الشوارب المفتولة

“ذكريات لندنية”

تعرض إبراهيم لحادث سير عنيف ادى الى تمزق في احشائه الأمامية الوسطى والسفلى. وقد اجريت له عدة عمليات في العراق قبل القدوم الى لندن. جاء معه والده ابو إبراهيم مصاحباً الذي كان مختار محلة في قضاء شيخان شمال الموصل، وهو انسان ذو صفات ومظهر قروي رغم قدومه الى لندن بملابس غربية (أفندي)، عمره في العقد الرابع او الخامس من العمر، حليق الذقن مع شوارب مفتولة نهايتها شامخةً نحو الأعلى، وكأنها شوارب الأغوات ايام زمان، دائم الابتسامة وفي منتهى الخجل والأدب والتواضع.

ابراهيم لا يغادر غرفته إلا نادراً ويفضل العزلة، إلا اننا كنا نسمع دندنته على القيثارة التي كان يقضي معظم اوقاته معها. طلب مني ابو ابراهيم ان اذهب معه لمقابلة طبيب ابراهيم لغرض الترجمة، وذلك لعدم حضور المترجم المخصص له. ذهبنا لمقابلة الطبيب الجراح وكان ابراهيم مرتبكاً بشكل واضح لم يستطع اخفائه، حتى طرح سؤال لا يفارق تفكيره وطلب مني ان اترجمه: دكتور، هل سيأتي اليوم الذي استرد به صحتي ويكتمل به كل جسمي كرجل؟ طرحت السؤال باللغة الإنكليزية على الجراح، ولم أستطع ان اداري عيوني من عيون ابو ابراهيم، الذي تقلصت ولمعت عيونه، ربما لأنه يعلم ما لا نعلمه. كانت اجابة الجراح بمنتهى الصراحة والبرود الإنكليزي المتعارف عليه: إن الأمل ضعيف جداً وانه يجب ان نكون واقعيين.  ركز أبو ابراهيم نظراته المتوسلة تجاهي وكأنه يطلب مني الرحمة والشفقة، وحتى من دون ان يطلب مني، لم أكن لأمتلك البرود الانكليزي كي اترجم ما قاله الجراح حرفياً دون تحوير. قلت لإبراهيم بما معناه: إن الجراح يرى ان امامنا طريق طويل للعلاج، وان هناك أمل رغم ان السؤال سابق لأوانه. تنفس أبو ابراهيم الصُعداء من جوابي وابتسم قليلاً، وبرم شاربيه نحو الأعلى، وانبهرت عيناه بلمعان دموع من الفرح هذه المرة.

لم يستطع أبو ابراهيم ان يشكرني بحضور ابنه، إلا انه في اليوم التالي تشكر مني كثيراً، وقال لي: يا ابو جاسم، انت انقذت حياة إبراهيم حينما ترجمت بطريقتك الذكية ما قاله الدكتور، غياب المترجم كان رحمةً من الله. كان ابو ابراهيم ممنوناً جداً مني، وأصبحنا نتحدث بين الحين والآخر.

كان مكتب تأجير الشقق المفروشة الذي يملكه خالي الحاج كريم ويديره اخي الحاج رعد،  يقدم خدمات عامة للنزلاء، معلومات عن المطاعم والتسوق وصرافة العملة. كان المكتب مثل خلية النحل في النهار بين القادم الجديد والراحل الى ارض الوطن، بين من يعود بعد الشفاء ومن يرجع مكسور الخاطر. وفي ظهيرة أحد الأيام كنا جالسين في المكتب، خالي واخي وانا وابو ابراهيم وآخرين، دخل علينا أحد النزلاء الجدد (وهو قائم مقام شيخان) من غرفته الى المكتب وبدأ حديثه بالسلام عليكم، وإذا به يتفاجأ بوجود ابو ابراهيم بيننا: مرحبة أبو إبراهيم، سلام خاص من القادم الجديد لأبو إبراهيم. وقف ابو إبراهيم غاضباً وكان جوابه: لا هلا ولا مرحبة، الله لا يرضى عليك ولا يوفقك. اجابه القائم مقام: دقيقة أبو ابراهيم خلي نتفاهم. نتفاهم عن ماذا! بعد ان فصلتني من شغلي، آني مختار شيخان، أباً عن جد، انت طلعتني وعينت واحد زعطوط (طفل) سويته مختار لأنه صار “بعثي”! أجابه أبو إبراهيم وترك المكتب مُسرعاً، دون إعطاءه فرصة للجواب. كانت مواجهة حادة ومفاجئة للجميع وموقف مُربك ومُحير، وذلك لما نعرفه عن ادب وخلق أبو إبراهيم، ولم يحاول القائم مقام الاختلاط بنا بعد تلك التعرية المهينة.

كان مكتب ادارة التأجير يتحول في المساء الى صالة تُعقد بها جلسات سمر لنزلاء المضيف، خاصة في مسائي الجمعة والسبت، حيث كنا نلعب الدومينو والطاولة واحياناً نحتسي بعضاً من البيرة. وفي إحدى تلك الأمسيات الممتعة طالت الجلسة قليلاً، وبين الدومينو والطاولة والبيرة وصوت ام كلثوم، انتعش الجميع. ترخص أبو إبراهيم وقال: يا جماعة تصبحون على خير، وحينما وقف، وقع الكرسي الذي كان جالساً عليه. ارتبك ابو ابراهيم من وقوع الكرسي، واعتذر شديداً دونما يكن هناك حاجة لذلك. مرت عدة ايام لم نرى فيها وجه أبو إبراهيم البشوش، ولم نستمع الى أحاديثه بعربيته ذات النغم الشيخاني الأزدي الكردستاني الجميل. قلقتُ عليه، فذهبت الى غرفته أتفقده، خرج أبو إبراهيم ووجهه يتسم بالخجل وكأن العار قد لحقه. “وينك يا أبو إبراهيم تمْ بالنا عليك”: قلت ذلك بصيغة العتاب، “والله يا أبو جاسم، آني هواية خجلان” قالها وهو محني الرأس. “على شنو أبو إبراهيم! ” قلتها متسائلاً ” هذاك اليوم آني سكرت وخربطت ووّكعت الكرسي”. اذهلني جوابه، واعجبني حيائه، وزاد احترامي له كثيراً، وتذكرت ما فعل به القائم مقام، وقلت له: والله يا أبو إبراهيم ما أنزل للمكتب إلا وأنت معي، وفعلا ارغمته على النزول وكسر حاجز الخجل من حادث بسيط جداً، لا يعير له انتباه اي منا. آه يا أبا إبراهيم لقد نجحت في اختبار المواجهات، فكنت شجاعاً، وحنوناً وخجولاً، كل في محله، ما أحلى طيبتك الفطرية، وشموخ كبريائك وعلو مقامك وخجلك الطفولي الجميل، وإن شواربك المفتولة تمثل الرجولة بكل معانيها. لا زلتُ أتذكرك واتذكر دندنة قيثارة إبراهيم، وإن مضى على هذه الذاكرة أكثر من أربعين عاماً.

#شيخان

 

المناضل الصغير: حكايات عشق نضالي

المناضل الصغير
 حكايات وعشق نضالي ما تزال منقوشة بالذاكرة

د. خير الله سعيد
كما نُشرت في صحيفة المثقف، 22 آب، 2023

ليس هناك أصدق من حالات الانفعال الطفولي، حيث أن تداعياتها تبقى حاضرة مهما اختلفت ظروف الإنسان في العمر والمكان، وهي كما قال الشاعر طرفة بن العبد: تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد. من ذكريات الطفولة هذه، يفاجئُنا الأستاذ محمد حسين النجفي بكتابه الممتع (المناضل الصغير) الصادر حديثا في بغداد، عن دار أهوار للنشر والتوزيع سنة 2023. والكتاب كما يقول المؤلف، من أدب السيرة التي تُحدّد ذكرياتها الأيام، عندما كان المناضل الصغير يضع أولى خطواته في مسارات السياسة المتعكّرة تاريخياً في أرض العراق. اضغط على الرابط ادناه لتكملة القراءة:

https://mhalnajafi.org/wp-content/uploads/المناضل-الصغير-حكاياتٌ-عشقٍ-نضالي-.-3.pdf

من أعتنى بحديقتنا

سؤال بسيط ربما لا يحتاج الى تفكير طويل: من كان يعتني بحديقة بيتنا؟ هل كان لدينا فلاح (جَنيني) يعتني بحديقتنا ام لا؟ الجواب نعم كان لدينا واسمه رضا. كان رضا شاب في عمر العشرين عاماً، حينما اتفقنا معه عام 1969، كي يعتني بحديقتنا التي مساحتها بحدود الخمسمائة متر مربع. حديقة جميلة يتوسطها ثيل  (عُشب) اخضر، محاطة بورود متنوعة وزاهية من كل الجوانب، وحوالي عشرين شجرة حمضيات من النارنج والبرتقال والليمون.

يسكن رضا مدينة الكاظمية وبيتنا في الكرادة الشرقية، حيث كنا على طرفي نقيض من مدينة بغداد، هو في اقصى شمالها ونحن في أدنى جنوبها. يضع عدته وادواته على دراجته الهوائية يدور بها البيوت من بيت لآخر، رغم شدة البرودة في الشتاء وحرارة الصيف التي لا تُحتمل. كان رضا يتصبب عرقاً وهو يعمل في حديقتنا في عز ظهيرة أيام الصيف، خاصة حينما يقص العشب بماكينته اليدوية.

لم يفُت ذلك على والدتي رحمة الله عليها. كانت تجهز له صينية غذاء كاملة، تمن (رز) ومرق ولبن ورقي (بطيخ) وجاي وماء مثلج وكلشي وكلاشي. بالنسبة لامي المسألة لم تكن مزاجية يوم عزيمة ويوم لا. كلا كانت مسألة مواظبة وكأنها مُلتزمة بعقد معه. ان ما كان يُقدم لرضا ليس من بقايا طعام اليوم السابق، او مجرد خبز وقليل من الأكل. كلا كان يعامل كضيف، لا بل ربما ضيف شرف.

ومرت الأيام وتوفيت والدتي شتاء عام 1973، وهي في مقتبل عمرها حيث انها لم تتجاوز الأربعين عاماً. لم نستوعب وفاة والدتي، والحياة يجب ان تستمر، ونحن لم نتوقف، واستمرينا بالحياة بكل طاقتنا، ساعدنا بذلك انتقال جدتي ام والدتي للسكن معنا. الله كم كان ذلك عوناً لنا. كنا نتحدث عن كل شيء، ما عدا الحديث عن امي. حتى انا لم أستطع الحديث عنها رغم انها معي وصورتها امامي مع كل نبض في عروقي، وربما هذه هي المرة الأولى التي اتحدث عنها بعد رحيلها بخمسين عاماً.

عام 1973 عام مليء بالأحداث، حيث قام الجيش المصري بعبور قناة السويس وتحريرها من القوات الإسرائيلية وسميت الحرب بحرب اكتوبر، كذلك استكمل العراق تأميم كل شركات النفط الأجنبية في نفس العام، تبع ذلك زيادة هائلة في واردات العراق النفطية، التي استُثمر قسم منها في مشاريع تنموية سُميت في حينها بالخطة الانفجارية، التي أدت الى استقدام العديد من الشركات الأجنبية للعمل في العراق، مما أدى الى نقص في العمالة وارتفاع مضطرد في الأسعار، رغم استقبال الملايين من العمالة الأجنبية وخاصة اخوتنا المصريين.

في هذه الأثناء لاحظتُ ان رضا قد اشترى دراجة نارية بدل الدراجة الهوائية، ثم أبدل ماكينة قص العشب اليدوية بماكينة تعمل على البنزين. وبدلاً من ان يزورنا ثلاث مرات في الأسبوع أصبحت مرتين، تناقصت بعد ذلك لتكون مرة واحدة اسبوعياً. أثار ذلك قلقي وخوفي من ان فتنة حديقتنا وزهوها والتي كانت ايقونة والدتي، قد يضمحل بمرور الزمن. لذا تحدثتُ مع رضا في أحد الأيام صراحة، واعترضت على تقليل زياراته لنا، وعرضتُ عليه زيادة الأجور الى خمسة دنانير بدل من ثلاث دنانير شهرياً. كانت اجابته وبريق الدموع في عينيه: عمّي على الحديقة لا تخاف. حالياً مثل هذه الحديقة اجورها الشهرية ليس أقل من خمسة عشر ديناراً في الشهر، “لكني لا اريد أي زيادة لأن هذه الحديقة امانة عندي من المرحومة، وسوف اداريها بعيوني ولن أقصر في رعايتها ابدا”.

“شكراً لك يا رضا الشاب الكادح النجيب الذي غزّر فيه العيش والملح والمعاملة الطيبة،
وشكراً لكِ يا أمي لعنايتكِ بحديقتنا حتى بعد رحيلكِ بسنين.”

شموع لا تُطفئها الرياح

“لقد اعتمد الكاتب اللغة النثرية، مخلصاً في إيصال رسالته للقارئ المفترض، والذي أتصوّره يحكي له بأسلوب مشوّق، ويصمت عندما يجد قارئه المفترض شارد الذهن، أو متأمّلاً ناظراً في الأثر الذي تتركه الأحداث فيه، الكتاب سيرة ذاتية روائية كُتبت تفاصيلها بوعي عالٍ، والكاتب يحفر عميقاً في جدران زمن الحاكم الذي لم يتصالح معه في عهوده الملكية والجمهورية، وهو يقود العراق تاريخاً وشعباً، جغرافيّاً واقتصاديّاً من خندق إلى خندق، والشعب يدفع ثمن ولائه المطلق للوطن حياةً وحلماً.”
الاستاذ الدكتور محمد عبد الرضا شياع

إقرأ الكتاب بالضغط على الرابط ادناه:

https://mhalnajafi.org/wp-content/uploads/شموع-لا-تُطفئها-الرياح.pdf

الحُـــــــــب القاصـــــــر

“قصة فتاة من عين تمر”
كما نُشرت في صحيفة المثقف بتاريخ 25 حزيران 2023

هاجس الخوف والرعب لا يفارقها، وتحس احياناً ان أهلها على مقربة منها، وانهم على وشك العثور عليها، فيختض جسدها ويتصبب العرق من جبينها وترتجف اوصالها، لأنها تتذكر وهي طفلة كيف ان اخاً في حارتهم نحر اخته من الوريد، وغطاها بعباءتها السوداء، وتركها ممددة لساعات، وكيف ان دمائها نفذت من تحت عباءتها لتشكل بُركة صغيرة من دماء ضحية الأعراف والتقاليد والجهل المدقع. لم تستطع “هدية” ان تبعد شبح الخوف والرعب من المصير المحتمل، وتُذكرها هذه الهواجس بقصتها التي مضى عليها أعوام إلا انها مازالت مُعشعشةٌ في مخيلتها في منامها وفي صحوها. 

فقبل ان يكون هناك اضطهاد سياسي او استغلال اقتصادي، كان هناك تعسف وعنف وظلم اجتماعي. ولعل التاريخ يُخبرنا من ان المضطهِدون هم رجال العائلة، والمضطهَدين هم عادةً اطفالها ونسائها. وهكذا بدأت قصة فتاة من مدينة نائية في صحراء محافظة كربلاء. مدينة يُضرب بها المثل: “يريد شفية من شفاثة”. وشفاثة هو الاسم الشائع لمدينة بُنيت حول واحة من نخيل التمور وعيون كبريتية، ذات الرائحة الكريهة، توصف للاستحمام بها لمن يشكو من امراض جلدية. 

شفاثة هو الاسم الدارج للمدينة، اما اسمها الرسمي فهو “عين تمر” التي أصبحت ناحية من نواحي محافظة كربلاء بعد ان كانت واحة نخيل ومياه معدنية في الصحراء الغربية. كانت هذه المدينة تعيش في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وربما لا زالت على قيم بدوية وريفية، وضمن البعد الرجعي لهذه القيم.

علمت “هدية”، وهي فتاة قصتنا، من ان عائلتها تُسهل امر زواجها لرجل من عُمر والدها، لتكون الزوجة الثانية، الصبية القوية التي ستخدم الزوج والزوجة وابنائهم. هدية أُجبرت على ترك الدراسة بعد المتوسطة، لتكون المساعدة واليد اليمنى لوالدتها في شؤون البيت وفي الخياطة والتطريز وتصليح الملابس، حيث كانت أمها خياطة المحلة التي تسكن فيها، حينما كانت العادة في ذلك الزمان، شراء اقمشة من التجار ثم الذهاب للخياط او الخياطة لتفصيلها على المقاس. 

وعلى الرغم من ان هدية لم تكن مثقفة، وليست ناشطة سياسية للدفاع عن حقوق المرأة، إلا انها احست بالغبن وعدم التكافؤ، ومن ان زواج كهذا سيكون مجحفاً بحقها وسوف لن يكون مناسباً لها. تحدثت الى أمها عدة مرات، إلا انها كانت تسمع نفس الجواب كل مرة: يا بنتي الشور شور الحجي، وهو أدرى بمصلحتكِ مني ومنكِ. فقدت هدية الأمل بعد ان سمعت إجابة والدتها مراراً وتكرارا.  بدأت التفكير في حلً ينقذها من هذا الزواج، تذكرت صديقة طفولتها “غنية” التي رحلت الى بغداد للعمل في شارع النهر، وهو الشارع الذي تتسوق منه نساء بغداد أجمل الملابس والإكسسوارات. 

استجمعت هدية قواها مع قليل من النقود، وهربت في صباح مبكر الى كراج بغداد الذي اوصلها الى كراج علاوي الحلة في بغداد، ومن هناك ذهبت الى شارع النهر للبحث عن بنت مدينتها التي ربما مرت بظروف مماثلة لها. أرهقها البحث عن غنية، إلا ان الحظ حالفها وعثرت عليها بعد ان امتلكها الذعر، لأنها لا تملك أي بديل سوى العثور عليها. تعمل غنية في محل لبيع بدلات العرائس للعوائل الراقية، محلاً واسعاً يُعرض فيه آخر التصاميم الفرنسية والإيطالية ومُجهز بورشة خياطة وتصليح متكاملة. زبائنهم نخبة العوائل الأرستقراطية والغنية من سكنة المنصور والأعظمية والكرادة الشرقية. 

اصطحبت غنية هدية الى مسكنها الذي هو غرفة مؤجرة في بيت شرقي في حي “عكد النصارى” من الجهة الثانية لشارع الرشيد. حديث طويل بين الصديقتين لم يسع الليل كله، لسماع الحكايات وتقاسم الهموم والتأفف والاحساس بالضعف والهوان لما قام به أهاليهم من ظلم وجور عليهن. 

استطاعت غنية ان تقنع “طارق” ابن صاحب المتجر، ان يوظف هدية في نفس محل بدلات العرائس، كمساعدة لها في خياطة بدلات العرائس لجميلات بغداد. طارق الأبن الأكبر لصاحب المتجر، يساعد والده في مسك الحسابات، كان طالباً في كلية التجارة، ولديه مزاج في العمل التجاري الذي يرى فيه مستقبلاً له. 

لفتت عاملة الخياطة الجديدة انتباه طارق، التي كانت تحاول إخفاء وجهها ووجودها في الورشة، متذكرة دائماً ان أهلها يبحثون عنها ولن يرتاحوا حتى يجدوها لتلقى المصير المحتوم. أخذ الفضول مجراه عند طارق مما اضطره لسؤال غنية عنها، واستمر في طرح الأسئلة محاولاً معرفة تفاصيل تحاول غنية عدم البوح بها. انزعجت غنية من اهتمام طارق بصديقتها هدية، ربما لأنها كانت مولعة به او كانت تتأمل ان يهتم بها بدل انشغاله بصديقتها. 

لمحت هدية محادثة غنية مع طارق، وساورتها الشكوك من خلال النظرات والإشارات من ان الحديث كان حولها، صاحب ذلك شعور متناقض بالخوف والقلق من جهة والتطلع بطموح لمستقبلٍ أفضل من جهة أخرى. مستقبل زاهر في بغداد الجميلة التي انبهرت بمحلاتها وحدائقها وشوارعها العريضة. 

لم تكن هدية فتاة جميلة وفق المعيار البغدادي، لم تكن نحيفة ولا طويلة، ليست بيضاء وشعرها لم يكن ذهبياً وعيونها لا زرقاء ولا خضراء، إلا ان دمها كان خفيفاً وجمالها فطريٌ، سمراء ذات عيون بدوية سوداء وواسعة وحواجب عريضة وصدر شامخ وجسم ممتلئ بأنوثة صارخة. وجهها دائريٌ قمري، خدودها تفاحية الشكل، يمنحان ابتسامتها رصعةٌ توحي ببراءة طفولية. 

بحكم موقعه وطبيعة حياته الاجتماعية يتعايش طارق مع الكثير من الفتيات الجامعيات الجميلات، الأنيقات في الملبس والخبيرات في فن المكياج المُجسم الذي يبرز الأنوثة من بين ثنايا رتابة الزي الجامعي الموحد. إلا انه وجد في هذه الفتاة القادمة من اقاصي العالم، من مدينة لم يسمع بها من قبل، نكهة حُسنٍ مفتقدة في الأكاديمية وفي احياء ونوادي بغداد الأرستقراطية، طبيعية غير متصنعة دون مكياج او تجميل مبالغ به، بسيطة في الكلام، عفيفة النفس رغم صعوبة الحياة التي تمر بها. تلك هي عاملة الخياطة الجديدة التي بدأت تأخذ حيزاً كبيراً من تفكير طارق. 

حاول طارق ان يلفت انتباه هدية عدة مرات، يزور ورشة الخياطة لسبب او بلا سبب، علماً ان طبيعة عمله لا علاقة لها بورشة الخياطة. إلا ان هدية كانت تتصنع عدم الانتباه لذلك، لأنها تعلم بالفوارق الطبقية والاجتماعية والثقافية بينهما، كما انها لم تلق تشجيعاً من صديقتها غنية التي كانت تنصحها على تجنب ذلك والتركيز على مستقبلها. 

استطاعت هدية من إثبات مهارتها وجدارتها في الخياطة كي تحافظ على مصدر رزقها ومعيلها الوحيد. ومع مضي الأيام، بدأت بالتعرف على مدينة بغداد أكثر، والاعتماد على نفسها في الأمور الحياتية، وتدريجياً بدى عليها الاعتناء بنفسها من حيث الشكل والمضمون. تخلصت من ملابس عين تمر وابدلتها بملابس جديدة اشترتها من شارع النهر الذي تعمل فيه. لمّعت من مظهرها كثيراً دون ان تتجاوز الحدود المعقولة لما تربت عليه واعتادت على تقبله. 

التغير الرئيس الذي تسعى هدية لبلوغه هو حصولها على التعليم الذي حُرمت منه، او بمعنى اصح حرموها منه. لذا قررت التسجيل في ثانوية مسائية للبنات، وركزت على ذلك واخذت تشعر ان حياتها بدأت تأخذ المجرى الذي كانت تصبو اليه. إلا انها لا يمر يوم لا تتذكر فيه والدتها وابيها واخوتها والجيران وصديقات الطفولة، وتحن الى شفاثة، رغم انها تعلم علم اليقين انها أصبحت مُحرمة عليها مدى العمر. 

فاجئها طارق نهاية دوام أحد الأيام ليتحدث معها عن مشاغل حياتها وما إذا كانت بحاجة لدعم او مساعدة معينة. شكرته واظهرت امتناناً صادقاً لمنحها فرصة العمل بورشة والده، ومن انها سعيدة على هذه الحال. لمّح لها طارق انه معجب بها دون ان يضغط عليها او يطلب منها شيئاً. لم تستغرب كثيراً رغم انها تظاهرت بالاستغراب، مع ذلك انحرجت فعلاً وتلعثمت في الحديث لعدم وجود سابقة لها في امر كهذا.

تركت الورشة ذاهبة الى المدرسة وهي تسير كفراشة تسبح في ربيع منتزه مليء بأنواع الزهور. راودتها رغبة مُلحة في الانغماس في تجربة العشق والحب والغرام، بدأت تفكر ان طارق مفتاحها لحياة أفضل، إلا ان وعيها الفطري كان دائماً يوقظها من أحلامٍ تعلم هي قبل غيرها انها صعبة المنال. 

أدرك طارق الوعي السياسي ابان ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958، وتأثر الى حد كبير بالروح الوطنية للزعيم عبد الكريم قاسم، وللفكر اليساري الذي يدعو الى إزالة الفوارق الطبقية والاجتماعية ويدعو الى تحسين حياة الفقراء. إلا انه رغم ذلك ابن عائلة برجوازية متمكنة ويتمتع بمزايا مادية واجتماعية، لا يمكن ان يتنازل عنها، وان حبه للفقراء مجرد مشاعر وامنيات مثالية لا تعني ان يمزج حياته بحياتهم او حياتهم بحياته.

إلا ان الشرارة التي نتجت عن احتكاك حجرين، أصبح من الصعب اطفائها دون منحها الفرصة للاحتراق والتحول الى رماد لا حرارة فيه ولا دفئ يحتويه. طلب طارق من هدية ان يُريها بغداد في الليل من خلال جولة في سيارته. اعتذرت منه عدة مرات بحجج واهية في معظمها، إلا انها رضخت في النهاية لأنه كان في طلبه لحوحاً بأدب، ولأن مشاعر الهوى بدأت تأخذ منحاها اليها. 

تكررت رحلات السيارة لتشمل كورنيش أبا نوأس ومنتزه الزوراء وسينما النصر، وووو. وفي جلسة شاعرية في مطعم فوانيس في السعدون، صارح طارق هدية من انه معجب بها ويريد ان تتطور العلاقة بينهما نحو اشباع أكثر. في مفهوم هدية لا يعني ذلك إلا الزواج، بينما أراد طارق ان يطور العلاقة عاطفياً دون ربطها بالتزامات رسمية. وفي كل مرة كانا يتقاربان جسدياً أكثر من سابقه، مسكةٌ يد من هنا ولمست شعر من هناك ودغدغتٌ من هنا وهناك. كان الإثنين يتحسسان هياجاً في المشاعر تتوج كل مرة بقبل حارة وعناق طويل. 

وعد طارق ان يأخذ هدية معه في سفرة الى بحيرة الحبانية. فرحت بذلك كثيراً، لأنها سمعت الكثيرين يتحدثون عنها. كعادتها خلعت هدية عباءتها قبل الصعود الى سيارة طارق، وزهت مفاتن جسدها رغم مقاومة ملابسها الجديدة لحجبه. توقف طارق امام مكتب إدارة المنتجع السياحي ليستلم مفتاح الكابينة المحجوزة له. استغربت هدية بعض الشيء لذلك. كان في تصورها انهم ذاهبون للحبانية كي يجلسوا على رمال شاطئها ويلعبوا في مياه جرفها. دخلا الكابينة، وقبل ان يمضي وقتاً طويلاً تقدم طارق وحضنها، ارتجفت وشعرت بجمال العاطفة التي اهتز لها بدنها بجميع اركانه. استمرت القبلات الحارة بينهما حتى مسك بيديه وسطها ليمددها على السرير، رفع رأسه كي يقبلها لتصدمه رؤية دموعها، أهي دموع فرح! أو دموع خوف! ام دموع رجاء! وكأنها تقول له انني في حالة خضوع وضعف شديد يا طارق، فلا تستغل ذلك وتغدر بيّ. 

انتبه طارق الى طبيعة دموعها وعرف معناها دون ان يستجوبها. زرع قبلة حنان على جبينها وساعدها للجلوس على السرير بدل الاستلقاء عليه. أحس طارق بذنب كبير، خجل فيه من نفسه وحاول ان لا تتصادم نظرات عيونهما. ظل يفكر ماذا لو استمر الحال وحصل ما حصل! ما سيكون مصيرها وما سيكون مصيري! واخيراً استجمع قواه وقال لها ما رأيك ان نأكل شيئاً في الكازينو ثم نذهب كي “نُطبش” في الماء. لمعت عيون هدية وبكت بحرارة هذه المرة من الفرح، ومن ان طارق الشهم لم يغدر بها، لا بل حتى حماها من رغبة مُلحة في نفسها. 

استفاق الأثنان بعد ذلك اليوم من الحلم الجميل. ليسأل طارق نفسه عدة مرات، هل ان هدية ممكن ان تكون الزوجة المستقبلية له! هل يحبها لدرجة مستعد بها ان يخالف عائلته! ما هو مستقبل العلاقة بينهما، هل ممكن ان تتقبله بعد ذلك، هل انه مستعد ان يقطع علاقته بها، أسئلة وتساؤلات كثيرة ومتعبة لا أجوبة محددة لها، ومرت الأيام ولم يستطع ان يحزم امره.

وسألت هدية نفسها هل انها مُستعدة ان تقيم علاقة لا تؤدي الى الزواج، وهل ممكن ان يتزوجها طارق في يوم ما! وحتى لو أراد ان يتزوجها، هل هو الشخص المناسب لها، هل ان عائلته ستتقبلها كزوجة بالتمام والكمال، ام انها ستكون الزوجة الفقيرة التي يعتمد عليها في الشؤون المنزلية!

ربطت هدية هذه العلاقة مع طارق بما حدث لها في عين تمر، ووجدت ان الحالتين متشابهتين، ستكون الطرف الضعيف والمُضطهد في العلاقة. لذا قررت هدية ان تبني مستقبلها بعيداً عن شارع النهر الذي تحول الى شارع للحب الممنوع، واتخذت قرارات شجاعة تنم عن فطرة صلبة، فبحثت عن، ووجدت عمل في معمل للخياطة في مدينة الكاظمية، بعيداً عن صديقتها غنية، وبعيداً عن حب قاصر، لا تستطيع مقاومته إلا بالابتعاد عنه، ولتبقى ذكرى طارق في القلب خالدة كتجربة حب ومشاعر جميلة، لا عائقاً او معوقاً لمسيرة حياتها، ولتكون قصة مضافة لكتاب كان يا ما كان.

 

 

قراءة في: يوميات كاتب في المنفى

“مسارات الحروف وكواليس الكتابة”
للدكتور خير الله سعيد
يقدمها: محمد حسين النجفي، كما قُدمت في منصة “زينب كحل الفردوس الثقافية” بعنوان:
المثقف مناضلاً: الدكتور خير الله سعيد أنموذجاً
كما نُشرت في موقع المثقف

 يأخذنا التفكير والانبهار عندما نقرأ لـ “يوميات كاتب في المنفى ضمن مسلسل “مسارات الحروف وكواليس الكتابة” للدكتور خير الله سعيد، حيث انني لم أجد كاتباً وما اكثرهم، ولم أرى سياسياً، والكل يثرثر في السياسة هذه الأيام، انما تعرفتُ على طفلاً تغذى من الرزق الحلال ومن بساطة العيش، وتربى في بيئة متواضعة مادياً، غنية اخلاقياً، متفوقة على نفسها وعلى من حولها في الكد والجهد والإنجاز. رأيتُ طفلاً طموحاً ومراهقاً كادحاً وشاباً ملتزماً ورجلاً عصامياً، شق طريق حياته بأيادي عامل البناء الخشنة، وزينها برسوم زاهية مخطوطة بأنامل ريشة خطاط محترف.

 حضرت العديد من ندوات الزوم وعلى عدة منصات وتعرفت فيها على الدكتور خير الله سعيد والدكتور محمد عبد الرضا شياع ومجموعة واسعة من المثقفين. لفتت انتباهي مداخلات دكتور سعيد في كل الندوات رغم اختلاف مواضيعها، وتباين مقدميها. رجل ذو معلومات واسعة وذاكرة ذكية وفطنة للتفاصيل التي تطرح امامه. مداخلاته تبدأ وتنتهي بإيجابية صادقة، مع إضافة بُعد ورؤيا ذو قيمة ودلالة للمحاضر ولموضوع المحاضرة. كنت ولا زلت انتظر ما يقوله كاتبنا “السعيد” في محاضراته ومداخلاته وفي الأسئلة التي يطرحها ويسميها “إشكاليات”.

سحرتني من سيرته في مسارات الحروف بداياته، نعم تأثرتُ كثيراً بطفولة ونشأة كاتبنا، التي ميزتها قدرات غير طبيعية وصفات شخصية مكنته من الوقوف بوجه كل الصعاب وتجاوز كل المعضلات، لم يتردد لبدء اول يوم دراسي في ان يذهب للمدرسة حافي القدمين، لأنه ببساطة لا يملك حذاءً، ولم تثنيه قساوة احد معلميه، الغير طبيعية والتي أحس فيها الطفل خير الله انها لم تكن إلا لأسباب سياسية وطائفية ومناطقية، لأنه كما يقول “شروكي” ومن منطقة الشاكرية التي قاومت حركة 8 شباط عام 1963 الدموية، رغم ان “خير الله” كان طفلاً حينها وربما لحسن حظه، ولو كان شاباً، لكان مصيره مثل مصير رفاقه مقتولاً او مسجوناً أو مشردا.

كان الصبي خير الله يبحث عن حلول وعن سُلمٌ للإرتقاء، فكان يُعاني من تلعثم في الكلام خاصة في الكلمات التي تبدأ بحرف الألف، وتعرض للإهانة والضرب من معلميه بسبب ذلك، الى أن نصحه أحد المعلمين الأفاضل، بأن يحفظ الشعر المقفى ويقرأه بصوت عالي وسيتخلص من التلعثم في النطق. فبدل ان ينكسر الصبي “خير الله”، وينطوي على نفسه، حفظ المعلقات السبعة عن ظهر قلب وتخلص من عقدة اللسان.

كما قُلت كان يبحث عن سُلم للرقي، فحينما سمع أحد زملاءه يُلقي قصيدة “أبو القاسم الشابي” في الطابور الصباحي، اعجبته وصادق ذلك الطالب وجعل هذا البيت للشابي مفتاحاً مبدئاً لسيرته أخلص له طيلة حياته:

“خُلقت طليقاً كطيف النسيم   وحُراً كنور الضحى في سماه
فما بالك ترضى بذل القيود        وتحني لمن كبلوك الجباه”

وتستمر الحياة مع الصبي ليتعلم الخط العربي ويتقنه على يد أشهر خطاطي العراق “هاشم الخطاط”، الذي نصحه حينما رأه متواضعاً اكثر من اللزوم، بأن: “احفظ كبريائك على الدوام”. واستمع الى الدكتور مصطفى جواد وبرنامجه الإذاعي “قل ولا تقل”، وبرنامج “الندوة الثقافية: للدكتور سالم الألوسي وضيفه الدائم د. مصطفى جواد، الذي زرع في نفسه نزعة موسوعية تركزت على تاريخ بغداد في العصر العباسي، وعلى دور “الوراقين” في نشر المعرفة، التي حققها بعد أكثر من ثلاثين عاما.

واستمر في قراءة يوميات كاتب من المنفى، وارافقه وانا اقرأ في رحلة مناضل من مناضلي ما كان يُسمى الزمن الجميل، لأكتشف معها معنى المواطنة عند ذلك الجيل وقيمة الوطن الذي يُعلى ولا يُعلى عليه، وقدرة ذلك الجيل في العطاء الذي لا حدود له، حتى لو كان بضمنها التضحية بالحياة. ان ما يتعرض له الجيل الحالي في العراق او في الوطن العربي، من ظلم واضطهاد، وهو ليس بالقليل، إلا انه لا يقارن لما تعرض له خير الله الطفل، وخير الله الصبي وخير الله الشاب وخير الله الرجل، من ضيق مادي وعوز معاشي واضطهاد طبقي وتعسف وظلم سياسي وصل لحد الحكم بالإعدام، وكلها متلازمة وفي آن واحد، ومع ذلك صمد وصمد وشق طريقه نحو العلى دون ان يذعن او يهادن او ان يساوم على حساب مبادئه. وحينما اضطر لمغادرة وطنه مُرغماً لا مخيراً، لم يأخذ معه من الزاد سوى وصية اخته الكبرى “شلتاغة” التي قالت له باختصار: “اسمع خويه، إنت طالع لديار الغربة، وبعزمك وبإرادتك، يا إما ترفع راسنا، يا إما تعود الآن”، والشواهد تقول انه ظل اميناً لوصية اخته الكبرى.

لذا انني حينما فتشتُ في كواليس ودهاليز الكتابة للدكتور خير الله سعيد لم اجد كاتباً او سياسياً او اكاديمياً او باحثاً، انما وجدتُ مناضلاً، ليس بالمفهوم السياسي فقط وانما مناضلاً سياسياً ذو مبادئ حافظ عليها واعتبرها اعلى من الانتماءات الحزبية، ومناضلاً في سبيل لقمة العيش منذ الطفولة وربما لحد يومنا هذا، ومناضلاً في سبيل الثقافة وبالأخص ما يهم وطنه وتراثه وبغداده التي يُعلّي من شأنها دائماً في بحوثه واستنتاجاته العلمية المرتكزة على مصادر نادرة، اقتناها بالدراهم الأولى حينما عمل كل يوم جمعة عامل بناء، وحينما اشترى مجموعة “مُعجم الأدباء- لياقوت الحموي-20 مجلداً”، اشتراها بكل ما لديه 1500 ليرة سورية بدل ان يدفع ايجار سكنه، غير مبالياً من نتائج عدم دفع الإيجار.

ناضل في سبيل مبادئ آمن بها ودافع عنها وتعرض لاحتمال ان يُعدم كما أعدم صديقه، والعديد من رفاقه، إلا انه لم يساوم لا مع خصومه ولا حتى مع رفاقه الذين اختلف واختلفوا معه في المسيرة رغم الإيمان بقضية واحدة.

الدكتور خير الله سعيد حياته زاخرة في السعي والجهد المتواصل في القراءة والبحث، كان من المواظبين يومياً ولمدة عشر سنوات للجلوس والقراءة والبحث في مكتبة الظاهرية في شارع سينما الحمرا بدمشق، ليجلس مساءاً منفرداً في صومعته للكتابة في مواضيع أفنى حياته في دراستها، التراث والفلكلور العراقي خاصة في العهد العباسي.

علاقاته الثقافية والسياسية واسعة جداً: يعتبر نفسه تلميذاً للراحل هادي العلوي، ومستمعاً جيداً لمصطفى جواد، ومتدرباً على الخط العربي تحت اشراف الخطاط هاشم البغدادي. تعرف شخصياً على النقابي العمالي العراقي النشط في ستينات وسبعينات القرن المنصرم “هاشم علي محسن” الذي كان ايضاً رئيساً لتحرير الجريدة الأسبوعية الناطقة باسم نقابات العمال العراقية والتي منح فيها فرصة لليساريين للكتابة فيها، وكنت انا احد قراءها، ومن الشعراء الفلسطينيين التقدميين محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زيّاد، ومن المثقفين السوريين توفيق سلوم وميشيل كيلو وناجي علوش، ومن القادة السياسيين نايف حواتمة وجورج حبش، ومن الشعراء العراقيين شاكر السماوي وعزيز السماوي وعريان السيد خلف ومظفر النواب، وما هذه إلا امثلة قليلة من العلاقات التي اثرت عليه وأثر عليها.

أقول للدكتور خير الله سعيد: أيها المثقف الموسوعي الكبير، إن امكانياتي الأدبية المتواضعة لا يمكنها ان تعطيك حقك في التقدير والثناء، ولكني أرى مشتركات بيننا غير مقصودة رغم انني أكبر منك عمراً، ففي الوقت الذي كنت تتعرض لاضطهاد لأنك من الشاكرية، كان صاحُبك “المناضل الصغير”، على الجانب الآخر من نهر دجلة، معتقلٌ يُحقَق معه في دهاليز وبيوت غير مُعلمة للحرس القومي للتحقيق معه، وكنا نسمع وقع وصدى رصاص المقاومين ببطولة للانقلاب الفاشي عبر اثير نهر دجلة، من محلة الكريمات ومنطقة الشاكرية المناضلتين.   

وحينما اشتريت كتاب للشاعر النجفي “حسين القسام”، كنت انا قد حضرت استعراض مسرحي في أحد الأعراس النجفية، يُقدمها المنلوجست النجفي الرائع “صادق القندرجي” ومُعظم مواد الاستعراض كانت للشاعر والناقد الاجتماعي “حسين القسام”، وكان الإثنين يكملون بعضهما.

اما تسوقك من مكتبة التحرير في الباب الشرقي، فكانت مصدري لشراء الكتب ايضاً، إلا إنك رغم عُسر اليد اشتريت كتابين مرة واحدة، وانا مع يسر اليد كنت بخيلاً لا اشتري عادةً أكثر من كتاب واحد.

قصيدة رمدة الشمس وصلت الينا نهاية الستينات، على أثر انتكاسة حركة الأهوار ومجزرة “الغموكه”، مكتوبة بحبر بخط اليد على ورق خفيف لصنع الطائرات الورقية، وقيل لنا عند الضرورة والمداهمة يمكنكم بلعها. نعم قُدمت الينا باعتبارها للراحل مُظفر النواب ولا لأحد غيره، والتي علمنا لاحقاً انها للشاعر جودت التميمي، ومطلعها:

رمدة الشمس ومعصبات     إعيونها بغيم الكِدر
ردْ للسَلف، خبُر زلمنـــــا    الما وصل منهم خبر

في الختام أقول للدكتور خير الله سعيد: ان تجاربك واسعة في الحياة، قراءاتك لا حدود منظورة لها، بساطتك وسلاستك ومحبتك للآخرين ونتاجاتهم مُشجعة ومحفزة دائماً. إنك موسوعي وناقد وشاعر وباحث من طراز خاص، ميزتك إنك تكتب للمثقفين فتبهرهم، وتكتب للعامة فتثقفهم وتُسليهم، وهي ازدواجية صعبة الاحتواء، فمعظم الكتاب يسعون إما للوصول للقارئ المثقف، او للمواطن العادي الذي يقرأ للاطلاع والاستمتاع.

ومع ذلك، وللأسف أقول مع ذلك فإن الدكتور خير الله سعيد لم ينل حقه في التقدير والتكريم او التقييم او الأسناد او النشر سواء من الجهات الرسمية الحكومية مثل وزارة الثقافة او من الجامعات ومراكز البحوث ذات الاختصاص او من المراكز المهنية مثل اتحاد الأدباء او غيره، على مدى الحكومات والظروف المتعاقبة، وان هناك من الأدباء من نال الدعم وحصل على الشهرة، لا لإنجاز قدموه ولا لتضحية مشهودة لهم، وانما لوصوليتهم وانتهازيتهم كونهم جلساء السلاطين ومداحي المتنفذين. الدكتور خير الله سعيد مشروع ثقافي وطني لا بد من تعضيده للوصول الى نتائج مضاعفة لهذا الجيل والأجيال المقبلة، وللأسف نكتشف في قراءتنا لـ “مسارات الحروف وكواليس الكتابة” ان هناك مجموعة كبيرة من نتاجه مكتملة وباقية على شكل مخطوطات، بانتظار من يطبعها، وهذه امثلة لبعضها:

  • عريان السيد خلف – الشاعرية المتكاملة.
  • حكايا شهرزاد.
  • قراءات في أوراق شيوعية.
  • أحمد المختار بين الموسيقى والحياة.
  • مماحكات فكرية في الأدب الشعبي.

استاذنا خير الله سعيد، إني سعيد بمعرفتك وسأقرأ لك أكثر وأكثر، فإنك كريم في غزارة نتاجاتك، ونحن بخلاء في متابعة كتاباتك وإنجازاتك الإبداعية خاصة ما يخص التراث والفلكلور العراقي.

15 حزيران 2023 

#خير_الله_سعيد    #افكار_حرة          #محمد_حسين_النجفي

لولاكِ يا ماجـــــــــدة

نرى ذلك في الأفلام والمسلسلات كثيراً ولا نصدقه. قنبلة مؤقته يعطلها البطل في آخر لحظة. اسير على وشك ان يقتل يصل اليه المنقذ آخر ثانية لينقذه. غريق شرب الكثير من الماء، يُنقذ ثم يتقيأ الماء الذي شربه. قصص خيالية تكاد تكون مصداقيتها مساوية للصفر او اقل. أما انا ومن خلال تجربتي في الحياة أجد في هذه القصص والمسلسلات الكثير من الواقعية بناء على ما مررت به من احداث في حياتي.

 دعوني احكي لكم قصة هجرتي الى الولايات المتحدة الأمريكية. باشرتُ في معاملة الهجرة عام 1981 للالتحاق بزوجتي هاسميك التي سبقتني بالهجرة مع عائلتها الى الولايات المتحدة. تقدمت بطلب الهجرة بعد ان عقدنا زواجنا في مدينة تورنتو الكندية، حيث كان اخوتي سعد وسلام يدرسون في كلياتها. كنت في حينها اشغل منصب مدير التسويق في شركة كيربي للمباني الجاهزة في الكويت، لذا قدمت طلبي عن طريق السفارة الأمريكية في الكويت.

إلا ان عقد عملي انتهى في الكويت قبل ان احصل على اذن الهجرة. ولما كانت الإقامة في الكويت مبنية على عقد العمل، كان لابد لي من ترك الكويت لبلد آخر. تبنتني مجموعة من الأصدقاء عراقيين ومصريين، وطلبوا مني الذهاب معهم الى مدينة الإسكندرية لأكون في رعايتهم وحمايتهم. جواز سفري العراقي كان على وشك ان تنتهي صلاحيته، ولم يكن وضعي يسمح لي بمراجعة الملحقية العراقية في الكويت التي كانت معسكر مخابراتي ومعتقل ومركز تسفير الى العراق لغير المرغوب فيهم من قبل السلطة العراقية آن ذاك.

نقلت طلب الهجرة الى السفارة الامريكية في القاهرة، وسافرت الى الإسكندرية بصحبة الأصدقاء. صحبة لا يمكن نسيانها أخص منهم بالذكر اللواء المتقاعد فؤاد حلمي، والصديق الوفي علي شاهين، ومحمد سعد الذي تعرفت عليه لاحقاً. تعرفت على هذه المجموعة من خلال الأخ الصديق ذو الاعتبار الخاص والمنزلة العالية الحاج عامر حسين علي الشغاي، الذي كان في حينها مدير في دائرة كاتب عدل الكويت.

مرت الأيام في مدينة الإسكندرية وانا في انتظار قبول طلب الهجرة، وكنت اسافر مع الصديق علي شاهين كل أسبوعين الى القاهرة لمراجعة طلبي. وفي كل مرة اسمع نفس الجواب: سوف نبعث لك رسالة للمقابلة حينما يأتي دورك. كيف سيصلني الدور ومعظم مهندسي وأطباء وشباب مصرطالبين الهجرة، خاصة الأقباط منهم .

وذات مرة وانا في انتظار دوري للاستفسار على طلبي، لفت نظري شابة مصرية من كادر السفارة، يبدو عليها نشاط وحيوية متميزة، وكل موظفي المكتب يلجؤون اليها لتلقي التوجيهات. كذلك لفتت انتباهي لأنها تشبه الممثلة الشابة في حينها ماجدة. بقيتُ طيلة فترة الانتظار متمعن بتصرفاتها وحركاتها الأنيقة والمحسوبة وكانت تدير مكتب الهجرة دون تزمت او تكبر او استرخاء. كل شيء كان متوازن في اناقة ملبسها وحيويتها ومركزية شخصيتها الإدارية. أفقت من استغراقي حينما نوديّ بإسمي، وقيل لي نفس الجواب.

تجرأتُ وطلبت الحديث مع تلك الست او الآنسة، لا أدري! اتجهت نحوي بكل رقة وثقة، وقالت: أفندم! قلت لها يا مدموزيل، انا لستُ مصرياً، انا عراقي وأسكن في مدينة الإسكندرية وبدأتُ معاملتي منذ حوالي تسعة أشهر، وان زوجتي في أمريكا تنتظرني، فمن غير المعقول ان يكون طلبي القادم من الكويت يبدأ دوره من الصفر مجدداً، وبعد طلبات المواطنين المصرين الذي يعيشون في بلدهم ووسط أهلهم. طلبت اسمي وسحبت ملفي ومن دون لف او دوران او تحميل جميل او أي ملامح استعطاف، قالت لي: تعال بعد أسبوعين زي النهار ده والساعة دي سيكون لك مقابلة مع قنصل الهجرة، وحينما تأتي اسأل عنيّ. سألتها عن اسمها، قالت: ماجدة. يالله اسمها ماجدة وتشبه الممثلة ماجدة، لا بل أجمل منها، وكنت مستأجراً شقة في عمارة ستانلي على كورنيش اسكندرية تملكها الممثلة: ماجدة، التي علمت ان اسمها ماجدة الصباحي. شكرتها كثيرا وسارعت لأبشرعلي شاهين، الذي قال لي: خلاص يا عم مين زيك!!!

رجعت للسفارة الأمريكية بعد أسبوعين وعلى الموعد المحدد. وانا في الطريق كنت متأكداً من ان ماجدة ستفي بوعدها، وإلا ستكون صدمة لي ان خالفت الوعد، وهذا كان مصدر قلق لي. توجهت الى ماجدة وسلمت عليها، رحبت بي وكأنها كانت في انتظاري، وطلبت مني الجلوس. بعد ذلك بدقائق قدمتني لضابط الهجرة او القنصل، لا أدري بالضبط مركزه. دخلنا الى غرفة صغيرة، وجلسنا للمقابلة. طلب ان يرى جوازي العراقي، وبدء يتصفح به وهو يسألني العديد من الأسئلة. كان باب الغرفة مفتوحاً على ممر تتشعب منه العديد من المكاتب. وانا في المقابلة جاءت ماجدة وتوقفت امام باب المكتب وظهرها بإتجاهنا، وهي تتحدث لشخص آخر في الممر. وفجأةً رمى القنصل الجواز باتجاهي، وقال لي: Sorry, I can’t approve your application

آسف، لا أستطيع الموافقة على طلبك. وقع ذلك وقع الصاعقة على مسامعي، ولاحظت ان ماجدة استدارت برأسها بفزع باتجاهنا كرد فعل لما قاله القنصل. سألت القنصل عن السبب، قال لي ان جوازي لا يحمل الموافقة للسفر للولايات المتحدة، وبالتالي الجواز غير صالح لدخول الولايات المتحدة. انبريتُ للدفاع عن طلبي بحماس محسوب، وضحت له من انني لستُ مسافراً لغرض السياحة لأمريكا ثم أعود للعراق. إني مهاجر ولا اريد سوى موافقتكم. ان العلاقات بين العراق وأميركا مقطوعة، لذا لا يهم وجهة نظر الحكومة العراقية. كان يستمع اليّ بأذن صماء وببرود دون أي تفاعل مع ما أقول. وانا في هذه الحالة اليائسة التي اعلم منها ان أي قرار يتخذ هنا سيكون نهائياً ومن الصعب تغييره، رأيت ماجدة التي كانت على ما يبدو تستمع للحوار كله، رايتها تستدير وتأتي الينا، لتقول للقنصل: ان العراق حالة استثنائية، لا نطلب منهم صلاحية الجواز للولايات المتحدة، وقد وافقنا على مثل هذه الحالات من قبل. وإذا به يفتح ملف الطلب مرة اخرى ودون ان ينبس بكلمة واحدة، ينهي المقابلة بالموافقة على طلبي.

هل ان “ماجدة” هنا إنسان ام ملاك! إذا كنتُ لا اعرفها ولا تعرفني، ولا يوجد استلطاف عاطفي بيننا، لماذا أبدت هذا الاهتمام، ولماذا مُتقصدةً وقفت امام الباب كي تسمع وتراقب ما يجري بصورة غير مباشرة، لتتدخل في النهاية وتحسم الموضوع لصالحي. كلها تساؤلات مازالت معي لم أصل الى أجوبة مقنعة عنها رغم مرور أكثر من أربعين عاماً عليها. ولكن كل الذي أستطيع ان اقوله: انه لولاك يا ماجدة لما وصلت الى أمريكا، ولولا تدخلكِ يا ماجدة لتغيرت مسيرة حياتي نحو الأسوأ، لأنني في تلك المرحلة وذلك الوقت والزمان والمكان، كنت بأمس الحاجة الى مَلاك. رعاك الله يا ماجــــــــــــدة.

 #www.afkarhurah.com

شموخ القائد الظافر

الذكرى الستون لاستشهاد سلام عادل ورفاقه
كما نُشرت في مجلة الشرارة الغراء عدد 164 آذار 2023 صفحة 14-15

كانت الأيام تمر بثقل وبطء شديدين بعد ردة 8 شباط 1963. الأخبار تتوالى تباعاً دون توقف مبتدئةً باغتيال قائد القوة الجوية جلال الأوقاتي، وبمقتل الزعيم ورفاقه، واستشهاد وصفي طاهر وعبد الكريم الجدة في معركة وزارة الدفاع، ومقتل ماجد أمين لمقاومته الحرس القومي أثناء محاولة اعتقاله ووو. كلها أخبار مقيتة تبعث على الحزن والأسى لترى خيرة القادة الوطنيين يتساقطون الواحد تلو الآخر.

إن أكثر ما حطم معنويات الشباب هو ظهور العديد من القادة السياسيين على شاشات التلفاز يقدمون اعترافات مذلة ومهينة وخاصة اعترافات عدنان جلميران وحمدي ايوب وطريقة طرحه المهينة. إن مجرد ظهورهم وطعنهم لمسيرة الحركة الوطنية كان له مردود سلبي على الجميع مما أدى إلى العديد من الانهيارات المتعاقبة بحجة أن القيادة قد انهارت كلياً.


حسين احمد الرضي سلام عادل

محمد حسين ابو العيس

 

إلا أن إعلان حكم الإعدام وتنفيذه يوم 7 آذار 1963 لكوكبة قيادية متمثلة بحسين احمد الرضي (سلام عادل) ومحمد حسين أبو العيس وحسن عوينه، كان له مردودين متعاكسين. الأول أنها انتكاسة ليست كبيرة وإنما كبرى لقيادة الحركة. أما المردود الثاني وهو الأهم هو أن الكل يعلم أن هذه الكوكبة لم يتم إعدامها شنقاً أو رمياً بالرصاص. إنهم عذبوا وعذبوا وعذبوا لأيام وليالي واستشهدوا دون أن يتعاونوا مع جلاديهم أو يبوحوا سراً أو يكشفوا أمرا. استشهدوا تحت وطأة التعذيب الوحشي مرفوعي الرأس دون أن يتخاذلوا أو يهينوا أنفسهم أو رفاقهم. إنهم حقاً ممن تنطبق عليهم قصيدة الجواهري (مفاتيح المستقبل)، كما انطبقت من قبل على فهد وحازم وصارم: 


سلامٌ علــــى جاعلين الحتو ـــــــــــــــــــ فَ جسراً إلـى الموكبِ العابرِ

 سلامٌ علــى نبعةِ الصامدين ـــــــــــــــــــــ تعاصَتْ علـــى مِعْول الكاسرِ

 وليسَ علــــــى غُصُنٍ ناعم ــــــــــــــــــــ رشيقٍ يميلُ مـــــــع الهاصرِ

 سلامٌ على مُثقلٍ بالحديــــــدِ ـــــــــــــــــــــ ويشمــخ كالقـــائـــــدِ الظافرِ

كأنَّ القيودَ على معصميه ـــــــــــــــــــــ مفاتيـــــحُ مُستقبل زاهـــــــرِ

 كان لهذا الاستشهاد معنى أقوى من الموت. لقد منح صمود واستشهاد الرفاق أملاً قبل ذلك لم يكن منظوراً. لقد جعل رفاقهم يتفاخرون بشموخ قادتهم واستشهادهم دلالة على فشل سلطة البعث التي كانت تعيش حالة رعب وخوف وأرق مستمر من أن يوم أفولهم آت لا محال، وأن القانون رقم 13 المشؤوم لن يكون كافياً كي يحميهم من المصير المحتوم. نعم إن استشهاد سلام عادل والعديد من رفاقه رغم هول الخسارة وفداحتها، إلا أنه رفع معنويات الجماهير عالياً، وأدى إلى إعادة الثقة من أن القادة الشامخين أكثر بكثير من المتخاذلين الذين سماهم شاعر العرب الكبير الجواهري بالغصن الناعم الذي يميلُ مع الهاصر. تحية إكبار وإجلال للذين وهبوا حياتهم لتكون جسراً للموكب العابر.

محمد حسين النجفي
7 آذار 2023
#سلام_عادل     #حسن_عوينه       #محمد_حسين_النجفي   #العراق   #محمد_حسين_ابوالعيس #8_شباط_1963     #حزب_البعث
#www.afkarhurah.com

خمس دقائق

“كما نشرت في مجلة المثقف الألكترونية في عدد 25 شباط 2023”

كنا في بداية ستينات القرن العشرين نحمل راية الأفكار التقدمية، سواء الغربية منها المتعلقة بالحرية والديمقراطية ام الشرقية متمثلة بالفكر الثوري وتحقيق العدالة الاجتماعية عن طريق بناء مجتمع على أسس اشتراكية. وكانت كل لقاءاتنا كأصدقاء تنصب على حوارات ثقافية حول التجارب العالمية، وقراءاتنا للكتّاب المشهورين. هذا يحدثنا عن ثلاثية نجيب محفوظ وذاك عن وجودية جان بول ساتر، والآخر عن كولن ولسن وكتابه “اللامنتمي” الذي أحدث ضجة كبرى بين مثقفي المجتمع الأوربي.

فاجأنا أحد أصدقائنا الذي يكبرنا سناً بحوالي ثلاث او أربع سنوات، من انه سوف يتزوج قريباً. وجه الينا الدعوة باعتبارنا اصدقاءه الشخصيين. وجاء يوم العرس وكانت الجلسة في بيتهم. البيت متواضع وفي محلة شعبية، وطبيعة المجتمع والجوار ريفية عشائرية، وان كانت من ضواحي مدينة بغداد. جهز غرفة الضيوف لتكون لنا فقط، وأعد لنا المشروبات الكحولية والمزة المرافقة لها. بدأنا نشرب فرحين مع العريس، والبيت حولنا في حالة من الفوضى والضجيج. المئات من الشباب يدخلون ويغادرون في بيت لا تعدو مساحته أكثر من 100 متر مربع، وهو من البيوت الأولى التي وزعها الزعيم عبد الكريم قاسم في اعوام 1961/1962 على ساكني الصرائف في مدينة بغداد. معظم الحاضرين من نفس المنطقة السكنية او ربما من نفس العشيرة، فيما عدانا نحن سكنة الكرادة الشرقية التي كانت في ذلك الوقت تعتبر من المناطق الأرستقراطية.   

جاءت اللحظة الحاسمة بشكل مفاجئ. لحظة زفة العريس لعروسه التي لم تتعدَ خروجه من غرفة الضيوف ونحن معه الى غرفة النوم أو غرفة ليلة الدخلة المجاورة لها. مشينا معه وخلفه، وفعلنا ما هو دارج ومعتادٌ عليه ان يقوم به أصدقاء العريس ونحن نزفه الى القفص الذهبي. دخل الغرفة وسط الهلاهل والهتاف: “شايف خير ومستاهلها”. لم نرَ العروس لأنها كانت في الغرفة بانتظار العريس في تلك الليلة المباركة. الليلة التي تحلم بها كل فتاة. الليلة التي ستمارس بها الحب والمحبة لأول مرة، لتبدأ حياة خصبة بالأفراح والعشرة الطيبة.  

تصورنا ان الحفلة قد انتهت حينما دخل العريس الغرفة، وعليه كان لزاماً علينا ان نهمّ بمغادرة الدار كي ينعم العروسين بالخصوصية المطلوبة في ليلة العرس. ولكن قبل ان نخرج من باب الدار فاجئنا العريس بالخروج من غرفة الزوجية، ملوحاً بيده منديل ابيض ملطخ بالدماء، رافعاً رأسه عالياً بكل فخر واعتزاز. بدأت الهلاهل والأهازيج تصدح عالياً، وبدأ إطلاق النار في الهواء، وبدأ الاحتفال الحقيقي.

بالنسبة لنا الاحتفال قد انتهى، لذا قررنا توديع العريس والحضور. لاحظنا في هذه الأثناء ان بعض الأشخاص ينظرون الينا بطريقة خاصة، وبنوع من الغضب، ويتشاورون فيما بينهم. لم نعطِ لذلك أهمية ولم ينتبه الجميع لذلك. لم نستطع عدم الحديث عما حصل ونحن في طريق العودة. خمس دقائق لا أكثر ولا اقل. كيف يمكن ذلك! ولماذا الاستعجال! وهل هي التقاليد! وهل هذا ما كان يتوقعه الجميع، عدانا نحن اصدقاءه المقربين!!! هكذا انتهت ليلة الدخلة بوقت زمني قياسي لم يتجاوز الخمس دقائق. لقد اخذنا الموقف على حين غرة. سمعنا بمثل هذا من قبل، ولكن في القرى والأرياف، وممارسات يقوم بها الجهلة غير المثقفين، فما بالك ان قام بها من يدعي الثقافة والتقدمية ويدافع عن حقوق المرأة ليل نهار.

التقينا بصاحبنا بعد حوالي أسبوع او أسبوعين من تلك الليلة. وتدرجنا بالحديث لنصل لما حدث في ليلة الدخلة. كانت اجابته واضحة ومباشرة. قال ان الكل ينتظر نتيجتين في تلك الليلة: من أني رجل، ومن ان زوجتي باكر حينما دخلت عليها. ولكن يا صديقي هذه عادات وتقاليد نحن نستنكرها ونسعى الى ازالتها وندعو الى العلاقات الزوجية الحميمة المبنية على المحبة والتكافؤ والمساواة بين الرجل والمرأة. قال وانا أؤمن بذلك، ولكني لا أستطيع ان اتغير بمفردي. نحن ندعو ان يحصل تغيير اجتماعي شرط ان يكون جمعي وليس فردي، وإلا سيكون مظهرنا شاذاً ومستنكراً من قبل المجتمع.  

ثم أردف يقول ان هناك موضوعا آخر حصل تلك الليلة اريد ان اخبركم به. هل تعلمون ان وجودكم بيننا لم يكن مرغوباً به! وحينما تساءلنا عن السبب؟ قال لأنكم لستم من بيئتنا. مظهركم وملبسكم وانطلاقتكم كانت استفزازاً للآخرين. كذلك لاحظ الشباب ان بعض الفتيات كانوا منتبهين لوجودكم أكثر من انتباههم على لشباب العشيرة. لذلك لم يتحملوا وجودكم بيننا، لدرجة قرر بعضهم ان يلحقوا بكم ويقتلوكم او على الأقل يعتدوا عليكم ضرباً. ماذا تقول يا صاحبنا! صدقوني لولا توسلي بهم في تلك الليلة لحدث ما حدث.
24 شباط 2023
#عادات_وتقاليد           #ليلة_الدخلة         #ليلة_الزواج      #محمد_حسين_النجفي         #موقع_افكار_حرة
#www.afkarhurah.com

الرحلة الأخيرة

تراكمت مجموعة عوامل معقدة، اضطرتني لاتخاذ قرار مصيري، وهو السفر من وطني العراق بنية اللا عودة، مالم تتغير تلك الظروف بشكل جذري، والتي كنت اعلم انها من سابع المستحيلات. وعليه قررتُ السفر الى لندن، حيث يقيم خالي وصديقي الحاج كريم رحمه الله، وأخي سعد الذي كان يدرس في احدى الكليات، لعدم حصوله على قبول في الجامعات العراقية.

أصبح هذا القرار مُستعجلاً ومُلحاً، بعد ان قام صدام حسين بإحكام قبضته على السلطة أثناء فترة نيابته للرئيس أحمد حسن البكر، واستولى على الحُكم بشكل نهائي في 16 تموز 1979، حيث أرغَم البكر على الاستقالة، ليصبح رئيساً للجمهورية العراقية وقائداً لمجلس قيادة الثورة والقائد العام للقوات المسلحة. وأصبح قرار السفر أكثر الحاحاً بعد ما سُميّ بمجزرة الرفاق في قاعة الخلد يوم 22 تموز 1979، بعد ستة أيام فقط على استيلاء صدام على السلطة.  حصلت على اذن السفر من الجامعة المستنصرية باعتبارنا في العطلة الصيفية، وذهبت الى دائرة السفر، والسفارة البريطانية لتأشيرة الفيزا، وحجزت في اول رحلة الى لندن، صباح يوم الثلاثاء المصادف 31 تموز 1979 على الخطوط الجوية العراقية ومعي اختي عالية.

لم يكن في المطار سوى طائرتنا المغادرة الى لندن في ذلك الصباح. تقدمت اختي واعطت جوازها الى مفوض السفر الذي منحها سمة الخروج بسهولة. اعطيته جوازي وكتاب الجامعة المستنصرية بالموافقة على إجازة سفر خارج العراق. دقق مفوض السفر كثيراً في جوازي وفي سجل الأسماء الممنوعة، واخيراً وجد ضالته. لم يكن جوازي موقعاً من قبل ضابط السفر في مديرية السفر والجنسية.

 رمى المفوض الجواز باتجاهي، وهو نافشٌ ريشه بتحقيق انتصار عظيم، وقال لا تستطيع السفر. سألته عن السبب، أخبرني بأن جوازي غير مكتمل لخلوه من توقيع ضابط السفر. اجبته بأن هذا ليس خطئً مني، وارجو من أحد الضباط هنا ان يوقعه، لأني يجب ان اسافر. رفع المفوض نبرة صوته عليّ، مما اضطرني ان أعلي صوتي، وحدثت مشاجرة جاء على أثرها ضابط سفر برتبة ثلاثة نجوم على ما أتذكر. صاح ما هذه الضوضاء! واتجه نحوي وسألني ما المشكلة؟ اجبته، وقلت له ان اختي لا يمكن ان تسافر بمفردها، وانا مدرس جامعي في عطلة صيفية، إذا لم ارحل اليوم فسوف لن أستطيع بعد ذلك، لأن من الصعب الحصول على تذاكر الى لندن بهذه السهولة. وطلبت منه ان يوقع جوازي باعتباره ضابط سفر.

طلب مني مرارا وتكرارا ان اخفض صوتي، وان اركن الى الهدوء. رغم تشنج اعصابي، ميزتُ ان هذا الضابط ليس كغيره. انه يتعامل معي بكل احترام وإنسانية، ويخاطبني بكلمة “أستاذ”. سألته إذا كان بإمكانه ان يوقع جوازي باعتباره ضابط جوازات، اجابني بالنفي، إلا انه قال لي اطمئن، سوف نجد لك حلاً. نادى لأحد افراد الشرطة، واعطاه جوازي، وطلب منه ان يقف بباب المدير العام لجوازات المطار، والدخول عليه حال وصوله، وطلب توقيع الجواز من قبله. ذهب الشرطي وطلب الضابط الشهم من اختي ان تكف عن البكاء وان كل شيء سيكون على ما يرام.

جلستُ منتظراً ولست مطمئنا من نتيجة الأمر رغم ان الضابط كان يتكلم بمنتهى الثقة والدراية. جاء نداء الخطوط الجوية يطلب من المسافرين الى لندن ان يتفضلوا بالصعود الى الطائرة. فرغت قاعة الترانزيت ولم يبقى فيها سوى اختي، وانا على الجانب الآخر بانتظار الفرج. أصبحت القاعتين موحشتين، وترك مفوضي الجوازات مقاعدهم خلف العوازل الزجاجية. أعطت الخطوط الجوية إنذاراً للمسافرين للالتحاق فوراً. أعقب ذلك ان أعطت المضيفة “النداء الأخير”ً.

لم أستطع ان احافظ على هدوئي. وقفت وذهبت الى الضابط، وقلت له ان الطائرة ستقلع، وانا واختي مازلنا هنا. نظر اليّ نظرة مليئة بعمق لم افهمه في حينه، وقال لي: أستاذ محمد هذه الطائرة سوف لن تطير إلا وانتَ واختكَ فيها. أذهلني جوابه، لم افهمه، ربما لا زلت لهذا اليوم لا افهمه. وطلب مني بكل احترام، ان اجلس وارتاح. صدق قوله، لم تمضي سوى دقائق بعد ذلك حتى عاد الشرطي المُرسل ومعه جوازي مُوقع من قبل المدير العام لجوازات مطار بغداد الدولي (كان مازال مطار بغداد قبل ان يرثه صدام ويطلق عليه اسمه).

أخذ الضابط الجواز بيديه وفحصه كلياً، وإعطاه للمفوض بنفسه، وقال له بطريقة جدية: دقق ما شئت واختم جواز الأستاذ. وفعلاً دقق المفوض في الجواز كثيراً وهو يمسح شاربيه ذات الدلالات، وكأنه يذكرنا بأنه من الزلم أهل الشوارب وليس مفوضاً عادياً. لم يجد بُداً إلا ان يختمه ويعطيني الجواز. ذهبت الى الضابط الشهم الذي أدى أكثر من واجبه في تسهيل مهمة سفري، وقلت له والله ما اعرف كيف اشكرك. نظر اليّ تلك النظرة الثاقبة مرة أخرى، وقال لي ما لم انساه بالحرف الواحد:

“لا اخي، اشكرْ الله. الله يريدك أن تسافر”

20 شباط 2023
#محمد_حسين_النجفي         #أفكار_حرة     #العراق                 #www.afkarhurah.com

You have successfully subscribed to the newsletter

There was an error while trying to send your request. Please try again.

أفكار حُـرة : رئيس التحرير محمد حسين النجفي will use the information you provide on this form to be in touch with you and to provide updates and marketing.