كما نُشرت في صحيفة طريق الشعب صفحة 9 العدد 143 السنة 89 الثلاثاء 30 تموز 2024
الأستاذ والصحفي والمناضل: أبو سعيد أنموذجاً
سمعنا بعض الطلبة البعثيين يتحدثون فيما بينهم، من ان استاذاً جديداً سيُدرسنا المواد العلمية للصف الثالث المتوسط في المتوسطة الشرقية في الكرادة الشرقية. كان ذلك في بداية النصف الثاني من العام الدراسي 1962/1961، قالوا ان اسمه “عبد الجبار وهبي”، وهو شيوعي قيادي، وسوف يستهزؤون به ويسخرون منه قبل وبعد المحاضرات وأثناءها. من هو عبد الجبار وهبي! لم نعلم بشخص بهذا الاسم. جاءنا الزميل مناضل فاضل عباس المهداوي في اليوم الثاني بالخبر اليقين، وقال انه “أبو سعيد”! الكل يعرف أبو سعيد، وان كان عمرنا آن ذاك ثلاث أو أربع عشرة سنة، إلا أننا كنا نقرأ الكتب والمجلات والصحف وخاصة صحيفة “أتحاد الشعب” وأول ما نقرأه فيها هو عمود “كلمة اليوم” في الصفحة الثامنة وهي آخر صفحة، الذي يحلل فيه الصحفي الساخر والذي يكتب مقاله على شكل حتوته يحاكي فيها مشكلة او معاناة او آفة اجتماعية او تقاليد بالية او نقد سياسي بدون مجاملة، بأسلوب سلس ولاذع وممتع في آن واحد وتحت اسم مستعار “أبو سعيد”.
أُغلقتْ صحيفة “اتحاد الشعب” في آذار من عام 1960، اعقبها اعتقال رئيس التحرير عبد القادر اسماعيل البستاني واعتقال عبد الجبار وهبي (أبو سعيد) ثم ابعاده الى مدينة الرمادي تحت الإقامة الجبريَّة. وبعد انتهاء محكوميته، نُسب الى مدرستنا، المتوسطة الشرقية لتدريس العلوم لأنه اصلاً من الطلاب المتفوقين الذي حصل على بعثة للحصول على بكالوريوس علوم من الجامعة الامريكية في بيروت.
كُنت في ذلك العام الدراسي في اوج نشاطي السياسي، لذا كنت راسباً في ثلاث مواد علمية، وبالتالي سوف لن يسمح لي بدخول امتحان بكلوريا الثالث متوسط، إلا ان قدوم أبو سعيد الصحفي الذي كنا نقرأ عموده كل يوم، غيّر المقاييس كلها، فكيف لي أن أكون كسولاً واستاذي أبو سعيد! فمثلما هيأ البعثيون أنفسهم لاستفزاز الاستاذ عبد الجبار وهبي، تهيأنا انا ومناضل وآخرين للوقوف بوجههم ولصد استفزازاتهم الوقحة.
وأخيراً جاء اليوم الأول لحضور الأستاذ عبد الجبار وهبي الى الصف بعد انتظار مقلق. كان مشهداً لا يوصف، أستاذ في منتهى الهندام، انيق دون مبالغة، لا تسمع أصوات خطواته لكياستها، قصير القامة نحيف البدن ذو رأس مُثلث كبير الحجم نسبياً، يملأ وجهه نظارات طبية مبالغ في حجمها. دخل الصف من وسطه وكأنه ملاكٌ ذو سطوة ساحرة، دخل في الدرس مباشرة وإذا بمادة العلوم الجافة تتحول بالطريقة التي يشرحها لنا كأنها حكاية، نستمع اليها بشغف وخشوع وكأننا في كنيسة نستمع فيها الى تراتيل كاثوليكية باللغة اللاتينية في الفاتيكان، الصف كله آذان صاغية له، لم يجرئ أحد مهما كانت وقاحته ان يكسر حاجز الوقار الذي يملكه هذا الإنسان الذي بدى لنا في حينه انه من غير كوكبنا. أُعتقل في العهد الملكي والعهد القاسمي، واعتقل بعد حركة 8 شباط 1963 الدموية، وعُذِّبَ وقُطِّعَ جسدُهُ في قصر النهاية وهو حيٌّ وبشهود عيان, وأعلن عن استشهاده مع رفاقه محمد صالح العبلي وجمال الحيدري في 19 تموز 1963. وهم خير ما تنطبق عليهم هذه الأبيات من قصيدة مفاتيح المستقبل للعظيم محمد مهدي الجواهري:
نم قرير العين استاذي، فبعد ستون عاماً على رحيلك مازلنا كما تركتنا، نناضل بلا هوادة، نُضطهدُ بلا ملل او كلل، وما زلنا مخلصين لأفكارنا بسذاجة، ومعذرةً منك ومن كل الشهداء لأننا لم ننتقم لكم ولم نثأر لمظلوميتكم، ولم نُحاسب مُعذبيكم ولم نُشتكِ عليهم في المحاكم المحلية او المحافل الدولية، ولم نقاطع جلاديكم، ولم نسجل دعوى عليهم في مراكز الشرطة او في مضايف العشائر ولا حتى عند المراجع العظام. هُدر دمكم وهُتك عرضكم وسُلب مالكم تحت أنظار أعيان القوم ورؤساء العشائر وقراء المنابر لمدة تسعين عاماً ونيف ولازال، ولازالت مطاحن الأنذال تطحن بنا وما زلنا نغني لشعبنا أنشودة حب ابدي لوطن لازال ليس حُراً ولشعب ليس سعيداً، إلا اننا ما زلنا نستذكركم بيننا أستاذي، نحن بقايا زمن نضالكم المُشرف.
محمد حسين النجفي
31 تموز 2024
الدكتورعلي إبراهيم الناقد الادبي، يقدم قراءة نقدية سياسية تفصيلية لكتاب “صفحات لا تُطوى” لمحمد حسين النجفي ،
على الصفحة السابعة من صحيفة طريق الشعب الغراء العدد 138 السنة 89، 16 تموز :2024:
“وجدت في هذه المقالات كثيرا من الأفكار والمقترحات المهمة جدا…
وأحترم كل الآراء والأفكار والمقترحات بغض النظر عن اختلافي أو اتفاقي معها …
أجد من الضروري قراءة هذا الكتاب من قبل كل الحريصين على مستقبل العراق السياسي.“
أضغط على الرابط أدناه لقراءة النص كاملاً
طريق الشعب
كما نشرت في الحوار المتمدن العدد 8036 بتاريخ 2024/7/12
حركة 14 تموز 1958: ثورة شعبية أم أنقلاب عسكري
مقدمة نظرية:
ليس هدف هذا البحث تمجيد حركة 14 تموز 1958 أو ذمها، ليس الهدف الدفاع عنها او استنكارها، إنما غاية هذا البحث هو تقييم هذه الحركة من حيث موقعها من التاريخ، هل انها كانت مجرد انقلاب عسكري أدى الى تغيير لبعض رموز السلطة، اما انها كانت حدثاً سياسياً واجتماعياً شاملاً لشتى نواحي الحياة في الدولة العراقية. ولكي نستطيع ربط احداث تموز ومنحها التسميات المناسبة لابد لنا من الرجوع الى تعريف مسميات الثورة والانقلاب وغيرها من التسميات، ومحاولة فهم الفارق بينهما من خلال عرض لبعض النماذج التأريخية ومقارنتها بأحداث تموز 1958.
ما بين الانقلاب والثورة، هناك الكثير من المصطلحات السياسية التي تستخدم في محلها واحياناً في غير محلها. فعلا سبيل المثال إذا كان المتحدث يتفاعل مع الحدث ايجابياً يسميه ثورة ويطلق على القائمين به لقب الثوار. وان كان يعارض الحدث يسميه انقلاب او مؤامرة او تمرد، ويمنح القائمين به شتى النعوت السلبية. وسنحاول قدر الإمكان التجرد عن المشاعر والانتماء، ولو لحين كي نفهم حركة 14 من تموز عام 1958. وقبل ان نُعرف معنى الثورة والانقلاب دعونا نجري مسحاً لمصطلحات عديدة ضمن هذا المجال:
ولنبدأ بمصطلح: انتفاضة او وثبة فهي تعني هبة الجماهير ضد السلطة لتحقيق مطلب معين او لاستنكار قرار قانون حكومي تعسفي. مثال ذلك وثبة كانون الثاني عام 1948 ضد معاهدة بورت سموث، وانتفاضة تشرين عام 1952 ضد الملكية تضمنت اضراب عمال موانئ البصرة وطلاب صيدلة جامعة بغداد.
الاصطلاح الآخر هو الأضراب: أي التعطيل عن العمل سواء كلياً او جزئياً، لمدة محدودة او لحين تحقيق المطالب، مثال اضراب سائقي السيارات وما سميّ اضراب البنزين نتيجة رفع الحكومة سعر البنزين عام 1962. مثال آخر اضراب عمال السكاير عام 1959 لتحسين ظروفهم المادية وظروف العمل.
العصيان والتمرد كلمتان متقاربتان عادة تطلق هذه التسميات على الأشخاص او المجموعات التي تتمرد او تعصي الانصياع لأوامر السلطة، مثلاً أطلقت كلمة العصاة على قوات البيشمركة من قبل السلطة في بغداد، بينما هم يسمون أنفسهم ثوار.
وتطلق كلمة مؤامرة ومتآمرين على ثوار او انقلابيين حينما تفشل حركتهم، على سبيل المثال مؤامرة الشواف عام 1959، ومحاولتي عارف عبد الرزاق الانقلابية حينما كان رئيساً للوزراء.
الانقلاب: تعرف ويكيبديا الانقلاب على انه السيطرة وازالة الحكومة من السلطة. وعادة يكون الاستئثار بالسلطة بشكل غير قانوني، من قِبل مجموعة سياسية او قوى متمردة او ديكتاتور. ويعتبر الانقلاب ناجحاً إذا مسك السلطة لمدة أسبوع. اما يور دكشنري فيعرف الانقلاب على انه تغير مفاجئ وسريع للقيادة في السلطة. وأفضل امثلة على ذلك انقلاب بكر صدقي عام 1936، انقلاب عبد السلام عارف 18 تشرين 1963، وانقلابي 17- 30 تموز 1969. ومن أنواع الانقلابات: انقلاب عسكري، انقلاب دستوري مثل ما يحدث في تونس (قيس سعيد) وانقلاب قصر مثل ما يحدث في السعودية ودول الخليج.
إذن لم يبقى لنا سوى ان نعرف الثورة: تعرف ويكيبيديا الثورة من انها تعني تغيير جذري وفوري في السلطة السياسية، التي عادةً تحدث حينما تتمرد الجماهير على السلطة بسبب اضطهادها لها او بسبب عدم كفاءتها. والثورات تحدث في كل الأزمنة وبمختلف الطرق والظروف والدوافع السياسية. وتكون مصحوبة عادة بتغيير جوهري في الطروحات الاجتماعية والسياسية كرد فعل للمعاناة من سلطة الحاكم المطلق. ومن بين اهم الأمثلة المتفق عليها على الثورة هي: الثورة الأمريكية (1775-1783)، الثورة الفرنسية (1799-1789)، الثورة البلشفية (1917)، الثورة الصينية (1940’ s)، الثورة الكوبية (1959)، الثورة الإيرانية (1979).
أما شارلس تيلي Charles Tilly، الباحث المعاصر في مفهوم الثورات فإنه يرى ان الانقلاب هو تغيير فوقي للسلطة، اما الثورة وخاصة الثورة العظيمة The Great Revolution، فهي الحركة التي تؤدي الى تحولات اجتماعية واقتصادية جذرية، مصحوبة بتغيير في طبيعة المؤسسات السياسية، ويضرب بذلك مثلاً الثورة الفرنسية والبلشفية والإيرانية.
اما مفهوم الثورة بالمعنى الماركسي فإنها كما يقول لينين “هدم بالعنف لبناء فوقي سياسي قديم ولى عهدهُ، وأدى تناقضه مع علاقات الإنتاج الجديدة، في لحظة معينة الى افلاسه” (لينين: خطتا الاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية، ص 206). وتحقيق “الهدم “هنا مشروط بوجود حزب بروليتاري يقودها. ووفق القانون الماركسي فإن الثورة تعني القطع مع النمط الاقتصادي الاجتماعي القائم، وتأسيس نمط جديد (سلامة كيلة: الثورة في الماركسية).
برز تفسير في القرن التاسع عشر بين الأحزاب اليسارية ومفكريها، وتبلور وتحدد فيما بعد في إطار النظرية “الماركسية اللينينية” وعرف بـ “التفسير المادي للتاريخ” وينطلق هذا التفسير من ان الثورات تحدث نتيجة وجود مقدمات وشروط محددة تبرز في إطار تطور المجتمع، تؤدي إلى وجود تناقضات أساسية تتحدد في التناقض بين الطابع الاجتماعي للإنتاج، وشكل التملك الاحتكاري الخاص. ويؤدي ذلك إلى اتساع الشعور بالظلم والاستغلال الذي يمارس من قبل فئة قليلة مالكة ضد بقية فئات الشعب. وتؤدي هذه التناقضات إلى «أزمة سياسية» عميقة، تحمل معها نشوء حالة «ثورية» تتجسد بنشاط الجماهير السياسي الواسع من خلال التمرد على الواقع بأشكال ومظاهر متعددة مثل الاضطرابات، والمظاهرات والاجتماعات والانقلابات (التفسير النقدي الارتقائي المتفائل (موقع المعرفة www.marefa.org.).
إنَّ الحالة الثورية هي تعبير عن التناقضات الموجودة في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية بل هي ذروة تفاقمها. وفي معرض الحديث عن أسباب الثورة، ذكر ماركس في مقدمته «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي» أنه في مرحلة معينة من تطور المجتمع تدخل القوى المنتجة في تناقض مع العلاقات الإنتاجية، التي كانت حتى ذلك الحين تتطور في إطارها. وتتحول هذه العلاقات المختلفة من صيغة لتطور القوى المنتجة إلى عوامل معوقة لتطوّرها، وعندئذٍ يحصل عصر الثورة. وعليه فإن الصراع بين القوى المنتجة الجديدة وبين العلاقات الإنتاجية القديمة يشكل الأساس الموضوعي الاقتصادي للثورة. وإنَّ تصفية العلاقات الإنتاجية القديمة، واستبدالها بعلاقات جديدة، لا تحدث تلقائيَّاً وإنَّما من خلال توحيد القوى التقدمية كافة التي تعمل على إنهاء النظام الاجتماعي القديم.
وتشير النظرية “الماركسية اللينينية” إلى أهمية الحزب الثوري ودوره في توحيد القوى الثورية وتنظيمها، وأهمية العوامل الذاتية في توعية الجماهير وقيادتها. وتشكل وحدة الظروف الموضوعية والذاتية، عند لينين، القانون الأساسي للثورة. والثورة تحلّ جملة من القضايا المتعلقة بالتغيير الاجتماعي، إنَّها تهدم القديم وتبني الجديد. ومن القضايا الهامة والبارزة التي تواجهها الثورة هي «قضية انتقال السلطة إلى أيدي الطبقة الثورية». وكما يرى لينين فإن سلطة الدولة هي المسألة الرئيسية في أية ثورة. ويرتبط ذلك بجوهر الدولة، بوصفها أداة خاصة أقامتها الطبقة الحاكمة، كوسيلة للسيطرة والتحكم والحفاظ على النظام القائم. ويرتبط بالمهام التي يترتب على الثورة تنفيذها، من خلال مقاومة القوى الاجتماعية المالكة السابقة. ونتيجة ذلك تركز «الماركسية اللينينية» على أهمية الفهم الصحيح للعلاقة بين «الثورة والسلطة». فالثورة مقدمة ووسيلة لاستلام السلطة. واستلام السلطة شرط ضروري للتغييرات الجذرية التي يجب تحقيقها في المجتمع من خلال السلطة الجديدة التي تجسد مصلحة الجماهير وتعمل لتحقيق أهدافها.
ورأى لينين فيما بعد أن السيطرة الاستعمارية وما يرافقها من نهب واستغلال للشعوب المستعمرة يمكن أن تشكل مقدمات لقيام ثورات وطنية ذات طابع تحرري ضد الدول الاستعمارية. وعرفت هذه الثورات بـ«ثورات التحرر الوطنية». وأن المرحلة الإمبريالية لابد أن تؤدي إلى توسيع هذه الثورات، وبالتالي إلى حتميتها أيضاً، وحتمية حروب الطبقة العاملة ضدَّ «الطبقة البرجوازية»، وحتمية الجمع بين كلا هذين النوعين من الحروب الثورية.
نماذج منتخبة من التجارب العالمية
الثورة الفرنسية (5 مايو 1789 – 14 يوليو 1799):
تعتبر الثورة الفرنسية أم الثورات ونموذجاً رائداً يتغنى به الثوريون والليبراليون والعلمانيون، لأنها لم تكن عبارة عن تغيير اشخاص العائلة المالكة، انما أحدثت تغييرات سياسية اقتصادية واجتماعية، وتركت طابعها الأبدي على البشرية. سبق الثورة الفرنسية سبع سنوات من الحروب القاسية على القوات الفرنسية وخسارتها الفادحة. أدى ذلك الى تضخم الدين العام وزيادة الضرائب على الملاكين والمواطنين لتغطيته، مما خلق تذمر تحول الى اضطرابات اجتماعية وسياسية. تفاعل الجوع والبؤس في الأحياء الفقيرة من باريس، مما دفع الجماهير للهجوم على قلاع سجن الباستيل يوم 14 تموز 1789، وكان ذلك بداية الثورة الفرنسية.
أعقب ذلك مسيرة النساء الساخطات اللاتي قررنا الزحف الى قصر فرساي حاملين سكاكين مطبخية وكل ما يستطيعون لإرغام الملك لويس السادس عشر للعودة الى باريس لأداره الشؤون بشكل مباشر. لم يستطع لويس السادس عشر من السيطرة على الأوضاع المضطربة او تلبية احتياجات الجماهير الهاجة التي أسقطت الملكية المطلقة وأعلنت قيام الجمهورية في سبتمبر عام 1792 وإعدام لويس السادس عشر وعائلته في شهر كانون الثاني من عام 1793.
بعد ذلك سيطر روبسبير واليعاقبة عامي 1793 و1974 لتشهد فرنسا فترة إرهاب واعدامات في المحاكم الثورية التي راح ضحيتها ما بين 16,000 الى 40,000. اهم منجزات الثورة الفرنسية هي الغائها للملكية المطلقة وتأسيس النظام الجمهوري، وإلغاء الأقطاع والامتيازات الخاصة، وفصل الدين عن الدولة، وإعلان لائحة حقوق الأنسان التي شملت النساء والعبيد. وعلى الرغم من انها ابتدأت بتحالف البورجوازية مع العمال والمعدمين، إلا انها انتهت بسيطرة البورجوازية بالتحالف مع نابليون بونابرت.
كومونة باريس:
ابتدأت الثورة الفرنسيّة بتحالف البورجوازية مع العمال والمُعدمين، وانتهت بسيطرة البورجوازية بالتحالف مع نابليون بونابرت. أعقب ذلك ثورة أخرى هي “كومونة باريس” التي حدثت نتيجة لخسارة نابليون الثالث الحرب مع بروسيا ودخول الجيش البروسي واحتلال باريس. وتعتبر كومونة باريس أول ثورة اشتراكية.
الثورة البلشفيَّة في روسيا (أكتوبر 1917):
من بين اهم الأحداث التي سبقت ثورة أكتوبر هو دخول روسيا في حرب مع اليابان عام 1904، كانت نتيجتها خسارة فادحة للأسطول البحري الروسي. أعقب ذلك ما يعرف بالأحد الدامي، حيث تمّ إطلاق النار على مسيرة سلميَّة مطلبيَّة متوجّهة لقصر الشتاء في سانت بطرسبرغ، بتاريخ 22 شباط 1905، مما أدى إلى سقوط المئات ويقال الآلاف بين قتيل وجريح. تبع ذلك نجاح ثورة 23 شباط 1905، وإرغام القيصر نيقولا الثاني على قبول المشاركة في الحكم وضمان بعض الحريّات المدنيَّة.
كان لاندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914 وتَكَبُّدُ روسيا خسائرَ فادحة بلغت بحدود المليون وستمئة ألف قتيل ونحو مليوني أسير، دور كبير لتدهور الأوضاع السياسية والمعيشية، مما أدى الى العديد من الاضطرابات من بينها، مغادرة 90,000 امرأة عاملة يوم عيد الأم 23 شباط 1917 المصانع في بترو غراد ودخولهن الشوارع باتجاه القصر الشتوي يهتفن بـ “الخبز” و”أوقفوا الحرب” و”تسقط الأوتوقراطية”، في وقت كان معظم الرجال يحاربون في الجبهة. أعقب ذلك في اليوم التالي 24 شباط 1917، خروج نحو 150,000 رجل وامرأة لنفس السبب، مما أدى الى تمرّد بعض رجالات الشرطة والجيش وانضمامهم للمتظاهرين، وجد القيصر نيقولا الثاني مرغماً للتنازل عن الحكم يوم 13 آذار 1917.
تشكلت بعد ذلك حكومة مؤقتة برئاسة كيرنسكي، ألغت أحكام الإعدام وأطلقت سراح السجناء، وعفت عن المنفيين ومنهم “لينين”، الذي لم يُضع وقتاً وعاد من منفاه في زيورخ الى بترو غراد يوم 3 نيسان 1917 مستقبَلاً من قبل آلاف العمال والجنود. اكتسح البلاشفة يوم 31 آب انتخابات العمال في معظم المدن الصناعيّة، حيث بدأت الإضرابات العماليَّة. رفض “لينين” سلطة الحكومة المؤقتة برئاسة “ألكسندر كيرنسكي”.
تحولت الاضطرابات العمالية الى تحركات قام بها الجنود وبعض الضباط وسيطروا على الطرَّاد “أورورا” وإعدام قبطانه يوم 24 اكتوبر 1917. تحول ذلك الى ثورة مسلحة يوم 25 أكتوبر 1917 بسيطرة العمال والجنود على جميع مدن بترو غراد الحيويَّة ما عدا قصر الشتاء. خُتمت الاحداث بقصف الطرَّاد “اورورا” قصر الشتاء، وإعدام القيصر نيقولا الثاني وجميع أفراد عائلته بضمنهم المرافقون والخدم يومي 16-17 تموز 1918.
أهم إنجازات ثورة أكتوبر كانت إسقاط النظام القيصري الإقطاعي، وتأسيس نظام جمهوري شعبي، يطمح لبناء مجتمع اشتراكي. تُوجَّتْ ثورة أكتوبر بتأسيس الاتحاد السوفيتي الذي دام أكثر من سبعين عاماً.
حركة بكر صدقي (العراق) (1936- 1937):
إبّان الحرب العالميَّة الثانية واحتدام الصراع بين دول المحور بقيادة ألمانيا النازيَّة، وبين دول الحلفاء متجسّدة ببريطانيا وأمريكا والاتحاد السوفيتي، حدث صراعٌ في العراق بين الملك غازي وبين مُوالي الإنكليز في العراق متمثلاً بعبد الإله ونوري السعيد.
أول انقلاب في الدول العربيَّة حصل في العراق على يد الفريق الركن بكر صدقي يوم 29 تشرين الأول 1936، وشاركه العقيد محمّد علي جواد قائد القوة الجويّة وعبد اللطيف النوري، مستفيدين من ميل الملك غازي نحو ألمانيا. هدف الحركة إسقاط وزارة “ياسين الهاشمي” وإضعاف نفوذ نوري السعيد والإنكليز.
بيان الحركة: أيّها الشعب العراقي الكريم: لقد نفد صبر الجيش المؤلف من أبنائكم، من الحالة التي تعانونها، من جراء اهتمام الحكومة الحاضرة لمصالحها وغاياتها الشخصية، من دون أن تكترث لصالحكم ورفاهكم. نطلب الى صاحب الجلالة الملك المعظّم إقالة الوزارة القائمة، وتأليف وزارة من أبناء الشعب المخلصين.
توقيع: قائد القوة الوطنيّة الإصلاحيّة: الفريق بكر صدقي العسكري
تبع ذلك اغتيال جعفر العسكري وزير الدفاع وصهر نوري السعيد، وهو من المقرَّبين جدَّاً للملك فيصل الأول من قبل الحركة. أقال الملك غازي ياسين الهاشمي وكلَّفَ “حكمت سُليمان” لرئاسة الوزارة، بالاتفاق مع بكر صدقي الذي أصبح رئيساً لأركان الجيش. ضمّت الوزارة: صالح جبر للعدليَّة، ناجي الأصيل للخارجيَّة، كامل الجادرجي للاقتصاد والمواصلات، يوسف إبراهيم للمعارف، جعفر أبو التمن للماليَّة.
لم يمض وقت طويل حتى تمّ اغتيال بكر صدقي ومحمد علي جواد في الموصل قبل سفرهما إلى تركيا عام 1937. بكر صدقي معروفٌ بقسوته تجاه اللاجئين الآشوريين من سوريا عام 1933، وضد عشائر الفرات الأوسط عام 1935، وضد حركة البرزانيين. انتهت الحركة من دون تغيير يُذكر في الهيكل الأساسي للدولة أو في سياساتها العامة.
حركة رشيد عالي الكيلاني (العراق) (شباط – أيار 1941):
استمراراً للحرب العالمية الثانية واحتدام الصراع بين دول المحور بقيادة ألمانيا النازيّة، وبين دول الحلفاء متجسّدة ببريطانيا وأمريكا والاتحاد السوفيتي، وضمن هذه الظروف تحرّكت مجموعة من الضباط المعادين للإنكليز وعبد الإله ونوري السعيد، شارك فيها: حسين فهمي رئيس أركان الجيش، العقداء الأربعة: صلاح الدين الصبَّاغ، فهمي سعيد، كامل شبيب، محمود سلمان في شباط من عام 1941. أحاطت قطعات عسكرية القصر الملكي وأُجبر رئيس الوزراء طه الهاشمي على الاستقالة. تمَّ تشكيل وزارة إنقاذ برئاسة رشيد عالي الكيلاني من دون تكليف من الوصي عبد الإله.
أدى ذلك إلى هروب نوري السعيد إلى الأردن، وهروب عبد الإله إلى البصرة ثم نقله الإنكليز إلى عَمّان. ألغى البرلمان وصاية عبد الإله وعَيَّنَ “الشريف شرف” وهو من العائلة المالكة، وصيَّاً على الملك بدلاً عنه. انتهت الحركة بتدخّل عسكري بريطاني، وجرت معارك غير متكافئة في الشعيبة والحبانيَّة. أدى ذلك إلى هروب رشيد عالي الكيلاني وأتباعه إلى إيران.
أعقب ذلك فراغٌ أمنيٌّ في بغداد، حيث استفاد من ذلك الغوغاء يوم 1 حزيران 1941 إذ قاموا بإحداث ما يسمى بـ “فرهود اليهود” الذي قُتل فيه 179 وجرح 2118 أثناء عمليات سلب ونهب بيوت ومحلات اليهود، وقيل إنّها شَمِلَتْ غير اليهود أيضاً. تمَّ اعتقال العُقداء وجرى إعدامهم علناً في مناطق رئيسة ومتفرقة من مدينة بغداد، وتُركتْ أجسادهم معلَّقةً لساعات ممّا أثار حنق العسكر على الوصي ونوري السعيد.
الثورة المصريَّة (23 يوليو “تموز” 1952):
طبيعة الظروف السياسية والاقتصادية التي سبقت الثورة: حكمٌ ملكيٌّ تابعٌ بشكلٍ وآخر للإمبراطوريّة البريطانيّة، خلافاتٌ سياسيّة بين الوفديين والسعديين والبلاط الملكي والشعب المصري، وجود معارضة سريَّة يقودها حزبان متناقضان “الاخوان المسلمين” و “الشيوعيون المصريون”. نمو طبقة مثقفة من الأدباء والفنانين والجامعيين المصريين، مصحوباً بنمو الروح الوطنيّة والقوميّة لدى الضباط المصريين الذين ينحدر معظمهم من عائلات فقيرة. نتائج الحرب العربيّة الإسرائيليّة عام 1948 ونكبة فلسطين، وتجهيز الجيش المصري بالأسلحة الفاسدة كانت عاملاً أساسيّاً في نقمة الضباط الأحرار على الملك فاروق والإنكليز.
ابتدأت الثورة بتحرّك مجموعة من الضباط الأحرار وسيطرتهم على مقاليد الحكم يوم 23 يوليو “تموز” 1952. أُذِيْعَ البيانُ الأولُ بصوت “محمد أنور السادات”. لم يحدث أيُّ صِدامٍ عسكريٍّ، وكان انقلاباً أبيض. قاد الحركة مجلس قيادة ثورة من 13 ضابطاً برئاسة اللواء “محمد نجيب”. أُجْبِرَ الملكُ فاروق على التنازل عن العرش لولي العهد “أحمد فؤاد”. أُلغيت الملكيّة وأُعلنت الجمهوريّة يوم 18 يونيو “حزيران” 1953. بروز شخصية “جمال عبد الناصر” من بين الضباط الأحرار.
من بين اهم اهداف الثورة المصرية، مناهضتها للاستعمار، وإقامة جيش وطني قوي، والقضاء على الإقطاع، وتحقيق العدالة الاجتماعيّة، وإقامة حياة ديمقراطيّة. كان من أهم إنجازاتها: الإصلاح الزراعي وإعادة توزيع الأراضي، إجلاء القوات الأجنبيّة وتأميم قناة السويس، وبناء السد العالي ومجانيَّة التعليم بجميع مراحله.
تقييم التجارب العالميَّة:
التجـــــــــربة العـــــــراقية
العراق قبل تموز 1958 (العهد الملكي: 1921-1958):
اتسمت الأوضاع السياسية طيلت تلك الفترة بسيطرة القوات البريطانية على سيادة العراق، وهيمنة نوري السعيد وعبد الإله على الأوضاع السياسية، ودخول العراق في حلف بغداد 1955. أما النظام برلماني نتائجه مسيطر عليها باعتماد دوائر انتخابيه متحكم بها، والحرية السياسية محدودة لبعض الأحزاب السياسية المعتدلة مثل حزب الاستقلال والحزب الوطني الديمقراطي، واحزاب يسارية محدودة الحرية مثل حزب الشعب لعزيز شريف وحزب الاتحاد الوطني لعبد الفتاح إبراهيم، أما الحزب الشيوعي فكان دوره بارزاً في النشاطات السياسية المعادية للسلطة وبرز ذلك بوضوح في انتفاضة تشرين 1952 ووثبة كانون الثاني 1948 (معاهدة بورت سموث). توجت أحزاب المعارضة العراقية نشاطها بتكوين جبهة الاتحاد الوطني عام 1957 التي كانت على اتصال بتنظيم الضباط الأحرار.
أما الأوضاع الاقتصادية فكانت تحت سيطرة وهيمنة الشركات الإنكليزية على مصادر الثروة النفطية، وتبعية العملة العراقية لنظام الإسترليني. أما الاقتصاد الزراعي فكان تحت هيمنة الأقطاع وكبار الملاك الذين يملكون 75% من الأراضي الزراعية، ولم تكن حصة المزارعين تتجاوز الـ 30 % من المحصول الزراعي. إيجابياً كان قد بدأ مجلس الأعمار بخطة واسعة تتضمن مشاريع البنى التحتية مثل سدة الثرثار وبحيرة الحبانية ومشروع المسيب الكبير.
اجتماعيا كان هناك تطور في المدن مما أدى الى نمو الطبقة الوسطى وجيل من المثقفين، اما الريف الذي كان يعاني من قهر وظلم الاقطاع واستقوائهم بقانون العشائر، الذي أدى الى هجرة الايدي العاملة من جنوب العراق الى بغداد وتكوين عشوائيات سكان الصرائف. أما الأحوال المدنية فكانت مرهونة فقط بتفسير رجال الدين.
القوات المسلحة وحركة الضباط الأحرار:
كانت المراتب العليا في الجيش موالية للملك ولنوري باشا وللإنكليز، أما المراتب الوسطى والدنيا فكان ولاءهم للوطن ويرومون التغيير. وقد تأثر الجيل الجديد من الضباط بما يلي:
كل ذلك أدى الى تكوين عدة تنظيمات عسكرية سرية تروم اسقاط الملكية وتأسيس حكم جمهوري مستقل عن المملكة المتحدة. توحدت كل هذه التنظيمات في تجمع سري واحد تحت قيادة الزعيم الركن عبد الكريم قاسم وحوالي ثلاثمائة ضابط في كل أصناف القوات المسلحة العراقية.
كان تنظيم الضباط الاحرار على اتصال مستمر بشخصيات من تنظيم جبهة الاتحاد الوطني وخاصة بالحزب الوطني الديمقراطي والحزب الشيوعي العراقي، والذين ابلغا بموعد قيام الحركة بعدة أيام.
حركة 14 تموز 1958 واهم منجزاتها:
لم تكتفي حركة 14 تموز 1958 بتغيير الهيكل السياسي العام من حكم ملكي دستوري، الى حكم جمهوري، إنما سنت تشريعات وقوانين وبرامج غيرت جذرياً الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومنها:
الخلاصة والاستنتاجات:
يشير الكاتب د. عبد الخالق حسين في كتابه ثورة وزعيم من ان المستشرق الفرنسي مكسيم رودنسون قال ان: ” ثورة 14 تموز العراقية ھي الثورة الوحيدة في العالم العربي “. أما حنا بطاطو فيقول ” أننا امام ثورة اصيلة، ليس لأنها اضعفت النفوذ الغربي فقط، وإنما لأنها “دمرت لحد كبير السلطة الاجتماعية لأكبر مُلاكي الأراضي، وعززت موقع العمال والشرائح الوسطى والدنيا في المدن، ولإلغائها نظام النزاعات القبلية وإدخال الريف في صلب القانون الوطني. ويرى إسماعيل العارف أن “عبد الكريم قاسم شخصية قيادية فذة، وتجربته هي إحدى اغنى التجارب الثورية في العالم الثالث”.
ويرى الباحث نتيجة المعايشة، ودراسة المفاهيم والمقارنات العالمية من ان: “حركة 14 تموز 1958 أقرب الى ان تكون ثورة شعبية منها الى انقلاب عسكري، بالمقارنة مع الثورة المصرية عام 1952. وقد استمدت شرعيتها الثورية عن طريق التنسيق مع عموم المعارضة ابان العهد الملكي متمثلةً بـ “جبهة الاتحاد الوطني” ببرامجها وقياداتها واعضائها، وبالمشاركة الشعبية العفوية والتأييد الواسع من قبل الجماهير، ومن التغييرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي احدثتها.
إلا ان ثورة 14 تموز 1958 لم ترقى لتكون “الثورة العظيمة” كما تحدث عنها شارس تيلي التي من المفروض ان تؤدي الى تحولات جذرية للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية، المصحوبةً بتغيير شامل في طبيعة المؤسسات السياسية. وهي ليست ثورة بالمفهوم الماركسي، لأنها لم تقم بناء على صراع طبقي مسبق، ولم يكن هدفها إزالة الفوارق الطبقية او بناء مجتمع اشتراكي، ولم يقودها حزب بروليتاري. وبالتالي فهي ثورة تحرر وطني متكاملة شارك فيها الجيش والشعب، هدفها الأساس تحرير العراق من النفوذ الأجنبي وبناء اقتصاد وطني مستقل، وتحقيق إصلاحات اجتماعية واقتصادية لصالح الفقراء والمحرومين.
المصادر:
محمد_حسين_النجفي#
كما نُشرت في صحيفة المثقف الألكترونية
صفحات لا تُطوى
هذا هو الكتاب الثالث الذي أقرؤه للمفكّر الحر محمد حسين النجفي، كلّ كتاب يختلف عن الآخر من حيث التجنيس وطبيعة الكتابة، فإذا كان الكتابان الأولان ذَوَيْ نسق سردي يرتهن إلى الرواية، فإن هذا الكتاب (صفحاتٌ لا تُطوى: أفكار حرة في السياسة والحياة) ذو طبيعة مقارباتية للواقع الذي عاشه الكاتب، والذي يكاد أن يكون مشتملاً على جلّ الوقائع الحياتية؛ السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية، فلا ينقلها نقلاً سكونياً، وإنما يسعى لبث الحياة فيها مُجسّراً العلائق بين الماضي، الذي لا يريده أن يكون غابراً، وبين الحاضر، الذي لا يريده أن يكون عابراً، هي القراءة التي تتوغل في كهوف الذاكرة، فتجعل الأحداثَ التي حملتها مرآةً، تتمظهر فيها أفعالُ الحاكم وردةُ أفعال المحكوم أضواءً من الأسئلة التي تقلق القارئَ، وتدفع به إلى التأمّل بحثاً عن سبل التغيير، والتي طرحها الكاتب بوعي المتفكّر لا المتيقن بحركة التغيير، فهو يقترح الإبدالات ويجترحها من دون أن يجرح كبرياء أصحاب الأيديولوجيات السياسية أو المعتقدات الدينية، لأن الكاتب محمد حسين النجفي يؤمن بالاختلاف ويعمل من مظان قبول الآخر على طرح رأيه بشفافية.
لا يعتمد الكاتب محمد حسين النجفي منهجاً علمياً صارماً للتحليل، بقدر ما يعمل على تفعيل وعيه العالي، ومعاينة الفجوات التي شيّدت الوقائع التي عاصرها، فيجمع صورها الجزئية قارئاً ومتسائلاً ومقترحاً، ليضع قارئه في الصورة الكليّانية للماضي، محدّداً الزمان والمكان وطبيعة الإنسان التي أسهمت في تشكيل هذه الأحداث سلباً وإيجاباً، مبتعداً عن الوعظية وعن السلطة الأبوية، وهذا لا يعني أن النجفي كاتب رومانسي، بقدر ما هو كاتب بالمعنى الثوري لتفعيل وعي الآخر، وانتشاله من أسر السائد والمألوف من الاعتقادات التي تدفع بالإنسان إلى السكون والخمول والذبول على ضفاف الانتظار، النجفي كاتب يدعو إلى التشكيك بالقراءة المهادنة، وبالفلسفة الأحادية، فيدعو إلى مواجهة الضوء للظلام بأدوات الحفر المعرفي لأعماق النظم التي سلبت الإنسان إرادته، فيخلخل هذه النظم بسلاح سؤال المعرفة الذي يقوّض ويبني في آن، شرط أن لا يكون البناء بالأحجار القديمة ذاتها، وإنما يتبلور بأحجار جديدة ومغايرة تتكامل بها إرادة الإنسان وكينونته.
الأستاذ الدكتور محمد عبدالرضا شياع
كاليفورنيا، الولايات المتحدة الأمريكية
#محمد_حسين_النجفي #العراق #افكار_حرة #دكتور_محمد_عبد_الرضا_شياع
Dr. Shak Hanish (Director of the Political Science Program at National University in California – USA)
These are some of my impressions of the People’s Republic of China from my recent visit as a university professor to give lectures on culture, history, and politics in the Arab region and the Middle East. I presented at three leading universities in foreign languages: Beijing Foreign Studies University, Shanghai International Studies University, and Beijing International Studies University, where I stayed for a month and a half.
Introduction:
China occupies a prominent position as one of the largest countries in the world in terms of population and area. In terms of population, China is the largest or second-largest country in terms of population. In terms of area, China ranks third among countries worldwide. China is one of the leading powers on the global stage due to its rich history and significant influence on a wide range of economic and cultural aspects. China is a socialist country that blends ancient traditions with modern progress harmoniously. China is currently experiencing tremendous economic growth, remarkable technological advancement, and plays a major role in international affairs.
The Beauty of China:
Beijing, the capital, is a charming city with its beauty and rich history, characterized by parks like Jing Shan Park in the center of the Chinese capital Beijing, where entry was free for anyone over sixty years old. The park was an amazing and very beautiful place. The park is very large, about 57 acres, with many entrances and multiple hills, each with a beautiful Chinese building in the old style. Beihai Park in Beijing is an extraordinary place. It is known as the North Sea Park and is one of the oldest, largest, and best-preserved ancient imperial gardens in China, with more than 1000 years of perfect integration between magnificent imperial palaces and religious temples. In addition to the Great Wall of China, the Summer Palace of the Emperor, the Forbidden City, Tiananmen Square, the Temple of Heaven, the Olympic City, the Three Lakes, and others. In Shanghai, the largest city by population, modernity blends with antiquity, characterized by its distinctive modernity, beautiful river, picturesque banks, bustling East Tower, People’s Square, Nanjing Road, and others. Nearby is Suzhou, which is similar to the Italian city of Venice, hence called the Venice of the East. There is also a park near my university residence (Zuibaichi Park), which is very wonderful and stunning. At that time, I wrote, “I do not exaggerate if I say that China is a piece of paradise. I have been in China for over a month now and have never felt bored for a single day.” Every day, I had an event and a beautiful story about this country and its kind people.
Students and University Life:
Beijing Foreign Studies University was ranked first in China for foreign languages. I was invited to give three lectures, each lasting two hours, on the following topics: Names and Designations in the Arab World, Who Are the Arabs and Their Modern History, and the Arab-Israeli Conflict. These were my best lectures. I was amazed by the quality of the students’ questions and discussions. Among the questions from students were about Stalin and the concept of nationalism and nation, the relationship between communists and nationalists during the Nasser era, and populism since the Abbasid era, among others.
I stayed for a whole month at Shanghai International Studies University in the Arabic Language Department, where I delivered 11 diverse lectures to master’s students on Arabs, their origins, Arab culture, Islam, Islamic extremism, Arabs’ contributions to human civilization, ISIS, minorities in Iraq, popular Arab proverbs, Arab diaspora in the world, Arab cultural values, social changes in the Arab region, the Arab-Israeli conflict, and Iraqi culture. I also gave three other lectures at Beijing International Studies University.
The design of the Arabic Language Department in two of the three universities resembled a dome similar to a mosque’s dome. In Shanghai, the Russian Studies building resembles an Orthodox church, and the English Language Department building resembles a traditional English building, as well as for Japanese and others. There are dozens of colleges that teach Arabic language and culture, and every country that has relations with China has its language studied in China.
Students in China are very serious and hardworking. However, they do not usually participate in discussions or speaking in class; instead, they usually remain silent, listen, and take notes unless forced to speak. This seems to be the traditional Chinese way, but they excel in exams and when encouraged to participate. Almost all students in the university live in dormitories or university apartments, even if they are from the same city. Dedication and seriousness are evident among Chinese students. The university environment is characterized by the facilities available to students.
Moreover, if you are a visiting foreign professor, you will experience care, respect, and appreciation and feel like a special person. Wherever you go, there is respect, gratitude, and appreciation. In every university I visited, there was a student, usually in the final years or at the master’s level, designated to receive me at the airport, accompany me to the hotel inside the university, and provide services if you need anything. What is distinctive in China is that almost all universities have large hotels for professors, foreign students, or visitors. Additionally, there are apartments in addition to the many dormitories for students.
When I went to some universities, what I saw was very distinctive: if you study any foreign language, you must study English alongside it because English, as we know, is the language of communication and connection between peoples.
Furthermore, what distinguishes Chinese universities is that in postgraduate studies, when you study Arabic or another foreign language, you specialize in something else. For example, you specialize in international relations or the Middle East, etc.
I also noticed that in every university I visited, there were Islamic restaurants. Those who frequented them were not only Muslim students but also many other students. The food is affordable, with many choices. Sometimes the price is based on weight.
Technology in Daily Life:
One thing that caught my attention is the use of technology in China compared to the United States. For example, when you leave home and are at university and want to exit the campus, you must use the app called “WeChat.” Entry to the university is restricted; only students, professors, and staff are allowed. Everyone enters using facial recognition technology.
You’ll notice food bags outside the university building from students’ orders through the phone app. Each student comes to collect their order outside the university entrance, and no one touches or steals them.
Everything is done through the phone. You can order food inside some university restaurants and pay your bill without talking to anyone. If you want to take a bike, for example, from the university gate to the metro station, you use the same app. When you arrive at the train station and want to enter, you use it. To buy a train ticket between cities, enter a museum, buy a water bottle or juice, or do anything else, even street vendors use the same app for scanning to pay for what you buy.
You see robots in the university restaurant in Beijing and in the hotel, I stayed at in the capital, and you see them in the streets of Shanghai University providing services.
The People’s Culture:
The Chinese are extremely polite; you don’t hear anyone’s voice. They are also respectful. What also distinguishes China is that there’s no sensitivity from foreigners; instead, they are respected and often asked to take pictures with them. It’s common for Chinese citizens, especially from Chinese provinces, to stop you for pictures because you look different from them.
Elderly Care, Children, and Public Services:
In continuing the Chinese culture and ethics, most children are taken care of by grandparents when parents are usually at work. It’s their duty to take the children to school and care for them until the parents return. Thus, Chinese customs, traditions, and ethics are passed from generation to generation.
Public transportation in China is very available, efficient, and affordable. This is also true when visiting historical buildings, large parks, and amusement parks. What impressed me most is that there are health facilities (bathrooms) everywhere you go, with signs indicating how far these health facilities are from you. They are clean, with workers constantly serving them. In one year, they built two million health facilities in the country. There’s a sign in health facilities that says, “This is a small step forward, a big leap towards civilization.”
Trains are available between cities. The fast ones are called bullet trains because of their speed. Adults over 60 years old can often ride for free, especially in historical buildings, public parks, imperial palaces, or religious temples.
Women retire at 55 years old, and men at 60 years old, and retirement income is usually close to regular income.
When you sit in a restaurant, warm water is brought to you because it’s healthier and matches the internal body temperature. There may be some flowers in the water for flavor or appearance, unlike American restaurants where cold water with ice is served.
There are beautiful and important streets, similar to upscale streets in New York or Los Angeles. For example, Nanjing Road in Shanghai and Wangfujing Street in the capital Beijing.
What’s striking is that you don’t see loiterers, beggars, or people under the influence of drugs, as you might in the United States. Everyone is working and serious; when you’re on the tram or train, everyone is reading, and everyone’s eyes are on their phones. If you need any help, they offer it, and sometimes they want to pay for you.
The Joyful Chinese People and Their System:
In public parks, along the coasts, and on public streets, what is joyful and exciting is that I saw several groups of people, mostly retirees, in musical bands singing opera, other songs, or performing various dances representing Chinese ethnic groups or modern dances. In a large park, an elderly woman and a middle-aged woman caught my attention as they stood aside and continued singing while being very joyful. Are there any other people like this? I don’t think so based on my visits to more than 70 countries around the world. The more I interact with these people, the more it attracts me to them to the point that I consider living among them for a long time.
China believes in the socialist system with Chinese characteristics, and the Chinese Communist Party has a leading role in managing the economy and controlling key aspects. It directs the economy in the public, private, and mixed sectors, working to implement short-term and long-term plans through centralized planning and adjusting plans to serve Chinese economic and social development. Regarding China’s relations with foreign countries and its methods of dealing with them, China does not impose conditions or restrictions like the United States and Western countries. China also does not attempt to interfere in the affairs of other countries. The most important thing for them is building trade relations and mutual respect; they do not care about the nature of the system they deal with. What matters is that there is mutual trade and mutual benefit.
Conclusion:
China is a wonderful, distinctive, and different country by all standards. The culture is great, and the Chinese people are hardworking, diligent, organized, obedient, and polite. There are many things that distinguish China from other countries in the world, including the United States, where everyone works or excels in their work. There are no signs of decay or cases of drug use in the streets, no begging or homelessness, or inappropriate behavior in public. Students are always studying and working hard, and everyone is busy with their work and dedicated, so I expect that due to the struggle and nature of this people, China will take the first place economically in the world in a relatively short period of time.
Dr. Shak Bernard Hanish
#China
تعرفتُ على الأستاذ فخري كريم في صيف عام 1962 في الموقف العام في باب المعظم. وهذا لا يعني اننا كنا أصدقاء، إنما كنا موقوفين على نفس القضية والتي سُميت في وقتها قضية “التجارب النووية”. حينها قرر مجلس أنصار السلام في العراق ان يؤيد الحركة العالمية التي كان يقودها الفيلسوف البريطاني “برتنارد روسل” رئيس مجلس السلم العالمي، للاحتجاج على التجارب النووية بشكل عام والتي تقوم بها امريكا في صحراء نيفادا الأمريكية آن ذاك بشكل خاص. وكان لحملة برتنارد روسل هدفين اساسين هما وقف سباق التسلح النووي من خلال ايقاف التجارب النووية التي يقوم بها الشرق والغرب وما يسببه ذلك من تلوث بيئي مُستديم، وكذلك منع خطر نشوب حرب نووية بين الاتحاد السوفيتي والغرب بقيادة الولايات المتحدة، خاصة بعدما شاهد العالم أهوال وبشاعة ما حدث في هيروشيما وناكا زاكي. كانت الاحتجاجات تجري بمنتهى السهولة والحرية في عموم اوروبا الغربية وكندا واميركا، إلا ان الشباب العراقي الذي قرر المشاركة بهذه الحملة دفع ثمنها غالياً.
وكان القرار ان تُشكل وفود تمثل جميع شرائح الشعب العراقي للذهاب للسفارة الأمريكية في بغداد في يوم الجمعة المصادف الثاني والعشرين من حزيران عام 1962، وتقديم عريضة احتجاج مكتوبة. وتهيأت مجموعة تمثل المهندسين ومنهم حامد منيب البستاني واخرى تمثل التجار ومنهم علي كرمنجي واخرى للعمال ومن بينهم النقابي مهدي حبيب واخرى للأدباء والصحفيين، وكان من بينهم الشاعر محمود عبد الريفي والصحفي مجيد الراضي وفخري كريم (صاحب مؤسسة المدى حالياً). وكانت مجموعة الطلاب برئاسة كريم الحجية وعضوية حكمت الدقاق وكاتب هذه السطور وحوالي ستة آخرين. وتجمعنا في باب المعظم قرب كلية الهندسة ودار الطلاب. وكل مجموعة ما عليها الا ان تؤجر سيارة او باص لتسليم عريضة الاحتجاج للسفارة، والرحيل بنفس الواسطة المؤجرة. ولم يكن هناك اي نية في التظاهر او الشغب او الاعتداء او اي شكل من اشكال العنف.
وصلنا الى السفارة حيث كان كل شيء هادئ وعادي. ترجلنا وبيدنا عريضة الاحتجاج كي نسلمها بشكل سلمي وحضاري الى السفير او من يمثله. وحال وصولنا بوابة السفارة وإذا بنا نفاجئ بمجموعة كبيرة من رجال الأمن العراقي بملابسهم المدنية في داخل السفارة، وهذا يعني انهم كانوا يعلمون بمجيئنا. فأما ان السفارة كانت تعلم ونسقت مع الأمن او ان الأمن لديه خبر ونسق مع السفارة. وبدئوا بالصياح والضرب بالأيادي والهراوات، وإذا بسيارات البوكس الخضراء تأتي جاهزة لاعتقالنا ونقلنا الى احدى دوائر الأمن. ونزلنا من سيارات البوكس حيث كان رجال الأمن بإنتظارنا مصطفين على جانبي الممر المؤدي للنظارة وغرف التحقيق على شكل استعداد للتشريفات. وعلى كل واحد منا ان يمشي بينهم للوصول للجانب الآخر للحجز. كان من بين الأشخاص الذين امامي كريم الحجية الذي رفض ان يطأطئ راسه فانهالوا عليه بالضرب المبرح. اما انا فكنت في عمر الرابعة عشر او الخامسة عشر ولم احلق ذقني بعد. يبدوا انهم أدركوا ذلك ولم يعتدي عليّ أحد.
بعد ذلك وزعونا على عدة مواقف لكثرة عددنا. فرحلونا انا وحوالي خمسة عشر شخصاً الى مركز شرطة المنصور قرب ساحة سباق الخيل. وكان في هذا المركز ردهتين للموقوفين، الأولى كبيرة وذات باب من حديد مشبك اي مفتوح على الخارج للرؤيا وللتهوية. والثانية في تقديري مُعدة كموقف او زنزانة لشخص او شخصين فقط، مساحته حوالي 6 أمتار في اربعة أمتار، بابه حديد صلب لا منفذ فيها سوى شباك اعلى الباب حجمه بقدر كف اليد. وعلى الأغلب فإنه مصمم ليكون سجن انفرادي لأعتى المجرمين. المهم اختاروا لنا السجن الانفرادي ووضعونا جميعا فيه، وكان عددنا حوالي اربعة او خمسة عشر شخصاً.
وبعد عشرة ايام عجاف، وفي اليوم الأول من تموز عام 1962 تم نقلنا الى الموقف العام في باب المعظم. وهناك التحقت مجدداً بزميلي وصديقي حكمت وكريم الحجية رئيس الوفد الطلابي وعلي الكرمنجي صديق خالي حجي كريم من سوق الشورجة. كان انتقالنا الى الموقف العام كمن ذهب من النار الى الجنة. حيث ان لكل شخص مكان ويطغ (فراش) ومراوح سقفيه وماء ودورات مياه خارج غرفة الموقف نستخدمها متى نشاء وكان لنا حمام للغسل ومطبخ للسجناء ومقره في القلعة الخامسة. كان معظم المسجونين في القلعة الخامسة والسادسة هم من الشيوعيين واليساريين واكراد من حزب البارتي المتهمين بأحداث الموصل وكركوك. وهناك التقيت بحمزة السلمان المحامي من منطقة الزوية الكرادة الشرقية والمتهم بالمشاركة في احداث الموصل والذي ظل موقوفاً مع رفاقه، لحين ردة 8 شباط 1963 حيث تم تصفيته مع المئات ممن كانوا معه وكان في مركز القيادة في الموقف بحكم مرتبته السياسية. والتقيت بصادق جعفر الفلاحي القائد العمالي النقابي المخضرم الذي كان يقدم محاضرات سياسية ثقافية والموسيقار احمد الخليل الذي لحن وغنى أفضل الأغاني للزعيم والثورة مثل اغنية هربجي كُرد وعرب رمز النضال واغنية موطني (ليس نشيد موطني) والمهندس المثقف حامد منيب البستاني وهو عم زميلي وصديقي علي طاهر منيب البستاني وصفاء الجصاني (ابن اخت الشاعر الجواهري) ولطيف الحاج (اخ عزيز الحاج)، وكليبان العبلي رئيس نقابة الميكانيك الذي كان مرحاً دائماً ومهدي حبيب العامل المثقف والناشط في نقابة عمال الخياطة، والعديد من خيرة الأدباء والشعراء والمناضلين الذين كانوا يسترجعون ذكريات السجون في سجن الحلة والكوت وبعقوبة ونكرة السلمان ايام العهد الملكي، وكأن التاريخ يعيد نفسه. ومن الغريب جداً ان كل الموقوفين كانوا من اشد المؤيدين للزعيم عبد الكريم قاسم وثورة تموز.
يتكون الموقف العام عدا السجن المركزي، من ستة قلاع، وكنا نحن في القلعة السادسة التي تتكون من ثلاثة قواوويش (قاعات كبيرة) وحمام كبير ومطبخ وحوش واسع نفرش به منادرنا في الليل. كان زميلي حكمت في القاعة الأولى وكنت في القاعة الثالثة، وكنا نتزاور كثيراً. كنت الاحظ شاباً رشيقاً وسيماً ذو عيون خضر يقف في باب القاعة الأولى، يراقب ويتابع كأنه مدير مدرسة اثناء الفرصة بين الدروس، إلا انه لا يتكلم ويبدو عليه انه غارق في التفكير او ان تفكيره شارد في مكان آخر، وربما كان مثلي يفكر ويتساءل! لماذا نحن هنا؟ وهل هذه القضية التي اعتقلنا بسببها هي قضية تستحق هذا العناء، ولماذا تعتقل السلطة مؤيديها؟ وكيف يمكن ان تكون مُعتقلاً ولا زلت مُناصراً لمن اعتقلك؟ أسئلةً لازالت الإجابة عليها تحمل اوجه متباينة، إلا انها جميعاً غير مقنعة.
وفي حديث لي في حينها مع زميلي وصديق العمر حكمت، أخبرني ان فخري كريم حبيب زنكنة صحفي يعمل في صحيفة “اتحاد الشعب” (التي كانت مُغلقة في حينها) ومن القياديين، وأخبرني من انه كان يرعاه ونوعاً ما يحميه لأنه كان في عمر السادسة عشر فقط. وفي أحد الأيام انقطع الماء في الموقف، وإذا بفخري كريم يبادر بالسيطرة على خزين الماء الوحيد وهو “الحِب” (الكوز) وتقنين الشرب منه بالأستكان (أقداح الشاي) فقط، كي يتم استهلاكه دون إسراف من قبل الموقوفين وعددهم لا يقل عن مئة وخمسين موقوفاً في كل قلعة، لأن انقطاع المياه ربما يستمر لمدة طويلة او يكون مقصوداً. وبذلك اظهر الأستاذ فخري مبادرة قيادية تستحق التقدير.
لم ينتهي الموضوع هنا وانما السلطات البوليسية تنسى حقوق المواطنة ولا تنسى حقوقها في فرض الطاعة العمياء على مواطنيها. ففي اليوم الحادي والثلاثين من شهر تموز 1962 وبعد مرور اربعين يوماً على توقيفنا تقرر إطلاق سراحنا بكفالة واحيلت قضيتنا الى الحاكم العسكري العرفي الثاني شاكر مدحت سعود رئيس المحكمة العرفية الثانية والذي هو من اشد الحاقدين على الوطنيين والتقدميين. والسبب ان هذه القضية احيلت الى محكمة عرفية لأن العراق كان ما يزال تحت سلطة الأحكام العرفية منذ 14 تموز 1958 على الرغم من مرور أكثر من أربع سنوات على الثورة، وحُكم على المشاركين في تلك الفعالية بالسجن أحد عشر شهراً مع وقف التنفيذ في عهد عبد السلام عارف.
يأتي اسم فخري كريم ومؤسسة المدى في الأعلام بين الآونة والأخرى، ودائماً استرجع بها مشهد ذلك الشاب الوسيم الواقف بباب القاووش، الشارد ذهنياً ام الغارق في التفكير ام الحامل لهموم شعب وآلامه وآماله! فخري كريم مناضل ظل اميناً لتوجهاته، قدم أفضل نموذج للقطاع الخاص الناجح تجارياً والهادف ثقافياً، بجهده الخاص وظل مُلتزماً لأفكار اعتنقها حينما كان شاباً ووفياً لرفاق دربه الذين تفاعلوا معه طيلة السبعين عاماً من مسيرته. إنسان مثله يبقى شامخاً لا تهزه معتقلات الفاشست ولا رصاصات غدر جبانة من ظلاميين لا يريدون لنور الثقافة ان يبسط شعاعه على ربوع الوطن.
محمد حسين النجفي
رئيس تحرير موقع أفكار حُرة
29 شباط 2024
#محمد_حسين_النجفي
“A brave guard noticed a beautiful lady hiding behind dark sunglasses,
began cutting roses from the university garden”
During the 1970s, the faculty of the Business Administration Department for Al-Mustansiriya University worked as a beehive. We were involved in organizing many activities and programs including the Curriculum update, Book Library development, establishing training center for the commercial public sector employees, and administering final and semifinal Exams.
Curriculum meeting 1977, Al-Mustansiriya University
The Department Secretaries, in particular Ms. Hasmik Dertavityan* helped us a lot in typing, printing, and circulating the minutes of the sessions and printing proposals for developing curricula and correspondence with the Deanship and the University Presidency. I was particularly in constant contact with Ms. Hasmik, in the majority of these activities to complete the required paperwork. Instead of such hard-working employees getting a promotion and letters of appreciation and recognition, most of the time the opposite would happen.
Hasmik in her office
On a glorious day of administrative efficiency in fighting corruption and preventing theft from public properties, the capacities and capabilities of the university security guards grew with unusual focus and determination to protect the university landscape, from mysterious thefts that were taking place every day in front of people eyes, without fear or shame! Yes, the university guards were on a mission to discover why there was a continuous shortage of roses from the university garden. It seemed that six stems of roses went missing every week. All the guards went on full alert to counter this clear and present danger.
Luckily, on one bright spring morning, a brave guard noticed a beautiful lady hiding behind dark sunglasses, holding scissors, sharpened on both sides, who then began cutting roses from the university garden. The very smart guard followed her from a distance, so that she would not notice that he was following her. Finally, she reached her office, and the guard discovered her top-secret operations hideout!
Cutting the Roses as documented by the guard
This guard, who is very keen to safeguard public property, report to the chief of the guards and told him about the incident. The incident of cutting and stealing university flowers, and transferring them from the university garden to two glass vases, one on the desk of the secretary Ms. Hasmik and the other to decorate the office of the head of the Business Administration department. The Chief of the Guards and the Guardian of the Flowers of the Iraqi nation submitted a detailed report entitled:
RE: The Roses Cutter
The memo was a very convincing legal and administrative counting of what the security guard observed, leaving no room for doubt with the Presidency of Al-Mustansiriya University, who in turn saw it as necessary and wise to approach the Dean of the College of Administration and Economics, who in turn did not find any convincing reason to argue with the memo, so he blessed it and sent it to the head of the Business Administration department, accompanied by a customary stamp: “To review and to take suitable action, please.”
The head of the department at that time was arrogant and brave in his own way and not a stereotypical bureaucrat person in dealing with these matters. So he asked the delegated secretary Ms. Hasmik to stop picking the fruits from the orchard of “The Sultan Garden”. But he did not take any administrative action against her, contradicting the recommendations of the rulers of the time. After that, the lady’s name was changed and everyone started calling her by her new nickname, “The Roses Cutter” instead of Hasmik. The memo became a joke, and was exposed to ridicule and resentment at the same time. Hasmik revolted and gave no attention to that silly memo, and continued to exercise her Roses cutting once a week out of spiritual love and passion for flowers. This incident among others, brought Hasmik and I closer and closer together, to reach a point of no return, and to be my beloved companion and wife.
*Hasmik is an Armenian name means: Jasmine (Flower).
Mohammad Hussain Alnajafi
January 1st, 2024
www.afkarhurah.com
كما نُشرت في الحوار المتمدن العدد 7841 بتاريخ 30/12 2023
كما نُشرت في كتاب “مرافئ النص وضفاف النقد” للدكتورة الأديبة أناهيد الركابي، ص:26-33 عن مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع،
قراءة في منجز الدكتور مُحمد عبد الرضا شياع النقدي والفكري
كلنا بشر مهما كان ديننا او لوننا او عرقنا او ثقافتنا. كلنا بشر سواء كنا أطباء او مهندسين أو عمال في مصانع الحديد. لكن كلمة إنسان وإنسانية تتطلب قيمة إضافية كي يتحول البشر الى إنسان بمعنى الكلمة. اما الثقافة فهي من حيث الأساس معلومات، تتحول الى ثقافة حينما يضاف لها قيمة إنسانية حضارية. وانا سعيد الحظ لأنني تعرفتُ وإن كان في خريف حياتي على ذلك النوع من البشر: إنسان يمتلك معلومات ثقافية يوظفها في خدمة الإنسانية، وبالتالي فهو الانسان المثقف الأمثل.
ولست مُبالغاً فيما أقول قولي هذا، وليس من باب الصداقة، وليس تحزباً او مناصرةً طائفية او عنصرية او مناطقية، لأنها جميعاً غير متوفرة هنا. ولكن الذي اوصلني لهذا التقدير هو تجربتي القصيرة، بل القصيرة جداً في عمر الزمن. فلقد تعرفتُ على الدكتور محمد عبد الرضا شياع، وهكذا يُفضل ان يُنادى باسمه الكامل على ما اعتقد، تعرفت عليه يوم 6 أيلول من عام 2020، الموافق 18 من شهر محرم الحرام عام 1442 هجري، حينما قدمتُ بحثي الموسوم ” الدور السياسي والوطني للمواكب الحسينية” على منصة “الصالون العراقي- لوس انجلس”. كان الدكتور محمد عبد الرضا شياع أول المعقبين، وقدم مداخلته ولم يكن لي معرفة مسبقة به. وكما هو متوقع في معظم المنصات الحوارية، يجتهد بعض المحاورين بالبحث عن النقاط السلبية او يطرحون أسئلة لأحراج المتحدث. على العكس من ذلك كان الدكتور شياع، لم يكن تقييمه للبحث إيجابا فقط، وانما ابدى اعجاباً بحماس، داعياً منصة الصالون العراقي لنشر هذا البحث على أوسع نطاق، لأنه بحث يُسلط الأضواء على الدور الإيجابي للمواكب الحسينية. بطبيعة الحال تقييمه أبهرني وأسعدني وشجعني، لأن البحث لم يكن سرداً لما هو مألوف عن واقعة الطف ومراسيم احياء ذكراها، خاصة ان البحث مُقدم من قبلِ شخص علماني يساري.
بعد ذلك بحوالي أربعون يوماً قدّم الدكتور محمد عبد الرضا شياع، وعلى منصة الصالون العراقي، بحثه الموسوم “تداخل الأنواع الإبداعية وتشكيل النص: بابلو رويث بيكاسو وعبد الوهاب البياتي أنموذجاً”. وكنت أحد المشاركين في اللقاء. بدأ الدكتور بالحديث بلغته العربية الفصحى، والتي كانت فوق المستوى اللغوي لمعظم الحاضرين وأنا واحداً منهم. كلماته ليست من مفرداتنا اليومية، بل حتى ليست مفردات عربية مألوفة في الأدب القصصي العام او أي مؤلف باللغة العربية. كانت لغته أقرب الى اللغة الشعرية للعصر الجاهلي او مفردات لا يستعملها سوى كبار الأدباء أمثال المتنبي والجواهري.
أحس الجميع من ان المتحدث فوق مستوانا ليس بقليل، وانما بفارق شاسع. لم يتجرأ أحد ان يكتب تعقيباً في الدردشةِ او يرفع يده لطلب المداخلة. امر غير مُعتاد ومخجل وربما سوف لن يحاور أحد ضيف البرنامج. قبل انتهاء الدكتور من محاضرته، وصلتني رسالة على الخاص من أحد مديري الصالون طالباً النجدة، من انه: “اترجاك أبو عامر حضر سؤال او سؤالين، وإلا سوف نشعر بالخجل مع الدكتور”. حقيقة الأمر ان الدكتور في الجزء الأول من بحثه عرض صور لبيكاسو وفي الجزء الثاني قرأ نماذج شعرية وأحداثاً ومفارقات استأنس لها الحضور.
لحسن الحظ أني مُطلع على بعض من شعر عبد الوهاب البياتي خاصة ترجمته لشعر الشاعر التركي ناظم حكمت، وبعض أعمال بيكاسو خاصة الرسوم التكعيبية منها. لم افتعل الحوار لأني فعلاً وجدتها فرصة لا غنى عنها كي استفاد من معلومات ثقافية، هي ليست معلومات مجردة، لأن المحاضر يُحللها ويقارنها ويقيمها ويمنحها قيمة ثقافية في الميزان العام للثقافة. بدأت كلامي من أن هذه المحاضرة قد حققت طفرة ثقافية في مستوى المحاضرات والبحوث التي تُقدم في الصالون العراقي، ورجوته ان يزيدنا مستقبلاً منها. كنت صادقاً في ذلك لأنني شعرت من إضافة المحاضرة لي معلومات جديدة، وتعرفت على مصطلحات لم تكن لها سابقة في قراءاتي. طرحت عليه أربعة تساؤلات، أجاب عليها بكل سلاسة ووضوح وكان متفقاً مع معظم تساؤلاتي بدلاً من ان يكون مناهضاً لها، وهذا ما شجع الآخرون للمشاركة في العديد من المداخلات.
كان لهذين الحدثين وقعاً مؤثراً في نمو العلاقة الثقافية بيننا، والتي تحولت الى علاقة صداقة شخصية وعائلية أعتز وأفتخر بها. دعاني أبا إيناس لزيارته في سانت دياغو وكانت دعوة كريمة التقينا فيها العائلتين مع الأستاذ عقيل العبود وعائلته ومجموعة أخرى من العوائل الكريمة. كانت نزهة على الشاطئ الذهبي لجنوب كاليفورنيا، تمتعنا بالسمك المسكوف الذي أشرفت عليه إيناس البنت البكر للدكتور. كذلك تعرفنا على ابنائه مهند ومرتضى وابنته الصغرى فاطمة. عائلة يصعب وصفها، الأبناء والبنات يدورون حول أبيهم ويحضنون الضيوف بقلوب صادقة وبنية صافية تتحسسها من أول لحظة.
ثم جاءت المفاجئة الكبرى حينما أعلن الدكتور شياع المباشرة بمنصة “مجموعة زينب كحل الفردوس الثقافية”. اعتقد انني كنت من الأوائل الذين اطلعوا على هذا الأمر، وتمنيتُ مخلصاً النجاح لهذه المنصة الثقافية والتي كنت متأكداً من انها ستكون مصدر إشعاع ثقافي وعلمي نحن بأمس الحاجة اليه. وهذا ليس كل ما في الموضوع. إذ يبرز دور الدكتور شياع كونه مُخلصاً ووفياً لزوجته التي رحلت ليس بالأمد البعيد، حين سمى المنصة بإسمها وبإسم مشروع كتاب كان يعمل معها لإنجازه. إلا انها رحلت بأمان الله، فشيد لها زوجها الوفي حسنةً جاريةً تستمر مادام هناك أثير في الكون.
والدكتور محمد عبد الرضا شياع لا يشبه معظم المثقفين والأدباء والشعراء الذين إنفردوا او إنعكفوا على ذواتهم ولحالهم في صومعة مغلقة على أنفسهم. كلا فإنه من اليوم الأول قدم مشروع زينب كحل الفردوس على إنه مشروع عائلي يُساهم فيه أبنائه الأربعة إيناس ومهند ومرتضى وفاطمة، كل واحد منهم له دوره في البحث والأعداد والتنسيق وتقنية الزوم ومصاعب العالم الرقمي في النشر والتوزيع. يا لها من عائلة مباركة متعاضدة مُتآزرة لإنجاح مشروع ثقافي حيوي. ومع ذلك يبقى الفضل الأكبر لربان السفينة التي آمن من ان مرساها ومجراها لا يعتمد فقط على الربان، وانما كذلك على سواعد وهمة الكادر المرافق له.
ولم يكتفِ هذا المثقف الأنسان بذلك، حيث ان مشروعه لم يكن ندوة محاضرة وسؤال وجواب، انما جاءنا بمفهوم جديد، ففي كل جلسة تحتفل المجموعة بالمُحاضر، تبرز أعماله ونشاطاته وإنجازاته الأدبية والفكرية. حيث يقدم الدكتور شياع دراسة موثقة عن المُحاضر تتضمن معلومات واسعة ومنظمة عما قدمه المُحاضر من استحقاقات إسهامات تحسب له في مجال المعرفة والثقافة. وهذا جُهد مُضنٍ ومتعب إلا انه مُجدٍ يقدمه الدكتور لنا، لا عن نفسه وانجازاته التي ليست بالقليلة، إنما عن الآخرين الذين يستحقون التقدير والذين تقديمهم من على منصة مجموعة زينب كحل الفردوس فيه مساهمة وخدمة للمثقفين والثقافة عموماً. وأنا لا أنكر بهذا الصدد كم استفدتُ من هذه اللقاءات وكم تعرفت على اشخاص ومفاهيم لا يخلو قسم منها من الغرابة والاندهاش في بعض الأحيان بالنسبة لي على اقل تقدير.
والمفهوم الآخر الذي اجتهد في تنميته الدكتور شياع هو عدم اقتصار المشاركين على النخبة الثقافية العراقية في المهجر. إذ انه ربط ربطاً جدلياً بين النخبة داخل الوطن والعراقيين في المهجر، هذا من جهة ومن الجهة الأخرى فتح وباعتزاز واضح باب منصته على مصراعيها للنخب الثقافية ليس في المشرق العربي متمثلاً بمصر وسوريا والأردن وفلسطين فقط، وإنما في المغرب العربي لمفكرين من تونس ومصر والمغرب والجزائر. أليس هذا ما يسمى بالوحدة العربية!!! نعم إنه تطبيق حي للمفهوم الوحدوي العربي عن طريق الثقافة ولَم الشمل إنسانياً وليس قسرياً كما تُفرض من قبل السياسيين.
وللدكتور محمد عبد الرضا شياع فضل عليّ شخصياً، أولها انه وعائلته منحوني وزوجتي صداقة لا مثيل لها، وكأننا نعرف بعضنا من عشرات السنين. صداقة يصعب تقييمها، وانما أستطيع القول من انها صداقة لا أستطيع الاستغناء عنها. وثانيهما انه شجعني بحرارة على استكمال ونشر كتاباتي، حيث ساعدني في تقديم الكتابين “المناضل الصغير” و “شموع لا تُطفئها الرياح”، وفي تصميم الغلافين، وكثير من الإرشادات التي لا يراها إلا ناقداً متمرساً وصديقاً مهتماً بإنجاز لصديق له. وثالثها انه مكنني ولا زال، من ان أثقف نفسي أكثر واتعرف على نخبة أدبية ومفكرين مبدعين من خلال منصته ذات الاعتبار، منصة “مجموعة زينب كحل الفردوس الثقافية” التي أرى انها تسير بإتجاه ان تكون أكاديمية ثقافية عُليا عبر الأثير بجميع اشكال وانماط وسائل التواصل الاجتماعي. كما انني أتمنى ان تجد هذه المحاضرات طريقها للنشر على شكل مطبوعات لتكون مصدراً مهماً للباحثين وطلاب الدراسات العليا. الأستاذ الدكتور محمد عبد الرضا شياع إنساناً متميزاً وقامةً أدبيةً لأنه يمثل صورة المثقف الأنسان بأبهى صورها، لما يملكه من نكران للذات وحبه المتناهي للغير وليس للأنا. إنه منار وقدوة لمن يريد المسير في هذا المشوار الثقافي الإنساني.
محمد حسين النجفي
4 آذار 2023
رئيس تحرير موقع أفكار حُرة
www.mhalnajafi.org
www.afkarhurah.com
كما نُشرت في صحيفة المثقف بتاريخ 6 كانون اول 2023
تربية المُسلسلات
كنا نقضي معظم أوقات طفولتنا في بيوتنا او نلعب في الحارة مع أبناء الجيران. كنا ننام مبكراً ونستيقظ مبكراً، الى ان دخل التلفاز الى بيوتنا وأصبح مهماً في حياتنا، وبدأنا نشاهد الأغاني والأفلام والمسلسلات العراقية والعربية والاجنبية. كانت القصص تدور حول البطل والبطلة والمجرم، وتنتهي بانتصار البطل، وكنا نسميه “الولد” لأنه مع الحق، ويخسر المجرم لان الشر يجب ان يخسر. كان هذا السيناريو مفهوم ومقبول ومحبوب اجتماعياً ومن قبل الإباء والابناء.
تطورت التكنولوجيا وتغير الزمان، ولم تعد قصص الماضي تشد القارئ او السامع او المُشاهد في القرن الواحد والعشرين. والإنتاج الفني صناعة تجارية لا بد من استمرارها وضمان ربحيتها، وهذا حق مشروع لا ننازع فيه أحد. ما يمكننا ان ننازع فيه هو ما الذي يقدمه هذا الفن الذي دخل بيوتنا ولا نقدر على منعه وعدم مشاهدته. نعم انه لهو وتسلية بالدرجة الأولى، انه ليس مُنتج إرشادي ديني او علمي أكاديمي، انه “بزنس” (تجارة)، نعم انه بزنس، ولكن ما تأثير هذا النوع من وسائل الترفيه علينا وعلى الشباب وعلى الكيان العائلي! هل يقدم لنا النموذج الأفضل من ان الجريمة لا تجدي، وان المجرم سيُقتل او يسجن!
لا أنكر من انني أحد المشاهدين للمسلسلات اللبنانية والسورية والمصرية والتركية المدبلجة. كذلك اشاهد الأفلام والمسلسلات الامريكية. لا تندهشوا إذا قلت من ان الأفلام والمسلسلات الغربية ذات قيمة معنوية واخلاقية أفضل وأرقى من المسلسلات العربية. الغرب أضاف الرعب والدماء والغموض والالفاظ البذيئة الى انتاجه الفني، إلا انه لم يفقد بوصلة النهاية، “الحكمة من الحكاية”.
تُقدم لنا المسلسلات الحديثة سيناريوهات تعيد نفسها، اخوة يتصارعون على نفس الفتاة، خيانة زوجية مع اخ الزوج او اخت الزوجة، الكل لديهم أبناء غير شرعيين يظهرون فجأة في منتصف المُسلسل، غنى فاحش، سلطة ونفوذ غير محدود، قصور فارهة لا يملك مثلها حتى الامراء والملوك.
كي يطلب اليد للخطبة يحجز المطعم برمته، مصحوباً بغابة من الورود وموسيقى تعزفها شابة انيقة، يختات في البحار، طائرات خاصة، اما الملابس فحدث ولا حرج، كلها ماركات مشهورة وغالية، لم تظهر الفتاة بنفس البدلة أكثر من مرة واحدة، احياناً نفس اليوم بدلتين او أكثر. بذخ مفتعل وسخيف ورخيص، ونفس السيناريو يعيد نفسه مرات ومرات ومرات، وتتحول قصة قصيرة الى خمسين او ستين حلقة او أكثر.
دعك من كل هذا لان ذلك ربما حشوٌ لتسويق عدد أكبر من الحلقات! المهم القيمة والحكمة والدرس والإرشاد الذي سيستفيد منه المشاهد الكريم في النهاية. سابقاً كان المجرم وحده الذي يرتكب الجريمة، اما في مسلسلاتنا العربية والتركية، فإن الجريمة حق مشروع للجميع! وكأنها جزء من العادات والتقاليد الموروثة.
أما الخيانة الزوجية، الجريمة النادرة المخلة بالعرض والشرف فإنها لم تعد حكراً على الرجل الذي كان يمارسها مع بنات الهوى، وانما أصبحت ضمن حقوق المساوات بين الرجل والمرأة، والخيانة أصبحت خطأ او زلة لابد من تفهمها وتقبلها وعدم تحطيم اسرة اُسُسَها مرصوصة بالمجوهرات والجاه والقصور والمال والبنون.
أما “البزنز”، فكلهم يتعاملون بمليارات الدولارات، وكلهم نكتشف لاحقاً، انهم يتاجرون في المخدرات والأسلحة والأدوية المغشوشة، وانهم متغلغلين في أجهزة الشرطة والقضاء، ولا أحد في الدولة لا يُشترى او يُباع. والعجيب كلهم خبراء في الكمبيوتر والنت والفوتوشوب والتزوير والمكائد.
يُعرض حالياً مُسلسل لبناني “كريستال” ومُسلسل تركي مُدبلج “فريد”، ومُسلسل مصري “أنا شهيرة_ أنا خائن”. دعني احدثكم عن الأخير أنا شهيرة، وشهيرة دكتوراه صيدلة، اعترف لها زوجها بندم انه خانها، لم تُضع وقتاً ابداً ذهبت في نفس اليوم وضاجعت زوج صديقتها المقربة اليها، وهي بذلك سددت الدين وانتقمت من زوجها بهتك عرضها وعرضه. مُسلسل فريد يتزوج من فتاة جميلة زواج عائلي علماً ان لديه حبيبة وهي لديها صديق، لا ينامون على فراش واحد وحوار لا نهاية له بينها لم ينتهي بالموسم الأول وانما مُستمر الى الموسم الثاني. أما مُسلسل كرستال الرائع! مبنيٌ على صراع بين فتاتين بنت العائلة الغنية مصممة الأزياء المشهورة مع بنت السائق التي تخدم في البيت، نافستها في مهنة التصميم وعلى الدكتور الذي يُحبها. مسلسل طويل عريض مليء بالخيانات والسرقات والمكائد والصراخ وأجمل عرض للأزياء، حتى الخادمات يلبسن ماركات مشهورة.
نتيجة هذه المسلسلات ان “كلوا محصل بعضوا” ليس مُهماً ان تكون طيباً او حريصاً او شريفاً، المهم ان تعيش برفاهية وتملك قصور وسيارات وطيارات وووو. وإذا كان هذا يتطلب ان نغش بمنتوجاتنا فبها، او نتاجر بالمخدرات والأسلحة ماكو مشكلة إذا لم نوفرها نحن سيوفرها غيرنا ويكسب مكسباً نحن أحق به.
هل فكر المجتمع، ما هو تأثير هذه المسلسلات التافهة على الشباب وعلى الروابط العائلية. أنا شخصياً لا أؤمن بالرقابة الحكومية الصارمة، التي مهمتها كتم الأصوات، وحذف الانتقادات الموجهة للحكام، ومنع مشاهد الخلاعة، وحذف الكلمات البذيئة، وغير ذلك. ولكن هناك رقابة تربوية واجتماعية، وتوجيهية لمجمع أفضل مفقودة من المعادلة. لا أتوقع ولا أشجع تلقين مجتمعنا ما هو صح وما هو خطأ، لكن ذلك لا يعني ان اخضعهم لغسيل دماغ مستمر صورة وصوت وتشويق، كل دلالاتها تشير ان لا تكون غبياً في هذه الدنيا، لأنها لا تؤخذ إلا غلاباً.
لا أدرى هل لاحظ اساتذتنا في علم النفس والاجتماع هذه الظاهرة، هل بحثوا مدى تأثيرها على العلاقات الاجتماعية، هل هناك بحوث اكاديمية على مستوى الماجستير والدكتوراه، هل درسوا ما تأثير ان تكون الخيانة الزوجية مجرد خطأ، يُحل بالاعتذار، وما هو تأثير ذلك على خريجوا الجامعات الذين لم يحصلوا على وظائف، ويشاهدون في المُسلسلات كيف ان المجرمين يعيشون حياة بذخ دون حساب او كتاب. أسئلة كثيرة نطرحها امام المختصين بالسلوك الإنساني كي يُبدوا رأيهم، لأننا امام كارثة سلوكية حالية ومستقبلية من أجيال متأثرة بما تتعلمه من المُسلسلات التافهة التي احكمت سيطرتها على الإنتاج الفني الأكثر رواجاً. المُسلسلات أضحت المؤثر الأقوى على تربية الأجيال الحالية والقادمة.
وكما نُشلرت في صحيفة المدى العدد 5626 بتاريخ 5/3/2024
صحيفة المدى
محمد حسين النجفي
رئيس تحرير موقع أفكار حُرة
www.mhalnajafi.org
www.afkarhurah.com