من انه ربما عرض نفسه لمخاطر شخصية. رجعت في المساء الى المستشفى حيث كان عصام غاطاً في نوم عميق في قاووش (ردهة) لحوالي ست او ثمان مرضى. قررت البقاء معه حتى الصباح. سحبت كرسياً وجلست جنب رأسه اسمع عمق شخيره المتأتي من هول الصدمة القاسية. بعد حوالي السابعة او الثامنة مساءا اطفأت معظم الأنوار كي ينام المرضى حتى الصباح. كان ليلا هادئاً ساكناً موحشاً ومخيفا في نفس الوقت تتخلله آهات وأنات مرضى جميعهم في حالة خطرة وقلقة، وكنت المرافق الوحيد الواعي لما يحدث والمستمع الصاغي بحكم الضرورة للمعزوفات المؤلمة.
 
بعد مرور عدة ساعات ودخولنا في عمق الليل، سمعت وقع اقدام لعدة اشخاص قادمين بأتجاه الردهة. كان لابد لي ان افترض ان الطاقم الطبي يقوم بجولة تفقدية للمرضى. ولكن حينما فُتحت باب الردهة دخل ثلاثة اشخاص من النوع الذي تستطيع تحديدهويتهم بمنتهى السهولة. إنهم إما شقاوات (فتوة) شارع او شرطة أمن بملابس مدنية. وصلوا الى سرير عصام الذي كان يغط في نوم عميق جداً. اما انا فكنت مرهقاً جداً وشبه نائم ، إلا ان طريقة قدومهم وشكلهم المرعب في خضم ليل رهيب أرعبني وايقضني تماماً. سألني أوسطهم واضخمهم، والشر يتطاير من عينيه، من انت؟ أنا محمد أخو عصام. وماذا تفعل هنا؟ أنا مرافق لأخي. ولماذا عصام في المستشفى؟ لأن الضربة في رأسه وهناك خوف من نزيف داخلي. سكون قاتل لعدة ثواني تخللته حركات مريبة، حيث كان ثلاثتهم ينظرون الى بعضهم البعض دون ان يستديروا برؤوسهم، وإنما عن طريق تحوير العيون جانبياً. ظلوا واقفين مترددين لا يعلمون ماذا سيفعلون؟ في النهاية اكثروا من نظراتهم الشريرة باتجاهي على شكل تهديدي ملحوظ ومباشر ورحلوا. بقيت مرعوباً خائفاً وكل اعضاء بدني ترتجف من هول الموقف الرهيب. ولكنني حمدت الله على بقائي جنب أخي، لأني متأكد من ان مرادهم كان أما الاعتداء عليه أو ارجاعه الى الموقف في اهون الحالات.
بقيت واعيا لأحتمال عودتهم مرة ثانية، وكلما اشعر بالنعاس أقف وأتجول قليلاً، كي انشط نفسي حتى ينقشع الظلام الساكن المخيف. لم يخب ظني كثيراً، ولم انتظر طويلا، حيث سمعت وقع اقدام الجستابو الرهيبة مرة اخرى تقترب تدريجياً الى ان فتحوا الباب، فرؤوني واقفاً جاهزاً لملاقاتهم هذه المرة. بعدك أهنا؟ نعم أنا باقي، ماذا تريدون؟ لم يجبني أين منهم. استرسلتُ بالسؤآل رغم ضعف ركبتيّ من الخوف؟ هل أنتم موظفين في المستشفى؟ مرة اخرى تخاطبوا بعيونهم دون ان يستديروا برؤوسهم. كان لسان حالهم يقول لا نستطيع ان نفعل شيئاً وأخوه لنا بالمرصاد. لم اصدق رحيلهم وكأنهم كانوا ثلاثتهم بجثثهم الهامدة جالسين على صدري. كل هذا ولازال عصام في غيبوبة عميقة وشخير يكاد يهز نوافذ الردهة. وما ان بزغ الفجر وأصبحت الساعة السابعة صباحاً حتى بدأ الكادر الطبي من ممرضات ومعينين وأطباء بالعمل كل حسب اختصاصه. استيقظ عصام فشعرت بالأمان اكثر. استأذنته لأنني يجب ان التحق بالدوام.
  ذهبت الى الدوام في الجامعة المستنصرية وبعد انتهائي توجهت مباشرة الى مستشفى الكرامة لتفقد اخي. ولكن حينما وصلت لم يكن في سريره. وحينما سألت اخبروني بأن الدكتور قد قرر ان علاجه انتهى، وكان الشرطي بأنتظار ذلك كي يرجعه الى التوقيف في مركز شرطة الدورة. ولكن الدكتور اوصى بالمراقبة 48 ساعة؟ ما الذي حدث؟ صمتٌ وافواه مكممة والجواب معروف. كان لابد لي من الأستعانة مجدداً بقيس خاصة بعد ان علمنا من ان الضابط لم ينم ولو لساعة في المستشفى وانما التقرير كان لغرض ابقاء عصام في التوقبف. بمساعدة الأخ قيس، استطعنا اخراج عصام من التوقبف بكفالة بعد جهد جهيد واخذناه الى طبيب العائلة الدكتور عبد المجيد حسين في مستشفاه للأطمئنان عليه. كان هذا الحادث بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة الى اخي. حيث ان عصام خدم في العسكرية بعد تخرجه وكان ذلك اثناء حرب أكتوبر (رمضان) عام 1973. وعلى الرغم من انه لم يشترك في الحرب واستطعنا ان نبقيه في معسكر الرشيد، إلا ان كثرت الأنذارات وحجر الجنود في المعسكرات بحجة الأنذار (ج) الذي كان يستخدم اعتباطياً في الكثير من الأحيان قد ابزعت حياته. النتيجة: قرر عصام ان يهاجر الى السويد لأن احد اصدقائه قد سبقه الى هناك وكان يشجعه على السفر. سافر وفي فمه مرارة كان بعضها مفهوماً وكان قسم كبير منها غير معلوم.
جاء موعد المحكمة فذهبت الى مجمع المحاكم في جانب الكرخ في الساعة الثامنة صباحاً بأنتظار ان يدعونا القاضي للمثول أمامه. وسبب حضوري لأني كفيل اخي ولأن عصام قد هاجر الى السويد مع نية عدم الرجوع. وأثناء انتظارنا كان ضابط الأمن الذي تصادم مع عصام يحدق بيّ بطريقة من يريد ان يخلق سبباً للخصام. حاولت تجنبه قدر الإمكان. شاغلت نفسي بالتحدث مع الشرطي الذي يحمل معه ملف القضية والقادم من مركز شرطة الدورة. لاحظت ان الشرطي كان في منتهى الاناقة في الوجه والملابس وانه يحمل رتبة عريف رغم صغر سنه. تحدثت معه وقال لي انه قد تخرج للتو من دورة للانتربول من فرنسا. وانا اتحدث معه لاحظت ان الملف يحمل عنوان “حادثة دهس”، فقلت له انه حادث صدام سيارتين وليس حادث دهس. اجاب انه لا معرفة له بالقضية، وان واجبه يقتصر على تسليم الملف للقاضي حين الطلب. ادركت ان الموضوع به الكثير من التلفيق وتغيير الحقائق مما اثار حفيظتي (علمنا بعد ذلك ان غريمنا لم يكن حاصل على اجازة سوق وبالتالي لا يحق له ان يسوق، وفي حال وقوع صدام فإنه سيكون المذنب في جميع الحالات). بلغت الساعة الثانية عشر ظهراً وإذا بنادل المحكمة يخرج إلينا ليقول ان الدوام انتهى وتؤجل القضايا الباقية. حينها جاء الخصم وقال لي أين عصام؟ جاوبته بأزدراء سخيف لم يكن في محله بأن : عصام سافر للسويد يندعيلك! (ما معناه يدعوا لك عند الأئمة). قال لي انت محمد حسين؟ قلت نعم. قال لي: اسمع! آني ما اعترف لا بالمحكمة ولا بالقاضي ولا بالقانون! إحنا عشائر وآني آخذ حقي منكم عن طريق عشيرتي. 
 
لم أعر للموضوع اهتماما كافياً لأننا نعيش في عام ١٩٧٧ ضمن دولة مدنية علمانية ليس من المفروض ان تقبل ان تشاركها العشائر أو المرجعيات الدينية في السلطة. وكل ضني ان سلطات العشائر ونفوذها قد اضمحلت أو ضعفت بعد ثورة ١٤ تموز عام ١٩٥٨. وكان عجبي ان ضابط امن يقول انه لا يعترف بالشرطة والقضاء والقانون! المهم مرت ايّام دون اكتراث للموضوع الى ان طلب مني “ابوعمار” وهو جار لنا في سوق الشورجة وأيضاً جارنا في السكن في الكرادة الشرقية. دعاني ان ازوره في البيت مساء بعد العشاء كي نشرب الشاي معاً، وان هناك موضوع مهم يريد ان يحدثني به. ذهبت اليه ومن البداية قال لي قبل ان نشرب الشاي ويضيع الموضوع: دعني أحدثك عن موضوع عصام! استغربت لمعرفته بالموضوع، وقال انا اعرف ضابط الأمن جيدا والتقيت به وهو يعرف الكثير عنك، فمن الأفضل ان نرضخ لمطالبته بحل عشائري. مرة اخرى استهنت بالموضوع ورفضت الرجوع عشرات السنين الى الوراء كي نحل خصام حادث صدام سيارتين عشائرياً. هنا استوقفنني ابو عمار بحدة وقال لي: اسمع ابوجاسم (وهي كنيت كل من اسمه محمد) انه مطلع بالتمام على ملفك (اضبارتك او فايلك) بالأمن وانه ذكر ان لك أختين عالية وانوار طالبات في الجامعة المستنصرية! هنا أصابتني حالة من الشعور بالعجز والضعف والخوف من ان يتم أي شيئ يمس خواتي أو يلحق بهم الأذى بأي شكل من الأشكال. رضخت للحلول التي يقترحها ابوعمار الذي كان مخلصاً جداً في موضوع التوسط لصالحنا.
أخذني ابوعمار معه الى مدينة الضباط في اليرموك وزرنا عدة ضباط عسكريين واستشرناهم كيف نتصرف؟ كان رأيهم صادماً لي لأن الكل اقترح لابد من الموافقة على الحل العشائري. بعد ذلك قررت الذهاب الى لقاء رئيس العشيرة، فذهبت الى المدرسة التي كان يُدرس بها عصام والتقيت بمدير المدرسة الذي رحب بي بحفاوة وانه يحب أستاذ عصام كثيراً. حكيت له الموضوع فتأسف كثيراً وقال لا عليك سأدلك على رئيس العشيرة اذهب اليه وقابله وسلملي عليه، انه إنسان طيب وسوف يساعدك.  ذهبت حسب الوصف وكان الفصل ربيعاً و أشجار النخيل على مدى البصر، وتحت ظلالها على جانبي الطريق اشجار الفاكهة، مقدحة بأزهار ثمار الخوخ والعنجاص والبرتقال والليمون والرائحة زكية جداً والريح القادمة من ضفاف  دجلة الخير تحمل نسمات باردة ومعطرة لا يمكن نسيانها. وقفت على السد امام البستان ونزلت لأرى فلاح بسيط بيده المسحاة، واضعاً ذيل دشداشته (ثوبه) في حزامه‘ يحاول تعديل وترميم السواقي بين اشجار الليمون والبرتقال. بعد السلام عليه أخبرته بأني اريد الوصول الى الشيخ فلان. استغربت كثيراً حينما قال: وصلت، آم؟. . اجبته لا يأمر عليك ظالم شيخنا، وقلت: … شيخنا الموضوع كذا وكذا ونحن عائلة مدنية مسالمة ولسنا من العشائر، ولسنا مؤهلين لدفع فدية او دية عشائريا. أجابني الشيخ الموقر بكل تواضع وخجل وقال لي: “هل فعلاً يستحق موضوع كهذا جلسة عشائرية؟  وأضاف “والله أكوا ناس دينزلون قيمة العشاير والمشايخ ويشوهون سمعتنا، ولكن مع ذلك يا أستاذ بما انه طلب منك ذلك، لابد لنا من الجلسة واترك الباقي عليّ….”. شكرته جدا جدا ومنحني الثقة باننا سنكون في أيدي امينة. وأضاف ما رأيك في اليوم الفلاني ان تأتي مع مجموعة من كبار القوم من عائلتكم ونجتمع في بيت والد الخصم في شارع فلسطين. شكرته وانا واثق من اننا سنكون في أيدي امينة. 
فعلاً جهزنا ثلاث سيارات من التجار والحجاج والخوال وأبوعمار وذهبنا. استقبلنا الشيخ ووالد الغريم ووالدته التي كانت ذات شخصية تدل على علو مكانتها ورفعة اخلاقها اما صاحبنا فكان غائباً ولا ادري ان كان ذلك مقصوداً ام لا؟  بدأ  الحديث نيابة عنا ابونضال وقال اننا نعتذر عن الأذى الذي لحق بأخينا وأننا مستعدين لتحمل كافة مصاريف العلاج الطبي ومصاريف تصليح السيارة وما ترونه مناسباً، اسنده خالي الحاج مهدي بكلام مليئ بالحكمة والورع. أجابنا والد غريمنا بحضور الشيخ بأن مجيئكم هو خير تقدير وشرف لنا وهذا يكفي ولا غرامة أو فدية مطلوبة. كان لقاءاً بمنتهى الاحترام دون توبيخ أو تهديد أو ابتزاز، وتحولت الجلسة من جلسة فصل الى جلست صُلح بفضل حكمة الشيخ ووالدي الغريم. مع ذلك طلبت من ابوعمار ان يتحدث مع غريمنا ويصر عليه ان ندفع مصاريف الطبابة لكسر احد اسنانه وتصليح السيارة وكانت جميعها بحدود ٣٠٠ دينار، دفعناها بكل ممنونية. بعد ذلك دعانا ابو عمار لجلسة صلح في مطعم  شاطئ الجندول على ابي نؤآس على شراب وسمك مسقوف، وكانت جلسة جميلة على انغام كوكب الشرق أم كلثوم. وهكذا تسير الأمور على مايرام بعد العناء والقلق وقلة المنام.
حدثت هذه القصة عام 1977 كما ذكرت سابقا يوم كان هناك حكومة مركزية بمنتهى القدرة على التحكم وبقسوة على مجريات الأمور. ومع ذلك فإن ذلك لم يمنع او يردع غريمنا هنا من ان يستغني عن السلطة ويفضل ان يأخذ حقه عن طريق العشيرة. وللعلم فإن “صدام” وخاصة بعد عام 1979 روج وشجع لبعث النزعة العشائرية وترويجها كبديل او مكمل لحزب البعث الذي تحول بعد ذلك من حزب موال الى افكاره مهما كانت الى حزب موال لصدام، وتحول دور الشيخوخ بدلا من حماية ابناء عشيرتهم الى امراء يعلنون البيعة والنصرة  للقائد الضرورة، ويجندون شبابهم لحروب لا طائل لها. اما بعد عام 2003 وبالغياب الكلي لسلطة الدولة فقد تحولت العشيرة الى دولة داخل الدولة. والحق يقال فإن الشيوخ والوجهاء لعبوا دورا ايجابيا في بداية الأمر لحماية ابنائهم، ولكن تحول ذلك تدريجا من الحماية الى الجباية بمرور الزمن وانتشار الفساد وضعف الأمن والأمان واستمرار غياب الدولة والأهمال الكلي لحماية المواطن المسالم الذي لا حول ولا قوة له. اتمنى ان يكون جميع شيوخ العشائر والوجهاء من النوع والعزة والشرف الذي ساقتني الأحداث للتشرف بمعرفتهم والذين ترسخت ذكراهم الطيبة في ذاكرتي، لأني متأكد من انهم لم يقدموا الأحترام لنا فقط، وانما وبخوا غريمنا لتهوره ولزجه العشيرة في مسألة ذات طابع مدني ولها حلول قانونية بسيطة ومنصفة للطرفين.
 

ساحة قحطان

“صديقنا قحطان اخذته الحمّية  ليشارك بالهجوم على احدى باصات مصلحة نقل الركاب الحمراء، كي يحرقوها ويعتدوا على سائقها وجابيها، ليسقط قتيلا برصاص رجال الأمن “
من اليمين حكمت الدقاق ومحمد حسين وقحطان السامرائي وعلي سبع عام 1959 شارع الهندي امام بيت قحطان
 
مقلباً في صور الماضي السحيق عثرت على هذه الصورة التي اعادة ذكريات ايام واصدقاء واحداث جميلة في عموم مظهرها مؤلمة في بواطنها. لم يتجاوز عمري في هذه الصورة سوى اثني عشر عاما، وكنا نسكن في شارع الهندي، منطقة البوجمعة،  الكرادة الشرقية.  اُخذت هذه الصورة عام 1959 يوم كانت البجامة ليست قميصاً للنوم فقط، وانما ملبساً مناسباً جداً خارج البيت ولركب الدراجة والتجوال في الشوارع وحتى الذهاب بها الى السينما. ومن بين اصدقاء تلك المرحلة صديق الطفولة كان ومازال حكمت الدقاق وصديق كان قريبا الينا ولكن تدريجياً اتسعت الهوة بيننا نتيجة تعمق الخلاف الفكري والسياسي معه وهو قحطان عبد اللطيف السامرائي. كنا في نقاش مستمر، خاصة بعد ظهور الخلاف بين الزعيم عبد الكريم قاسم والعقيد عبد السلام عارف. انا وحكمت كنا مع الأتجاه الوطني التقدمي المؤيد للزعيم عبد الكريم قاسم، بينما كان قحطان ذو توجه قومي، ومغرماً بالرئيس جمال عبد الناصر والوحدة مع مصر وسوريا تحت قيادته. كان قحطان اكبر منا سناً بحدود السنتين، ونتيجة لميوله القومية انتسب الى حزب البعث في تلك المرحلة.
في ربيع عام 1962 اقدمت حكومة الزعيم عبد الكريم قاسم على زيادة سعر وقود السيارات (البنزين) بمقدار زهيد وهو 5 فلوس للغالون الواحد على ما اتذكر. القوى السياسية التي كانت متحكمة بتحريك الشارع العراقي آن ذاك كانوا الشيوعيون من جهة والبعثيون والقوميون متحدين من جهة اخرى. ومن بين النقابات التي كانت ما تزال تحت تأثير الشيوعيين نقابة سواق سيارات الأجرة، والتي لم تكن من النقابات المهمة، لذلك لم يبذل الزعيم جهداً واسعاً للسيطرة عليها. بينما النقابات المهمة من حيث العدد والتأثير الأقتصادي والأجتماعي مثل نقابة السكك الحديد ونقابة عمال النفط واتحاد الجمعيات الفلاحية قد تم السيطرة عليها عن طريق شراء ذمم بعض القيادات وتزوير الأنتخابات لتنصيب قيادات موالية للزعيم بعد زج معظم قادة النقابات اليساريين امثال: علي شكر وصادق جعفر الفلاحي وكليبان وووو في المعتقلات والسجون. ومن جهة اخرى من بين النقابات المهمة التي لم يستطع الزعيم السيطرة عليها هي نقابة المعلمين ونقابة المحامين اللتان كانتا تحت نفوذ مشترك بين القوميين والبعثيين.
كان البعثيون عام 1962 في مرحلة الأعداد للأنقضاض على سلطة الزعيم، وتغيير السلطة السياسية عسكرياً لصالحهم. لذلك قرروا ان يستفيدوا ويستغلوا من قرار رفع اسعار البنزين لتأجيج الشارع ضد القرار، وبالتالي ضد الحكومة والزعيم. فأعلنوا اضراب سواق سيارات الأجرة. وفي نفس الوقت اعلنت نقابة سواق سيارات الأجرة الموالية لليسار الأضراب السلمي مطالبين برفع الحيف عن سواق السيارات الذين يعتبرونهم من الكادحين. إلا ان الأضراب السلمي لم يكن كافياً للبعثيين، ما لم تعم الفوضى ويسقط قتلى وتسفك دماء. لذلك نقلوه الى مرحلة اكثر عنفاً، وهو الأعتداء على باصات مصلحة نقل الركاب وهي الباصات الحمراء التي تعتبر رمزا متحركا وسمة من سمات مدينة بغداد كما هي لمدينة لندن البريطانية.  انتشر الغوغاء دون دعوة او تحفيز من قبل الشيوعيين او النقابة، ولكن بدفع من ايادي لم تكن خفية وهي ايادي المتآمرين وبدأت مرحلة العنف. ولكن الزعيم الذي كان همه الوحيد في تلك الأيام، هو اضعاف نفوذ الشيوعيين، علماً انهم كانوا سنده الوحيد لم يدرك خطورة الأمر وابعاده السياسية.  لقد طالب البعثيون سواق الباصات العامة المشاركةِ بالأضراب، وكان ذلك من الصعب تنفيذه لعدة اسباب منها ان النقابة لم تطلب ذلك منهم، وثانيها انهم لا يدفعون ثمن البنزين، وثالثها انهم يعملون لمصلحة حكومية وربما يؤدي ذلك لفصلهم من العمل. وعليه لم يشارك سواق الباصات في الأضراب مما جعلهم هدفاً لغوغاء الأضراب في شوارع بغداد ومعظمهم من المراهقين والشقاوات (الفتوة).

صديقنا قحطان إما جائته الأوامر من حزب البعث او اخذته الحمّية وخرج الى شارع الكرادة داخل قرب شارع الهندي في محلة البوجمعة ليشارك مع مجموعة من المراهقين المندفعين  بالهجوم على احدى باصات مصلحة نقل الركاب الحمراء، كي يحرقوها ويعتدوا على سائقها وجابيها، ليسقط قتيلا برصاص رجال الأمن الذين كانوا في باصات الأمانة لحمايتها بأعتبارها من الممتلكات العامة. سماعنا للخبر كان صدمة كبيرة. قحطان صديقنا قتل! لماذا وكيف وهل كان يجب ان يقتل؟ وهل يستحق الأضراب مثل هذه التضحيات الجسام؟ قحطان لم يكن سائق سيارة وبالتالي لا علاقة له بسعر البنزين. قحطان لم يكن سياسياً بمعنى الكلمة لأنه لم يكن سوى فتىً مراهقاً تحت تأثير الأفكار القومية.

 

ساحة قحطان اليرموك

كان لما حصل لقحطان اثر وتأثير واعادة تفكير لما كان يحصل حولنا. اسئلة عديدة منها، لماذا تلجأ القوى السياسية الى العنف؟ ولماذا تستخدم الدولة اقصى درجات الردع لتصل الى حد قتل متظاهرين، حتى وان كانوا يعتدون على الممتلكات العامة؟ مضت ستون عاما على هذا الحدث وللأسف مازال يتكرر ويتكرر ويتكرر عبر العقود.

ومن الجدير بالذكر انه بعد انقلاب 8 شباط 1963 أعتبر قحطان شهيداً ومنح رتبة ملازم لأغراض التقاعد، وسُميت ساحة مهمة بأسمه هي “ساحة قحطان” في اليرموك تخليداً له. الشعب العراقي قدم الآلاف من الشهداء السياسين وخاصة  الوطنيين واليساريين في كل العهود. اين هي نُصبهم ورموزهم واسمائهم في شوارع وازقة بغداد وعموم العراق؟ ولماذا تتنكر الحكومات المتعاقبة لتضحياتهم علما ان الكل يشيد بوطنيتهم وثقافتهم ونظافة اياديهم وولائهم للوطن؟
#محمد_حسين_النجفي        #قحطان_عبد_اللطيف_السامرائي        #أضراب_البنزين_العراق    #حكمت_الدقاق    #شارع_الهندي
#الكرادة_الشرقية 

 

رُعبٌ بين بغداد وبراغ

“ظل مسيطرا ومتحكما في الموقف، ومتصنعا لحركات متعمدة ولعدة مرات كي يريني انه يحمل مسدساً تحت سترته”

كانت تجارة والدي الاساسية هي استيراد السلع المنزلية المصنوعة من الكرستال والبورسلين من اليابان وبولونيا والصين وألمانيا وچيكوسلوفاكية (قبل انفصالها الى دولتين). نشتري من هذه الدول من خلال ممثلي الشركات في بغداد أو من خلال وكلائهم العراقيين.

من اليسار حميد ومحمد حسين ومحمد جواد وناجي وابن الحارس في معرض النصر 1966
واحيانا كان والدي يسافر لهذه البلدان ويزور المصانع ويتسوق من افضل وآخر منتجاتهم التي لم يستوردها بعد. وبعد وفاته المبكرة رحمه الله في صيف عام 1969 كان لزاما عليَّ ان العب نفس الدور. ففي شهر أيار من عام 1970 قررت الذهاب الى جيكوسلوفاكية لعقد صفقات الأستيراد ولم يتجاوز عمري آنذاك سوى 23 عاماً. زرت في اليوم الأول مصنع كرستال نزبور خارج مدينة براغ وفي اليوم التالي زرت مكتب بيع اواني الطعام المصنوعة من البورسلين الفاخر في وسط مدينة براغ الجميلة. كل ذلك ضمن مواعيد تجارية محددة مسبقاً.

اخبرني بعض الأصدقاء انه في مقهى اوربا عند مدخل فندق اوربا الكبير(Grand Hotel Europa) في شارع فاسلافسكي ناميساي الرئيسي يلتقي العديد من الطلبة العراقيين والمقيمين في براغ. ذهبت في اليوم الثالث الى هناك والتقيت بأحد العراقيين ثم جاء الثاني والثالث الى ان اصبح على طاولتنا ما يقارب الستة اشخاص. كلهم طلاب ومخضرمين ولهم مدة طويلة هناك، ويبدوا على

Image result for grand hotel europa prague
فندق اوربا الكبير براغ

الجميع انهم طلاب بالأسم فقط. وانا كزائر وكتاجر فرشت لهم الوليمة بالكامل من مشروبات ومأكولات وما لذ وطاب. واخذنا الحديث هنا وهناك الى ان سألني احدهم ما اذا كان حقا ما نسمعه من ان الناس يقفون في طوابير ويتدافعون للحصول على طبقة البيض او الدجاج المستورد. قلت لهم نعم ذلك حقيقة واقعة. وتحدثنا عن الأوضاع الأقتصادية بأعتباري تاجر وابن سوق. لم نتكلم بالسياسة او طبيعة السلطة قط. لم يأتي اسم حزب البعث او البكر او صدام في المحادثة اطلاقا. المهم نهاية الجلسة دفعت الحساب واخذت تاكسي الى فندق الكونتنانتل.

في اليوم الرابع التقيت بمحمد وهو شاب كرادي (من الكرادة الشرقية) من عائلة ذياب مشكور وهم عائلة قصاصيب (جزارين) معروفة في منطقة البو شجاع كرادة داخل. محمد كان ضابطا في الجيش العراقي منذ عام 1963 حينما حكم البعث اول مرة. وعليه كان ضابطا بعثيا حينما حدثت حركة 17 تموز عام 1968، وسيطر البعث من جديد على السلطة. تم اعتقال محمد لاحقا لأنه بعثي من جماعة القيادة القطرية (من جماعة سوريا). اعتقل وحقق معه في سجن رقم واحد في معسكر الرشيد مما ادى الى كسر في ظهره. بعد ان افرج عنه ذهب الى سوريا التي ارسلته على حسابها للعلاج في براغ.  سرد لي قصته ونحن نتجول في مدينة براغ  القديمة. احسست بالأطمئنان مع محمد وارتحت اليه كثيرا. بقينا نتجول في شوارع براغ المتميزة بمعمار القرون الوسطى المُطعم بألوان متناسقة زاهية براقة كألوان المينا في المجوهرات الهندية.  وصلنا الى الميدان الرئيسي الذي به ساعة فلكية قديمة (Astronomical Clock) في اعلى برج مشيد لهذا الغرض منذ القرن الخامس عشر. وكلما تدق الساعة تنفتح نوافذ البرج لتتحرك التماثيل داخل نافذتين في اعلى البرج على انغام موسيقى خاصة بها. منظر جميل جدا ومحطة رئيسة لسواح مدينة براغ التأريخية والمعروفة بجسورها وابنيتها القديمة التي تجعل المدينة برمتها وكأنها متحف تأريخي.

 
بعد ذلك ونحن نتجول في احدى الشوارع الرئيسة برز امامنا على الجانب الآخر ثلاث اشخاص في ملابس رسمية (بدلة ورباط) وشوارب سود فيما كان يسمى في حينها شوارب ٨شباط تيمناً بأنقلاب 8 شباط الدموي عام 1963 وتقليداً لشوارب صدام حسين.  اشروا على صاحبي محمد فذهب اليهم. وبقى يتحدث معهم حوالي الخمس دقائق وكانوا يؤشرون عليّ بين الحينة والأخرى. بعد ان تركوه جاء لي مرتبكاً، وقال: مع من كنت في مقهى اوربا  البارحة؟ قلت مع مجموعة من العراقيين لا اعرفهم شخصياً. هل تحدثتم بالسياسة؟ قلت كلا. هل تحدثت عن ازمة الدجاج والبيض؟ قلت نعم. قال كان معكم من يكتب تقاريرللمخابرات العراقية. وهؤلاء الذين رأيتهم هم موظفين في الملحقية العسكرية واعرفهم منذ كنت ضابطاً.  كانوا يريدون معرفة اسمك بالكامل وماذا تفعل هنا واين تسكن و..و….؟. قلت لهم كل الذي اعرفه ان اسمه محمد وابوه تاجر غني، وانك هنا لغرض الونسة والبنات والشرب والمسخرة! قلت له وكيف عرفوني وانا في الشارع؟  قال انك الزائر الوحيد هذه الأيام وعن طريق البدلة القهوائية المميزة التي تلبسها كل يوم في براغ.
 
طارت النشعة وحل محلها قلق وخوف ورعب وعودة للوطن لا تعرف نتائجها. اليوم التالي كان اليوم الخامس وهو يوم سفر العودة على الخطوط الجوية الجيكوسلوفاكية التي كانت تصل بغداد عبربيروت. لم يكن في الطائرة اكثرمن عشرة ركاب من براغ الى بيروت. اما من بيروت الى بغداد كنت انا وامرأة كبيرة في السن فقط. كان الطيران في ليلة مظلمة وكانت الطائرة فارغة وموحشة جداً. الخوف من القادم المجهول اخذ يضخم الخوف من اي اصوات تأتي من محركات الطائرة ومطباتها الهوائية التي لم تتوقف لحين الوصول الى بغداد. ولم يكن ما يشغل تفكيري سوى، هل ستنتظرني المخابرات في المطار؟ واذا سألوني ماذا سأقول لهم؟ هل هناك تسجيل صوتي للحديث؟ وهل …. وهل …..؟  كانت من اطول الرحلات واكثرها رعباً في السماء. وصلنا مطار بغداد في حدود الساعة التاسعة مساءً. ومررت من خلال ضابط السفر وموظف الكمارك دون سؤآل يذكر او استجواب. وصلت البيت فرحاً مشتاقا لأكل الوالدة اللذيذ وكنت متعباً جداً فذهبت الى النوم في حدود الساعة الحادية عشر مساءاً.

 ايقضتني والدتي وانا في عز النوم. لم استطع ان افتح عيوني لشدة الأرهاق من السفر. قالت أكعد (استيقظ) هناك من كان يطرق الباب مرارا، وحينما فتحت الباب له سأل عنك. انه شخص

من اليمين محمد حسين وعلى يساره سعدي في سدة الصدور

غريب ومخيف والساعة هي الخامسة صباحاً. قلت حسناً امي ادخليه في غرفة الضيوف وسأنزل حالاً. وضعت الروب على كتفي ورشقت بعض الماء في وجهي استعداداً للمجهول الذي سيجلبه زائر الصباح المشؤوم، ولم يأتي على بالي سوى ما حدث في براغ. دخلت الغرفة واذا به “سعدي” صديق لصديق الطفولة “رياض الطحان”. معرفتي به لا تتجاوز سوى ان رياض قد جاء به في احدى سفراتنا الى الصدور. اعرف اخاه “طالب” الذي كان من دورتنا في الثانوية الشرقية. والاثنين هما ابناء عم حسن العامري واخوة زوجته، الذي كان عضو في القيادة القطرية لحزب البعث ووزير التجارة آن ذاك. شريط سريع مر في ذاكرتي كي افهم معنى هذه الزيارة الرهيبة. سعدي كان في منتهى الأناقة يلبس بنطلون وسترة ورباط، وكأنه اثناء الدوام او ذاهب للدوام في احدى دوائر الدولة التي تتطلب شياكة عالية. كان سلامه معي مقتطبا وكأنه في مهمة رسمية وليس في زيارة ودية لصديق. رحبت به وجلست كي يجلس، إلا انه ظل واقفاً مسيطرا ومتحكما في الموقف، وبدأ يتحرك امامي رواحاً ومجيئاً كبندول ساعة حائط قديمة، متصنعا لحركات متعمدة ولعدة مرات كي يريني انه يحمل مسدساً تحت سترته. قلت في نفسي انه ربما جاء بسبب ما حدث في براغ. وبما انه يحمل مسدساً واستطاع ان يعرف مسكني علماً انه ليس من محلتنا ولم يزرني سابقاً ابدا، اذن انه يعمل في الأمن او المخابرات او مرافق لنسيبه حسن العامري. وأخيرا تكلم عن سبب زيارته وقال بشكل جدي وبوجه عبوس يحمل التهديد بطريقة قوله: آني آسف جئتك في وقت غير مناسب ولكني بحاجة الى ان استدين منك 500 دينار. (الدينار العراقي كان يساوي 3.5 دولار آن ذاك اي ما يساوي 1,750 دولار). ارتحت لذلك كثيراً لأنه ليس اسوأ الأحتمالات. قلت له: سعدي لقد كنت مسافراً خارج العراق ووصلت قبل حوالي خمس ساعات وليس لدي اي مبلغ الآن. اذا امكن تعطيني عدة ايام لأرى ما استطيع تدبيره. ظل يفكر ويروح ويجيئ في الغرفة وانا لا استطيع ان اسحب النفس بسهولة.  تعمد ان يرينيني المسدس عدة مرات وهو يتحرك امامي للعلم والتحذير. قال متردداً: حسناً إلا انني بحاجة ماسة للمبلغ ولا بد لي من الحصول عليه.

 
لم اصدق انه تركنا. كانت امي ماتزال في الطابق الأسفل لتسمع ما يحدث. سألتني ما هو الموضوع؟ قلت لها صديق غبي لا تحملي هَمْ وتصبحين على خير. تقلبت في الفراش مفكراً: هل هناك ترابط بينه وبين ما حدث في براغ؟ هل انه متفق مع اخيه طالب؟ كيف سأتصرف؟ ومن حسن الحظ  كنت متعباً جداً فأستغرقت في نوم قلق في بدايته ولكنه تحول الى سبات عميق وجه الصباح، ولم استيقظ إلا قبيل الظهر بقليل. طفرت من الفراش مفزوعاً كأني قد فات عليّ موعد مهم. هممت بأستعجال وذهبت حالاً الى الصديق رياض الطحان. شرحت له الموضوع بمنتهى العصبية وقلت له: أنت الذي عرفتني عليه وانت الذي يجب ان تخلصني منه. رياض من النوع البارد (دهري بالعراقي) إلا انه صديق يُعتمد عليه. قال لا عليك اعتبر الموضوع منتهي. قلت له، ولكن كيف؟ لقد دخل بيتي واستفزني وهددني  ويريد ان يبتزني.  قال لا عليك اعطني لحد المساء واكون قد وصلت الى نتيجة. تركته وذهبت الى سوق الشورجة لممارسة عملنا. في المساء جائني رياض وخرجنا سوية الى مقهى الحدباء(زناد) على شارع ابي نؤآس الذي نرتاده عادة كل خميس كملتقى يتخللها لعب الدومنه والطاولي. قال لي انسى الموضوع انتهى. لقد التقيت بأخيه الأكبر طالب واخبرته بالموضوع. تأسف طالب كثيراً لما حدث وقال ان اخاه قد مرغ سمعتهم في التراب وانه سيكون له حساب معه. واكد عليه قائلاً: ارجو ان تخبر محمد: انه على الرغم من الخلاف السياسي بيننا والصراع العنيف الذي خضناه  عام 1962/ 1963، فإن سعدي سوف لن يصل اليه مرة اخرى.  وهذا ما كان. ولكن الرعب مازال في الصحو والمنام وفي كل مكان. معذرة فهناك ذكريات مؤلمة حتى فيما يسمى ايام الزمن الجميل.
محمد حسين النجفي
www.mhalnajafi.org
 

سفرة الى الصدور

 يا (أُم عوفٍ) ومايدريك ماخبأت                            لنا  المقاديرُ من عُقبى  ويدرينا

صوت ينادي وجه الصُبح: محمد حسين….. محمد حسين……..محمد حسين……. كان هذا الصوت آتياً من الشارع ونحن مازلنا نائمين في السطح كعادتنا في كل صيف. طفرت من فراشي ونظرت من اعلى السطح كي ارى رياض الطحان واقفا بباب دارنا ومعه سيارة اخيه سعيد الـ “سمكا” الفرنسية الصغيرة الحجم . كان يوماً من ايام العطلة الصيفية عام 1964. ايقضت ابن عمتي حسن (حسون) ونزلنا من السطح وبدلنا على استعجال كي نلتحق برياض.  “ها رياض شنو الموضوع؟”  “اصعدوا بالسيارة دنروح للصدور”. صعدت بالمقعد الأمامي وكان هناك صحن من الفرفوري (البورسلين) جالس قبلي عليه. رياض ما هذا الماعون( الصحن)؟ قال لا عليك، بعثوني كي اشتري قيمر (قشطة) لفطور الصباح ولكني قررت ان انتهزها فرصة ونذهب سفرة الى الصدور. رياض يعني أهلك شراح يتصورون؟ قال انهم متعودين على “داگتي”. مررنا على حكمت في شارع الهندي واصبحنا اربعة مراهقين سارقين لسيارة اهلهم وذاهبين الى منطقة سدة الصدور شمال المقدادية (المعروفة بشهربان بالكردي) على نهر ديالى في منطقة جبال حمرين.
سدة الصدور
وصلنا الى نقطة تفتيش مدينة بعقوبة وهي المدينة الرئيسة في الطريق الى الصدور. طلب الأنضباط العسكري من رياض اجازة السوق. رياض قال لي ناولني الأجازة من جيب السترة. لم اتمالك نفسي، وبدأت بالضحك. افتعل رياض مشهداً، وبعصبية ظل يطالبني بالأجازة، والكل بدأ يضحك الى ان ضحك الأنضباط، وقال “امشي هالمرة راح امشيها، دير بالك سوق على كيفك (على مهلك). وصلنا الصدور وكان هناك كازينو سياحي. شربنا بيبسي كولا وذهبنا نتمشي بأتجاه السد الأستراتيجي المشيد على نهر ديالى الذي ينبع من المرتفعات الشمالية الشرقية من العراق وهو احد روافد نهر دجلة الخير ويصب فيه جنوب بغداد. والغرض من السد هوالحفاظ على سهل ديالى من الفيضان، وكذلك رفع مناسيب المياه كي تسقى الأراضي الخصبة التي تقع على شرق وغرب نهر ديالى. انه موقع جميل جداً حيث المياه والمرتفعات المتموجة والطبيعة الخلابة والزهور بمختلف الأطياف منتشرة على حافات السهول واسراب الطيور التي ترتفع وتهبط كي تجلس على موجات المياه، لا ندري ان كانت تؤدي مهمة ما ام انها تتغندج امام بعضها البعض؟
شاهدنا بعض السيارات كانت تعبر السد الى الجهة الأخرى. تحمس رياض لهذه الفكرة التي تحوي الكثير من المخاطر، ركبنا معه وعبرنا السد نحو الجانب الآخر بسلام على الرغم من ان النهر كان من جهته الشمالية فائضاً والماء يسيح فوق السد الى الجهة الأخرى. إلا انه في عودتنا اسرع رياض قليلاً، فطفر الماء على الماكنة واطفأها. وقفنا في منتصف السد وبدأت شدة المياه تزداد قوة وشعرنا بأن السيارة بدأت تتحرك وخفنا من ان ازدياد حدة المياه سوف تقذفنا من السد الذي لا سياج له نحو هاوية النهر من الجانب الجنوبي. بدأنا نصيح استغاثةً لحين لاحظنا الواقفون فجائت سيارة سحب يبدوا انها مخصصة لهذا النوع من الأحتمالات وسحبتنا الى الجرف الآمن وبدأنا نتنفس الصعداء.
 
قضينا سويعات جميلا ت جداً هناك، ولكن بعد واقعة احتمالية الغرق، قررنا الأسراع بالعودة الى الكرادة.  الا انه بعد ان اجتزنا مدينة شهربان  بنصف ساعة تقريبا حدث ما لا تحمد عقباه. تصاعد صوت مربك وعنيف من مقدمة السيارة اعقبها بخاركثيف يتصاعد من تحت البنيد (الهود) بأتجاه الجامة (النافذة) الأمامية. اضطر رياض الى التباطئ ثم الوقوف على جانب الشارع كي نرى ما حدث. نزل حسن ورفع الهود كي يرى اسباب الصوت. حسن كان يعمل مع اقارب لنا ميكانيكي سيارات في مدينة النجف الأشرف. بلحظات حدد المشكلة واقترح الحل: طارت ريشة من مروحة التبريد وضربت الراديتر واحدثت ثقبا فيها. يجب ان افكك المروحة والراديتر وآخذهما الى شهربان كي الحمهما واعود. ولحسن الحظ كان هناك صندوق ادوات تصليح في السيارة.  واذا بحسن يبدأ بتفكيك كل شئ وعبر الشارع مع رياض الى الجهة الأخرى واوقفوا لوري وصعدوا به عائدين بأتجاه شهربان.
 
بقينا انا وحكمت نحرس السيارة. كانت الساعة بحدود الثانية بعد الظهر والحر على اوجه ورذاذ التراب الذي ترميه السيارات المارة قد اعمى عيوننا. وبعد مرور فترة ليست قليلة بدأ الملل والضجر وبعض الخوف يسيطر علينا. وسفرة كهذه لم يسبقها اي استعداد من حيث المشروبات او المأكولات، لا يوجد اي شئ معنا كي نتلهى به. سبقني حكمت وقال آني جوعان وميت من العطش! اجبته وانا كذلك. ظللنا نفكر ونحن في شارع عام لا مطعم ولا كافيه ولا بقال ولا عطار؟  رصد حكمت بيت طيني بعيد جدا عبر الشارع العام. سألني ما هو رأيك نقفل السيارة ونتمشى لهذااااااك البيت؟ وافقت على الفكرة لأنه مضى اكثر من ساعة منذ ان رحل حسن ورياض وربما لا يرجعون قبل ساعة او ساعتين.
 
وصلنا المنطقة التي بها ثلاث او اربع بيوت طينية في منطقة قاحلة، لا شئ يُذكر حولها سوى اعشاب هنا ودغل هناك. طرقنا باب اول بيت جاء امامنا، فتحت لنا الباب إمرأة عُربية ذات ملامح فلاحية وجمال طبيعي بلا رتوش. “خالة انكسرت بينا السيارة واحنا عطشانين”، قالها حكمت دون تردد او خجل. هلا بيكم يُمّه، تفضلوا. دخلنا باحة البيت وكان هناك حصيرة من الخوص مفروشة تحت ظلال شجرة رمان. جلسنا بأنتظار ما ستقدمه لنا هذه المرأة المضيافة التي كانت لوحدها في البيت،والتي تصرفت معنا وكأننا ابناء الجيران وتعرفنا وتثق بنا. ذهبت الى الحِب (الكوز) الذي كان في احدى زوايا باحة البيت وجائت بطاسة (اناء من الألمنيوم) مملوئة بأعذب ما شربنا من ماء في حياتنا. لم تكتفي بذلك وانما اعقبته بصحن به حوالي ثمان او عشر تمرات من نوع الزهدي وطاسة لبن وخبز شعير ورمانة كبيرة من رمان شهربان المشهور جداً.
هجمنا دون استأذان او مجاملة على التمر واللبن والخبز وكأننا لم نأكل شيئا في حياتنا.  وبعد ان شربنا اللبن واكلنا التمر والخبز برمته، اراد حكمت ان يمد يده على الرمانة. منعته من ذلك عدة مرات. اخيرا قلت له: حكمت ألا تعلم انها قدمت لنا كل ما لديها؟ اترجاك اترك لها هذه الرمانة على الأقل. قال حكمت الرمانة كبيرة نأكل نصفها ونترك لها نصف. عند ذلك وقفت وقلت خالة شكراً جزيلاً على الضيافة وممنونين جداً. قالت خالة ابقوا على الجاي، قلت لا خالة لأن سيارتنا بالشارع. خرجنا من بيت المرأة التي لازالت مُحياها تتماثل امامي ونحن شبعانين ومستعدين للأنتظار الى الليل اذا تطلب الأمر ذلك. في حدود الساعة الخامسة عصراً نزل رياض وحسن من لوري كان قادما من شهربان. تم لحم ريشة المروحة والراديتر. باشر حسن العمل، فأعاد نصب الراديتر في مكانها ثم اضاف المروحة وربط القايش على الماطور. واذا لم تكن هذه اعجوبة فكيف يمكن وصفها.
 
المرأة التي استضافتنا واكرمتنا من الصعب نسيانها، ومازالت حلاوة طعم ذلك الأكل البسيط من تلك اليد الكريمة جدا في فمي لا تفارقني كلما تذكرت ذلك اليوم. ولشاعر العرب الكبير محمد مهدي الجواهري قصيدة لـ (أُم عوفٍ) مستلهمة من تجربة مماثلة مر بها، كلما اقرأها اتذكر تلك السيدة الكريمة وذلك المشهد الذي عبر كالأثير ورسخ في مخيلتنا، وهذه بعض ابياتها:
يا (أُم عوفٍ)   عجيباتٌ ليالينا                    يُدنين أهواءنا القصوى ويُقصينا
يا (أُم عوفٍ) بلوح الغيبِ موعدنا                    هنا  وعندكِ  أضيافنا  تلاقينا
يا (أُم عوفٍ) ومايدريك ماخبأتْ                        لنا المقاديرُ من عُقبى  ويدرينا
لابد من مطلعٍ  للشمس  يُفرحنا                      ومن اصيلٍ  على  مهلٍ  يُحيينا
القصيدة الكاملة اضغط:
محمد حسين النجفي
mhalnajafi.or

 

تداعيات المواصلات

 “قال لا اريد شهادتك، إطلع قبل ان يخرجك ابو اسماعيل (الشرطي) بالجلاليق (بالركل بالأرجل على المؤخرة)”

منذ ان فطنت للحياة كانت هناك ازمة مواصلات وزحمة في الطرق والساحات المدورة التي اشتهرت بها بغداد مثل ساحة التحرير وساحة الطيران في الستينات والسبعينات من القرن الماضي. والزحمة والتدافع ليس بين السيارات فقط وانما بين الركاب سواء في باصات الأمانة او تكسي النفرات (التكسي المشترك). وطبعا هناك تداعيات لهذه الأختناقات في المواصلات نتيجة للتلاصق الجسدي الذي لا مفر منه سواء ان كنت واقفا او جالساً. من بينها ان معظم حالات النشل (السرقة من الجيب) تحدث في باصات الأمانة المزدحمة. كذلك فان الأزدحام يوفر فرصة ذهبية للتحرش الجنسي الذي كان سائدا في تلك الأيام. وقد يعتقد البعض ان التحرش الجنسي كان من تصرفات المراهقين. كلا، وانما كان سمة سائدة خاصة من قبل الرجال في اعمار متقدمة. كان التحرش الجنسي يتم بشكل شبه علني دون خوف او خجل ودون اي تدخل من قبل الآخرين لأيقافه. وللأسف نادراً ما نرى فتاة او امرأة تتجرأ امام الملأ وتفضح المتحرش.

ومن بين احدى ذكرياتي التي من الصعب نسيانها انني في صباح احد الأيام حينما وصلت الى محطة تكسي النفرات كان قد سبقني ثلاثة اشخاص من محلتنا في السبع قصور الكرادة الشرقية داخل. احد هؤلاء الأشخاص سيدة حامل في مرحلة متقدمة لا تستطيع معها التحرك بالسرعة التي تقتضيها الحصول على مقعد في التكسي. وبما انه لا توجد ثقافة او نظام ان الأفضلية للأسبق، فانه حينما يقف التكسي يركض الجميع كالغزلان ومن هواسرع يحصل على المقعد. والباقون ينتظرون التكسي القادم، والقادم والذي بعده، وهذا ما حدث للسيدة التي ظلت تلاحق التكسي وهي تسير كطائر البطريق عدة مرات دون نجاح. ظللت مندهشاً كيف ان رجال محلتنا كانوا يأتون بعد جارتهم السيدة الحامل ويسارعون لسرقة دورها منها دون تردد او حياء او خجل او مروة اوحتى رجولة. حينها بدأت افكر ان المشكلة لم تعد في السلطة السياسية فقط، وانما في اخلاقية الشعب ايضا الذي تغير عبر الزمن نحو الأسوأ.

 وفي احد ايام شتاء عام 1969 ركبت تكسي النفرات من الباب الشرقي متوجهاً الى الشورجة حيث مركز تجارتنا. كان السائق في عمر منتصف الأربعينيات يدخن سيكارته ويستمع بشرود واضح الى اغاني فيروز الصباحية. كانت ظاهرة التدخين مقبولة ومتعارف عليها في تلك الأيام فيما عدا باصات الأمانة كانت ممنوعة. معظم الركاب يبدوا انهم موظفين في حالة من الأستعجال للوصول الى مآربهم.  بدأ السير يتباطئ كلما ابتعدنا عن ساحة التحرير، إلا انه تباطئ اكثر بعد عبور ساحة الخلاني ومن ثمّ شارع النهضة، وأخذ الجميع يُأفف من الأزدحام وينظرون الى ساعاتهم بشكل متكرر، وبدأت اصوات الهورنات تثقب الآذان وتغطي على الزغردات الفيروزية.

وقبل الوصول الى الشورجة وبالقرب من جامع الخلفاء حدث ان تصادم التكسي الذي نحن به مع سيارة  شيفروليت (ستيشن واكن) عسكرية تعود لضابط برتبة لواء كما يدعي سائقها وهو عسكري برتبة عريف. ونتيجة للأزدحام حاول العريف ان يفتح طريق له من امام التكسي الذي نحن به. وبما ان سيارة سائقنا كانت واقفة وليست متحركة، فإن الخطأ كان واضحاً من العريف سائق سيارة اللواء، علماً ان اللواء لم يكن في السيارة.  نزل العريف من سيارته مكيلاً ابشع الشتائم وابذل الألفاظ على سائق التكسي المسكين الذي لم يستطع فتح فمه ولو بكلمة واحدة. اخيراً طالب لا بل امر العريف سائقنا  بالذهاب الى مركز شرطة النهضة لتسجيل الحادث. وافق سائق التكسي على ذلك مرغماً. لم يتحدث او يتدخل اي من الركاب في الموضوع، اما لعدم اهتمامهم او لخوفهم من العريف. بعدها طلب وتوسل السائق من جميع الركاب كي نذهب معه كشهود ليثبت حقه وينقذ نفسه. اعتذر الجميع لوجود اسباب حقيقية لأنهم موظفين او اسباب وهمية كي يتملصوا من المسؤولية. أما انا فكنت اصغرهم سناً وكان عليّ مسؤولية فتح باب متجرنا في الشورجة ولديّ عذري المشروع. ولكن لم يكن كل ذلك ما افكر به. كان تفكيري كله ينصب على سائق التكسي المسكين وكيف سيثبت حقه امام سائق عسكري برتبة لواء. لم اجد الموضوع مطمأناً او متوازناً. ولما كنت “ممن يحملون السلم بالعرض” ويمشون به كما يقولون، قررت الذهاب معه كي امنحه فرصة متكافئة وامنح نفسي فرصة لأكون جزءاً من الصراع غير المتكافئ. 

وصلنا الى مركز الشرطة وكان العريف قد سبقنا للحديث مع مأمور المركز. وبقينا انا والسائق في خارج الغرفة بالأنتظار. امرنا الشرطي كي ندخل على المفوض مأمور المركز. دخلنا وبادر المأمور بسؤالي بطريقة سلطوية عنيفة: من انت وماذا تعمل هنا؟ قلت انا راكب في السيارة وجئت كشاهد. ومن طلب شهادتك؟ قالها بعصبية شديدة اللهجة. قلت لا احد، تطوعت لأعتقادي بأنكم ستحتاجون الى شاهد عيان محايد. استمريت وبلغة اكاديمية وكأني اترافع نيابة عن موكلي: انك امام شخصين كل واحد سيروي قصته، ألا تريد ان تسمع رأي شاهد لا مصلحة لديه مع اي من الطرفين؟ طبعاً كل هذا وهو يرى اني شاب بهندام لائق واحمل معي كتب جامعية ويستطيع التدليل منها عن امور اخرى! كان وقع كلامي هذا قد أثار حفيظته، وقال: ” لا اريد شهادتك، إطلع قبل ان يخرجك ابو اسماعيل (الشرطي) بالجلاليق (بالركل بالأرجل على المؤخرة)”. وقبل ان اجيبه واورط نفسي اكثر، سحبني سائق التكسي من يدي وطلب مني الخروج متوسلاً، وقال لي: الله وياك عَمي، روح، الله يخليك لا احتاج الى شهادتك، واستخدم كلتا يديه لمسك كتفيّ كي يحول وجهتي، ودفعني صوب الباب كي اخرج، واستمر يؤشر لي بيديه روح روح (اذهب اذهب).  

خرجت من مركز الشرطة مُهان ومكسور الجناح لا حول لي ولا قوة عارفاً ان ما سيحدث لسائق التكسي المسكين سيكون ظلما وامتهانا. خرجت وانا افكرهل سيبات في بيته ذلك المساء ام لا؟ هل ان سائق التكسي هو مالك للسيارة ام يعمل بالأجرة بها؟ واذا غرموه هل لديه المال كي يدفع؟ إلا ان اكثر ما ادهشني وافرحني بنفس الوقت هو شهامة وشجاعة واخلاق سائقنا الذي تغير همه فجأة وبلحظة، فبدلاً من ان ينقذ نفسه قانونياً ومالياً ويستفاد من افادتي، قرر ان يحافظ على كرامة شاب وطالب جامعي من الأهانة والأعتداء من قبل كامل القوات المسلحة العراقية، “الجيش الذي هو سور للوطن والشرطة التي هي في خدمة الشعب”. الف شكر وتحية خالصة لشهامة سائق التكسي الكادح ولحسن اخلاقه ولحمايتي من الحماة. 

محمد حسين النجفي
www.mhalnajafi.org

#مواصلات #العراق
روابط اخرى:
مخالفة مرورية في شارع الرشيد

امكانية الحوار البناء بين الفكر الديني واليسار

تدعوا هذه المقالة الى الحوار البناء المستمد من الدراسة المستفيضة للأديان والأفكار المعاصرة مع التركيز على الأسس المنهجية والنظرية بدلاً من الأعتماد على النقد اللاذع المبني على الممارسات الخاطئة او على التجارب الفاشلة او على التطبيق المغالط، كما يرد أحيانا بسذاجة في أحاديث أشخاص وكتاب يستخفون بالآخرين:

ألمقالـــــــــــــــــــــــــــــــــــة:

يكاد يخلو الخطاب السياسى لليسار العراقي والمثقفين العلمانين من اية اشارة او محاكات للفكر الديني المعاصر، على الرغم من وجود تراث هائل من الافكار والآراء ودراسات فلسفية  دينية او المتأثرة في الدين.  أضافة الى ذلك ظاهرة أنتشار التدين بشكل لم يسبق له مثيل في الوقت الحاضر،  وفي الوقت ذاته نعيش ظاهرة انتشار التمسك الديني والطائفي، ليس متمثلاً في الأخوان والقاعدة وداعش والفكر والممارسة التكفيرية المصحوبة بالعنف فقط،  بل كظاهرة فردية وعائلية وممارسة اجتماعية معتدلة وسلمية في معظم الأحيان. ويشمل ذلك جميع الأديان والطوائف. خذ على سبيل المثال تضاعف اعداد من يؤمون صلاة الجماعة في يوم الجمعة للمسلمين ويوم الأحد للمسيحين. اوالاعداد الغفيرية المليونية المشاركة في الشعائر الحسينية وزيارات الأئمة. او ازدياد اعداد من يحجون بيوت الله في مكة، والمدينة المنورة المقدستين. وكذلك احتلال الحركات الدينية مركز الصدارة في الصراع السياسي، واضمحلال الأحزاب السياسية ذات الأيدولوجية اليسارية والقومية والعلمانية. ومن جهة اخرى نرى ان الخطاب السياسى للحركات الدينية يتجنب ويتردد، لا بل ويتجاهل مناقشة وانتقاد الفكر الماركسي او الأشتراكي او النهج العلماني الغربي لأدارة الدولة.  كذلك فإنهم يتجاهلون وجود حضارات و أفكار أخرى ويكتفون برفضها كلياً وقطعياً.  إن الطرفين يتجاهلون بعضهما كأن كل منهما يعيش في كوكب مختلف. وحقيقة الأمر ان كل الأديان الأفكار تهتم بمضمونها بنفس الأمور الأجتماعية والأقتصادية والسياسية، إلا انها تختلف احياناً وتلتقي في بعضها. ان التفاعل بين الأفكار هو العمود الفقري لنشر الثقافة التعددية التي ندعوا اليها، حيث ان الثقافة الأحادية ماهي إلا تلقين يصل لحد غسيل ألادمغة.

ان هذا الزخم المكثف من الافكار والحركات الدينية فى زمننا هذا،  ليس في العراق فحسب او في العالم الأسلامي،  وانما في عموم العالم قاطبة.  وهذا التيار القوي ليس ضمن الديانة الأسلامية فقط،  وانما المسيحية واليهودية وحتى الأديان غير السماوية .  وعلى الرغم من ذلك،  نرى ان المفكرين التقدميين والسياسيين العلمانيين والمثقفين بشكل عام يسخرون ويسفهون او يقللون من اهمية ورواج ظاهرة انتشار الوعي والألتزام الديني.  الا انه ليس من الضرورة ان تكون الافكار والمناهج الدينية المعتدلة تسير على خط متعارض او متصادم مع الافكار اليسارية والاشتراكية والعلمانية.  وانه لربما ان الاثنين يلتقيان ويتعانقان في الكثير من الاهداف والغايات الأجتماعية العامة.  وعليه لا بد من المحاكاة بين هذه التيارات من الناحية الفلسفية ثم في الغايات النهائية وبعد ذلك البرامج والوسائل العملية لتحقيقها.

ان موضوع هذة المقالة هو الترويج لهذا التفاعل وبشكل صحي وملائم لظروف صعبة وحساسة تمر بها العديد من الشعوب ومنها الشعب العراقي.  ولما كنت عراقيا و مسلماً ذو نهج علماني، فسأحاول ان أتحدث ضمن الأطار الذي أنا أعرف به.  وقبل أن نضع أسس لهذا التفاعل لابد لنا من الأستفادة من بعض التجارب التأريخية والعالمية السابقة في هذا المجال، ومن خلال الأمثلة التالية:

1- حينما بعث الأمام علي (رض) إبن عمه عبد الله بن العباس لمفاوضة الخوارج،  قال له على شكل وصية وأمر بأن “لا تناقشهم بهذا” وأشار بيده الى القرآن الكريم.

2 – خلال زيارة الكاتب الأيطالي التقدمي المعروف البرتو مورافيا الى الصين الشعبية أبان الثورة الثقافية في الستينات من القرن الماضي،  دخل في حوار مع مثقفي تلك الثورة. وقد لاحظ انه حينما يجادلهم بشئ، فإنهم يقلبون صفحات الكتاب الأحمر لماوتسي تونج ويجدون فيها جوابا للرد عليه.

3- عندما أصدر الكاتب البريطاني المنحدر من أصول أسلامية هندية سلمان رشدي كتابه سيئ الصيت “الآيات الشيطانية”، أحتجت عليه معظم الدول الأسلامية وعُلمائها.  كذلك أحتج عليه وهذه ربما تكون مفارقة “أتحاد الكتاب السوفيت” ولم تحتج عليه أي منظمة او دولة غربية بل على العكس روجوا له بحماس. 

وهناك عبر في هذه الأمثلة الثلاث لعلها تساعدنا على وضع أطار حضاري للتفاهم ما بين منهجين يبدوا أنهما على طرفي نقيض، ولكن من المؤكد وجود العديد من نقاط الألتقاء ليس في أمور جانبية فقط، وأنما في إمور أساسية وجوهرية.

فحينما طلب الأمام علي (رض) من ابن عمه ان لا يناقش الخوارج فى كتاب الله، كان ذلك  لعلمه بأن الخوارج كانوا من الثقافة والألمام الواسع في الآيات واحكام الدين واحاديث الرسول(ص).  ولأن كتاب الله حمال أوجه كما ابلغه . ومهما بلغت امكانية وايمان عبد الله بن عباس، فإنه سوف يخسر مقارعة من هذا النوع، لأنهم أكثر مهارة منه في المحاججة . وعلى ذلك فإن اراد المثقفون العلمانيون والتقدميون ان يحاوروا المفكرين الأسلاميين عليهم تثقيف انفسهم بالفلسفة الأسلامية واحكامها، قبل التجرأ على مناقشتها. وعلى نفس المنوال على المثقفين الأسلامين ان يفعلوا ذات الشئ.

اما بالنسبة الى البرتو مورافيا،  فإنه خسر جولة الحوار في اليوم الأول مع المثقفين الصينيين.  وحال ذهابه الى فندقه في المساء قرر دراسة الكتاب الأحمر ليس ليناقضه،  وانما ليجد فيه نصوص يستند فيها لأرائه.  وحينما ذهب في اليوم التالي في حوار مع الصينين فإنه كان يقول لهم افتحوا الصفحة الفلانية في الكتاب الأحمر وأقرأُ الفقرة التالية . وبذلك استطاع محاورتهم من كتابهم . وعليه حينما ينتقد سلوك من يدعون النهج الأسلامي المتشدد او الطائفي يجب أن يكون بناء على مخالفتهم للدين الذي يديون به لأنه منهجهم ومصدر تعاليمهم.

اما السبب في ان اتحاد الكتاب السوفييت في عام 1980 أو 1981 أحتج على كتاب سلمان رشدي وطالب بمنعه لأنه اعتبر ان الكتاب ذو نهج استفزازي لا يحترم فيه مشاعر الملايين من المؤمنين بالدين الأسلامي،  وبالتالي فإنه لم يكن كتابا موضوعيا،  حواريا أو نقديا.  وإنما كان كتابا ساهم في في شهرة كاتبه وتكوين ثروته ولكنه خلق عداءاً وتنافراً بين الحضارات بدلاً من بناء الجسور وخلق الحوار البناء بينهما.

ان الدين الأسلامي هو دين شامل متكامل يضع أسس متينة وتفصيلية لما يلي :

1- علاقة الأنسان بخالقه وفق مناهج وطقوس التعبد .
2- الحياة بعد الممات والعقاب والثواب (المتافيزيقيا).
3- قواعد قانونية واجتماعية واقتصادية لنظام دولة ومجتمع وعائلة وافراد .

ان الفقرتين الاولى والثانية ترتبطان بعضهما ببعض وهما أساس الشريعة الأسلامية . وهذا يتعلق بالأيمان الشخصي والأرتباط الروحي ومدى تعلق الأنسان بخالقه ودرجة ايمانه بالحياة بعد الموت وبالجنة والنار . وهذا موجود بشكل وبآخر في كل الأديان السماوية وغير السماوية.  وأحيانا كثيرة يكون جزءا من العادات والتقاليد التي يتربى عليها الفرد والمجتمع . فإذن تعتبر الفقرتين الأولى والثانية مسألة شخصية بحته ليس بالضرورة أن ترتبط بشكل مباشر بالفقرة الثالثة.  وهي كيف يعيش الأنسان مع أخيه الأنسان على الأرض بأفضل ما يمكن. وهذا هو موضوع هذه المقالة والذي يتطلب المزيد من الدراسة والأستقصاء للتوصل الى معرفة مجالات اللقاء والوفاق بين عموم الأفكار السائدة في مرحلة من مراحل المجتمع المقصود. وعلى سبيل المثال لا الحصر هناك امور تهم الأسلاميين والعلمانيين على نفس الدرجة من الأهمية، وهي :

1- تباين الدخول بين أفراد المجتمع . هل يقبل الأسلام بالثراء الفاحش؟ وهل يمكن وجود فقراء في مجتمع اسلامي متكامل؟ وما هو دور الدولة الأسلامية في أعادة توزيع الثروة، وكيف؟
2- الحرية الشخصية ومنها حرية المرأة وصيانها من كل أذى . حقها في قرار الزواج والطلاق. تعدد الزوجات. حق المرأة في الثقافة والتعليم والعمل .
3- ادارة الدولة وأساليبها مثل الديمقراطية والشورى.  حدود وصلاحيات الحاكم.  ولمن تكون الولاية؟  للفقيه أو الحاكم ام للشعب؟
4- الدولة ودورها في الكيانات والنشاطات الأقتصادية،  حدود تدخلها في الشؤون التجارية والمالية مثل النظام المصرفي والنظام الضريبي وادارة الثروة الوطنية،  ودور القطاع العام والقطاع الخاص.
5- دور الدولة الأجتماعي من حيث الضمان الأجتماعي، والضمان الصحي ومجانية التعليم  ونشر الوعي وحفظ القانون والعدالة الأجتماعية.

كذلك ان على المفكرين الأسلاميين الأطلاع والتعرف على الأفكار والآراء السياسية والأقتصادية والأجتماعية الرأسمالية منها والأشتراكية،  للنهل منها والبحث فيها عما يتلائم للأستفادة منه في المجتمعات الأسلامية او ربما تقبله بعد تعديله جزئياً . وعليهم أيضاً حين المقارنة والمناقشة ان يناقشوا من خلال ادبيات تلك الفلسفة وليس من خلال مقالات صارمة ورادعة.  وهنا اريد ان اعطي مثالين متناقضين صالحين للمقارنة،  والعجيب الغريب انهما حدثا في نفس الفترة الزمنية وهي بداية الستينات من القرن المنصرم:

  • أثناء ما كان يسمى بفترة المد الشيوعي في العراق، قابلت مجموعة مغرضة سماحة المرحوم السيد محسن الحكيم  وسألوه عن رأيه في الشيوعية،  فكان جوابه والعهد على تلك المجموعة المغرضة “ان الشيوعية كفر وألحاد”.  ثم اخذت هذه المجموعة بأستغلال تلك المقولة وجعلوها فتوى ساعدتهم في الحصول على تأييد بعض رجال الدين وشيوخ العشائر للتآمر على الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم، في ردة 8 شباط السوداء عام  1963 . وكذلك استُغلت في أعطاء شرعية لاصدار بيان رقم (13) لعام 1963 سيىء الصيت الذي هدر فيه دماء كل التقدميين والوطنيين في العراق بحجة انهم شيوعيون او قاسميون .
  • اما النموذج الآخر لتفاعل الفكر الأسلامي مع التطور الفلسفي الأوربي هو ما كتبه الشهيد المرحوم محمد باقر الصدر في مؤلفاته العديدة وخاصة فلسفتنا وأقتصادنا، وفيهما يستعرض الشهيد النظريات الأقتصادية الماركسية والرأسمالية ومن ثم يناقشهما وفق الفلسفة والنظرية الأسلامية بأسلوب علمي وأكاديمي،  و بمنتهى الموضوعية وبعيداً عن الأتهامات والمهاترات.  وربما كان لأسلوبه وطريقة عرضه الحوارية الأثر الفاعل في تقبل الفكر الديني ونمو أنتشار حزب الدعوة في منتصف الستينات خصوصا بين طلبة الجامعات العراقية.
  • لقد تعثر وفشل التيار اليساري في فهمه وتعاطفه مع المشاعر والتيارات القومية التى كانت سائدة في الخمسينيات والستينات من القرن الماضي في الوطن العربي. وهنا لا بد من الاعتراف والتفاعل مع التيارات الدينية التى شملت الأرض بوسعها . وعلى مثقفي التيار التقدمي دراسة التراث الديني وتعلم محاورته حواراً موضعيآ لأئقاً.  ولهم في كتابات الراحل الدكتور علي الوردي خير قدوة في مناقشته لموضوعات حساسة في كتابه “وعاظ السلاطين”  و “مهزلة العقل البشري”  بطريقة منهجية بحثية يرد فيها على ما لا يراه يتفق مع روح الأسلام،  معتمداً بحجج اسلامية متفق عليها . واذا تعمق المثقفون في دراستهم للفكر والنهج الأسلامي فإنهم سيرون فيه اليمين واليسار،  المتزمت والمحافظ والمتفتح. منهم من يأخذ جانب الحاكم ومنهم من يثور عليه مستمداً  شرعيته من العامة الغاضبة. وليس هناك ابلغ واوضح من فكر ومنهج الأمام علي (رض) في العدالة الأجتماعية وثورة الأمام الحسين (رض) ضد الحاكم الطاغي ودفاعاً عن العامة والمظلومين. وكذلك ثورة زيد بن علي وثورة الزنج والقرامطة التي كانت ثورة الفقراء ضد الأغنياء الذين يتحكمون بأسم الدين برقاب العباد.
  • ونحن في هذه المقالة ندعوا الى الحوار البناء المستمد من الدراسة المستفيضة للأديان والأفكار المعاصرة مع التركيز على الأسس المنهجية والنظرية بدلاً من الأعتماد على النقد اللاذع المبني على الممارسات الخاطئة او على التجارب الفاشلة او على التطبيق المغالط كما يرد أحيانا بسذاجة في أحاديث أشخاص وكتاب يستخفون بالآخرين.  فهناك الكثير من الحكومات التي تدعي المنهج الأسلامي وهي بعيدة كل البعد عن الأسلام مثل السعودية وحكم الأخوان في مصر (سابقاً) ومن يتحكمون بمقاليد السلطة حالياً في العراق ويدعون زوراً تمثيلهم لفكر او نهج اسلامي معين.  وهناك العديد من التجارب الاشتراكية او ما يسمى بالأشتراكية كانت نهايتها الدكتاتورية المطلقة وتوريث السلطة والفساد الأداري مثل ما حدث في الأتحاد السوفيتي والمجموعة الأشتراكية ومثلما يحدث اليوم في الصين الشعبية وكوريا الشمالية.
  • قبل حوالي العامين ادرك السيد مقتدى الصدر بذكائه الفطري ومعانات اتباعه من المحرومين والمهمشين في مدينة الصدر (الثورة) وبقية المدن الفقيرة في العراق وما اكثرها، من انه لن يستطيع الحصول على اية انجازات من داخل السلطة سواءعن طريق البرلمان او مجلس الوزراء او المحافظين. لماذا لا؟ لأن المكاسب للسياسين فقط وموزعة طائفياً واقليمياً ولايمكن المساس بها. وبالتالي قرر ان عليه القيام بنشاط جماهيري احتجاجي. إلا انه ادرك ان هناك حركة جماهرية مطلبية قد سبقته في النشاط ضد الفساد الأداري والمالي والطائفي، يقودها المدنيون والعلمانيون من المثقفين والطلبة والعمال الذين يقودهم وراس حربتهم الحزب الشيوعي العراقي. وهم يمارسون ذلك كل جمعة ومنذ امد بعيد في العديد من المدن العراقية وخاصة بغداد وفي قلبها عند ساحة التحرير وتحت منصة نصب الحرية الشامخ. وعليه قرر فتح خط الحوار معهم على الرغم من الفارق الأيدولوجي الشاسع. كان مارآه هو التشابه في المطالب الجماهيرية. فقرر ان يشارك معهم في مسيرات ونشاطات مختلفة تخلل ذلك اجتماعات تنسيقية بين الجهتين. وبطبيعة الحال فإن بعض افراد الكادر السياسي من كلا الطرفين لم يروا في ذلك اي مستقبل او ملائمة لتحالف من هذا النوع. وربما يكون للمخالفين رأي صائب في ذلك. ولكن عدم القدرة على انجاز اي اصلاح سياسي من قبل السيد الصدر بمفرده وعدم قدرة الشيوعي للوصول الى البرلمان بقدرته، كانا عاملان مهمان للتحدي والعمل المشترك عسى ولعله ان يثمر بنتائج ايجابية في الأنتخابات القادمة تحت مظلة “سائرون”. وفعلا حقق هذا التعاون نصرا للاثنين.
  • وعودة الى هدف هذه المقالة التى كتبت نواتها عام 2009، فإن عمل مشترك كهذا، وان كان هدفه قصير الأمد ممكن ان يتعزز ليتحول الى تحالف استراتيجي طويل الأمد خاصة اذا حقق بعض النجاح في الأنتخابات القادمة. ولذلك متطلبات منها ما سبق ان ذكرناه من ان كادر وقيادات كلا الطرفين يجب ان يتعرف على ايدولوجية الآخر ويبحث بجهود مضنية كي يستكشف المكونات والأهداف الأجتماعية والأقتصادية التي تجمع الطرفين وتحقق آمال جماهير وقواعد حركتين احداهما دينية لطائفة الشيعة واخرى علمانية لعموم العراقيين. وهذا ليس بالسهل او اليسير وان كان ليس بالمستحيل. وما اراه ان السيد مقتدى الصدر عليه ان يخفف من خطابه الديني والأرتجالي ليغنيه بمطاليب تروم لها الجماهير من خدمات وتوظيف وعدالة اجتماعية وهذا لا يتم إلا بألغاء المحاصصة الطائفية المقيتة التي لا يستفادة منها اكثر من مئة شخص معشعشين في اوكار الدولة منذ عام 2003. وكذلك على الحركة المدنية العلمانية بقيادة الحزب الشيوعي ان تخفف من خطابها المعادي لأستيلاء الأحزاب الدينية بأنواعها على السلطة في العراق. لأنه يعطي انطباع مغلوط من انها حركة معادية للدين. وعليها ان تفرز بوضوح اكثر انها لا تعادي الدين او الشعائر الدينية والممارسات الدينية لكافة الأديان والطوائف وتعلن ذلك مرارا وتكرارا. وانما هي ضد مدعي الدين والتقوى وهم اكثر الناس فساداً وممن اثروا من المقاولات وحصص القومسيون والمخصصات على حساب عامة ابناء الشعب وان تكشفهم وتفضحهم يأسمائهم الشخصية وليس بانتمائهم السياسي او الطائفي لأن في كل الأحزاب من هو نزيه ومن هو فاسد.
  • كذلك على العلمانيين ان يعززوا خطابهم السياسي بنماذج دينية تأريخية لكافة الطوائف من الخالدين والمنزهين من الذين اثروا البشرية بسيرتهم الرائعة بدءاً برسالة سيدنا المسيح (ع) في المحبة والسلام، ونبينا محمد (ص) ورسالة الأسلام والدعوة الى المساوات ووضع اسس تنظيم العلاقات الأجتماعية بين الأفراد والأمم، والأمام علي (ع) ومبادئ العدالة الأجتماعية والمساوات بين المسلمين وغير المسلمين، والخليفة عمر بن الخطاب (رض) وشدته ومساواته بين الناس امام القانون حتى على ابنائه، والأمام الحسين بن علي (ع) وثورته على يزيد بن معاويه لأن وصوله الى الخلافة كان عن طريق البيعة القسرية التي اخذت عنوة من قبل والده وليس لمؤهلاته وحينما حكم لم يحكم بعداله رعيته، والخليفة الأموي عمر بن العزيز (رض) الذين كان من اوائل قراراته ان انتزع الأمتيازات المالية لآل امية من الأمراء والأميرات وكلهم اقربائه وتوزيعها على الفقراء، مما ادى الى التآمر عليه وقتله مسموماً، والصحابي الجليل ابي ذر الغفاري الذي رغم فقره وعدم قدرته على الرؤيا لم يسكت عن ظلم الخلفاء للفقراء والمهمشين من بين المسلمين حتى مات منفياً في صحراء الأردن، وغيرهم كثيرون وذلك بدلاً من استمرار الأستشهاد بالتجارب العالمية التي حدثت في روسيا وفرنسا وامريكا اللاتينية ورموزها والتي لم تعد تمس افكار ومشاعر المواطن العراقي البسيط في هذا الزمان والمكان وهو العراق.

محمد حسين النجفي

mhalnajafi.org

كاليفورنيا، أيلول 2009

تنقيح واعادة نشر تشرين ثاني 2018

 

 

You have successfully subscribed to the newsletter

There was an error while trying to send your request. Please try again.

أفكار حُـرة : رئيس التحرير محمد حسين النجفي will use the information you provide on this form to be in touch with you and to provide updates and marketing.