بـيــــــــــــــــــــروت: مازلتِ الأحلى في عيوننا

“ان مصرف لبنان المركزي ساهم في تحطيم الأقتصاد اللبناني، لأجل عيون أمراء دولة أخرى”

كانت بيروت الخمسينات والستينات وحتى منتصف السبعينات، المصيف والمنتجع والمشفى والمركز التجاري الحر والوحيد في الشرق الأوسط. بيروت مدينة الفن والأقلام والصحافة الحرة. بيروت الروشة وشارع الحمرا والجامعة الأمريكية، مدينة فيروز والرحابنة ووديع الصافي ونصر شمس الدين والمسرح الغنائي. مدينة المطابع والترجمة والتوزيع الى مكتبات الوطن العربي. كانت المركز الوحيد لتداول جميع العملات المحلية والعملات الصعبة. كانت مأوى الهاربين من السياسين والأدباء المضطهدين خاصة من العراق. واليوم بيروت ولبنان لا يجدون من يجمع القمامة من شوارعهم الجميلة، ولا يجدون سواح في مصايفهم ذات المناخ العذب والفاكهة الطازجة والحفلات لأشهر المطربين. أما الطعام والمازات وطريقة توضيب الموائد، فإن موائد لبنان أكاديمية بكل معنى الكلمة لها. فما الذي حدث؟ هل أصيبت بالعين؟ نعم صابوها بالعين الحسودة، العين الشريرة، العين التي لا تتمنى الخير للغير.

كان العراقيون وخاصة التجار والطبقة المتوسطة يفضلون مصايف الزبداني في سوريا ومصايف لبنان مثل عاليه وشتورا وزحلة وخاصة “بحمدون”. أعرف ذلك لأنها المصيف الذي كان يذهب اليه والدي ومجموعة التجار في سوق الشورجة. كان يستورد عن طريق قومسيونجية بيروت الذين يثق بهم كثيراً، بضائع من أوربا، وكان الشحن يأتي إما عن طريق القطار عبر إستطنبول أوشحن عن طريق ميناء بيروت ثم تنقله شاحنات برية عن طريق سوريا. بيروت كانت القلب التجاري النابض في الشرق الأوسط. لم يكن هناك قبرص أو عَمان أو “دبي”.

طيران الشرق الأوسط اللبنانية، كانت شبكة الطيران الأعم والأشمل للأتصال بأوربا. فكنا حينما نسافر الى لندن او باريس يجب ان نبدل الطائرة في بيروت وذلك لعدم وجود خطوط مباشرة بين بغداد وأوربا. سافرت مرة الى باريس عن طريق بيروت. بقيت في بيروت ثلاث او أو أربعة أيام، ثم ذهبت الى باريس. وعلى الرغم من ان باريس مضرب الأمثال في الأطعمة والاتكيت والسرفس، إلا انها لم تقدم لي نصف ما قدمته بيروت. وقررت ان اعود سريعاً الى تلك المدينة العربية ذات النكهة الفينيقية والأناقة الاوربية.

وبعد ان بدأ الدولار النفطي يدخل في جيوب أبناء الخليج، نقلوا سياحتهم من مدينة البصرة الى بيروت والقاهرة. وبطبيعة الحال فإنهم بمالهم الذي لا حدود له، أصبحوا السواح من الدرجة الأولى متخطين العراقيين الذي فتحت امامهم المدن الأوربية وخاصة لندن. كل هذا ولم يكن لأسطنبول وجود سياحي او اقتصادي للعراقيين او الخليجيين بعد.

دخل احد المصطافين والمودعين الكبار لأحد فروع بنك إنترا عام 1966، ولم يتعرف المصرفي سيئ الحظ عليه، وبالتالي لم يعامله المعاملة الخاصة التي تليق به. غضب هذا المستثمر السعودي لكرامته. سحب جميع ودائعه، ونخى ابناء جلدته ان يقوموا بالمثل، وسرت الشائعات على ان أكبر بنك لبناني عالمي سينهار. فتدافع الجميع على سحب ودائعهم. كان ذلك بنك إنترا الذي اسسه المصرفي الفلسطيني يوسف بيدس عام 1951، ليصبح بنك لبنان الأول خلال سنوات، ولتبدأ عيون الحُساد تصيبه. المصرف المركزي اللبناني لم يسعف إنترا كما هو مفروض عليه، وتركه يلفض انفاسه، وقد قيل لأن المملكة السعودية ضغطت على لبنان كي ينتقموا من الفلسطيني الناجح، الذي أهان شيخاً سعودياً. وهذا ما أخبرنا به أستاذنا في الجامعة الدكتور فوزي القيسي الذي كان محافظ البنك المركزي العراقي ثُم وزيراً للمالية في تلك السنوات، الذي درسنا مادة “النقود والبنوك”. وكان تبريره، لأن بنك أنترا لم يكن في حالة خسارة وإنما كان لديه أزمة سيولة بسبب السحوبات المفتعلة. وهكذا نرى ان مصرف لبنان المركزي ساهم في تحطيم الأقتصاد اللبناني، لأجل عيون أمراء دولة أخرى. وقد قيل ايضاً ان إفلاس بنك انترا عام 1966 كان بداية للتدهور الأقتصادي والسياسي والأمني للبنان، وقد مهد ذلك للحرب الأهلية التي حطمت التلاحم الوطني وروجت للطائفية المقيته.

واليوم لبنان يسعى بكل جهده كي يرضي السعودية والخليجيين ويتوسل لأرضائهم على حساب كرامة وإستقلال لبنان سياسياً وإقتصادياً، غير عابئاً بالدروس الماضية والمؤآمرات التي حيكت على لبنان وقلبها النابض بيروت كي تنهض بدلاً عنها وعلى رُكامها، مدن لم تكن في الحسبان، مثل المنامة ودبي وأبو ظبي والرياض. الدرس الذي يجب ان تتعلمه كل الشعوب والحكومات، هو ان يكون أقتصادها متكامل وطنياً يعتمد على مقومات داخلية، قبل ان ينفتح عولمياً.

محمد حسين النجفي
رئيس تحرير موقع أفكار حُرة
www.afkarhurah.com
#بيروت    #لبنان       #بنك_انترا       #فوزي_القيسي        #يوسف_بيدس
نشرت في موقع الحوار المتمدن العدد 7152 بتاريخ 2/2/2022
بيروت: مازلت الأحلى في عيوننا

4 Comments on “بـيــــــــــــــــــــروت: مازلتِ الأحلى في عيوننا

  1. بغداد و بيروت التوأمان الجريحان – في عام ١٩٥٦ و هو عام دخول التلفزيون الى العراق إنتقلت عائلتي من الديوانيه الى العاصمه بغداد و سكنا في شارع هويدي في الكراده الشرقيه قرب بيت جدي المرحوم عبود شنين على شارع أبي نؤاس الذي كان قد سبقنا في الأنتقال الى بغداد لكونه نائب عن الديوانيه في مجلس النواب و كانت بغداد تزهو و كنا نشتري الموطا من بائع الآيس كريم بعربته البيضاء المشابهه لما موجود في لندن حينها و كانت محلات (سبينس) السلسه المشهوره في العالم موجوده قرب نصب علي بابا و الأربعين حرامي في مدخل الكراده الشرقيه و المول الصغير الشهير أورزدي باك في شارع الرشيد في حينها كانت دول الخليج معظم أهلها يعيشون في الخيام . -في عام ١٩٥٥ عندما كنا في لواء الديوانيه سافرت عائلتي و عائلة بيت خالي الى لبنان و ام سفرنا بواسطة سيارات شركة النيرن العالميه و أمضينا الصيف في ربوع جبل لبنان ( عاليه بحمدون صوفر حمانا بيت الدين ) كانت ربوع لبنان تزهو بالعائلات العراقيه و الكويتيه والسعوديه و كانت بغداد و بيروت تزهوان كعروسين في شهر العسل . – في شهر أيلول من عام ١٩٧٣ سافرت مع أخي و صديقي المهندس غازي الجميلي المقيم حاليا في لندن الى لبنان و قضينا أوقاتا ممتعه في بحمدون و ضواحيها و في هذه الأثناء بدأ جرح بغداد ينزف بأبو طبر مجرم الحكومه الذي بث الرعب و الفزع بين سكان العاصمه بغداد و بعد أيام بدأت حرب أكتوبر مع ذلك كان لبنان لا يزال يزهو . – في عام ١٩٧٥ بدأ لبنان ينزف نتيجة الحرب الأهليه التي أحرقت الأخضر و اليابس و لحد يومنا هذا . – في عام ١٩٧٩ بدأ العراق توأم لبنان ينزف نتيجة الحرب العراقيه-الإيرانيه و لحد يومنا هذا . – في عام ٢٠٠٥ عندما كنت في بيروت أشارك في اجتماع بين الهيئه الإستراتيجيه لإعادة إعمار العراق الخاصه بالمشاريع التي يتم تنفيذها بتمويل من الدول المانحه والتي كنت أعمل مديرا عاما فيها مع ممثلي منظمات الأمم المتحده في المبنى المسمى ( بيت الأمم المتحده) قرب ساحة رياض الصلح و تحديدا الساعه الواحده والنصف ظهرا من يوم ٢٠٠٥/٢/١٤ ( يوم عيد الحب) و أثناء تناولنا طعام الغداء إهتزت بيروت والبنايه نتيجة إنفجار قوي تبين بعد دقائق بإنه تفجير إستهدف موكب رئيس الوزراء رفيق الحريرى و هذا دليل واضح على أن لبنان لا يزال ينزف و بقوه . – عندما هجرت من منزلي عام ٢٠٠٦ نقلت عائلتي و عائلة إبني ياسر إلى سوريا و في عام ٢٠٠٧ ذهبنا سياحه الى لبنان و كانت هذه آخر زياره لي الف شكر
    اخوك
    ابو ياسر
    فائز مزهر شنين

  2. جعلتني اشتاق لرؤية بيروت ومصافي لبنان. ان شاء تعود الاحوال كما كانت.ومرورك يا بيروت

  3. احسنت ابو عامر موضوع شيق وتحليل رائع جدا
    المجتهد دائما انت استاذنا الطيب ابو عامر تحياتي

  4. عزيزي الاستاذ محمد حسين النجفي
    شكرا لهذه المقالة التي وضعت اصبعك على الجرح الذي ما زال ينزف منه لبنان وغيره من دول المنطقة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

You have successfully subscribed to the newsletter

There was an error while trying to send your request. Please try again.

أفكار حُـرة : رئيس التحرير محمد حسين النجفي will use the information you provide on this form to be in touch with you and to provide updates and marketing.