شُباك المهانة

تسفير التبعية

من المعتاد ان نزور مديرية جوازات السفر كلما نوينا ان نسافر خارج العراق. وكل مرة علينا ان نثبت للمرة المليون  صدق عراقيتنا، بإشهار الوثائق العديدة مثل الجنسية وشهادة الجنسية ودفتر الخدمة العسكرية وكتاب موافقة من الدائرة إن كان الشخص موظفاً. وأعتقد اضيف الى ذلك هوية التموين وشهادة سكن وشهادة صحة إثبات وغير ذلك من الوثائق، إضافة الى الرسوم والرشاوي التي اصبح امراً متعارف عليه هذه الأيام.

ذهبت صيف عام 1977 لاستحصال الموافقة على السفر الى المملكة المتحدة. كانت البداية عند العرضحالجي لملء استمارة الطلب والطابع المالي. وقفت أمام طابور شباك تقديم الطلبات، وكان أمامي حوالي عشرين شخصاً. وقبل ان اصل شباك استلام المعاملات تقدمت سيدة ومعها ثلاثة أطفال تتراوح أعمارهم ما بين الخمس والعشر سنوات. لسوء حظي كنت قريباً من الشباك، وسمعت الحوار بينها وبين المفوض الذي لا يزيد عمره على الخامسة والعشرين عاماً والسيدة التي ممكن ان يصل عمرها الى الخامسة والثلاثين عاماً. سألها عن سبب تقديم الطلب للحصول على موافقة خاصة للسفر الى إيران. أجابته بأنها سمعت بصدور تعليمات تُعطى بموجبها موافقات سفر  خاصة الى إيران، للعراقيين الذين سُفر ذويهم لأنهم إيرانيين، وان أبو اولادي قد سُفر. قال لها ولماذا تريدين زيارته، “موزين خلصناج منه “. أجابته ورقبتها منحنية جهة اليسار بكل خضوع ومذلة: “والله سيدي هؤلاء الأطفال أكلوا أفّادي، ويبجون ليل نهار يريدون يشوفون أبوهم”. “وإنتي ما لكيتي غير واحد عجمي تتزوجيه؟” اجابته متلعثمةً: “والله يا يمه ما جنت ادري، يحجي عربي مثلنا، وجيران وربينا سوييه“.

بدأت أرى ملامح المفوض المخلص الذي كان في منتهى الأناقة والكبرياء، حالق الذقن فارش الشاربين لتصل ملتقى الشفتين، يمشطهما بإبهامه وسبابته من يده اليسرى. لم يسعفها كلامها ولا توسلاتها ولا اطفالها في حفظ كرامتها. اجابها الفارس المقدام متقنصاً شخصية الحجاج بن يوسف الثقفي في خطبته بمسجد الكوفة:  “قحط عراقيين، رحتى تزوجتي هذا العجمي الكلب، هَيْ أم الكذا …. وأم الكذا ……. وبنت الـكذا …….. ولو ما إنتِ كذا ……..  وكان سيلاً من الشتائم والألفاظ البذيئة النابية التي لا نسمعها حتى في الشوارع من الزعران.

لم تعد ركبتيّ تحملني، وأنا اسمع وأرى هذا المسعور يهين مواطنة عراقية، أكبر منه بعشر سنوات أمام العالم وأمام اطفالها الثلاث. والعجيب كل العجب، كان خلفه ضباط برتب عالية،  مستأنسين على حوار غير متكافئ.  نعم، لم تتحملني ركبتيّ على الوقوف، فتركت الطابور واستدرت ولعنت السفر وأبو السفر، ولعنت عدم قدرتي على الوقوف بوجه صعلوك قرر في زمن اللئام ان يكون له شأنٌ ومكان، ويتحكم بمصير الجن والجان.

وكي أوضح الموضوع أكثر، فإن هذا الحادث حصل قبل جريمة ما يعرف بـ “التسفير الجماعي للتبعية” عام 1980 التي شملت ما يقارب المليون عراقي من مختلف المحافظات، وخاصة بغداد والنجف وكربلاء والبصرة والكوت وميسان. حيث سبق هذه الحملة حملات صغيرة ابتدأت منذ عام 1963 لتسفير من يحملون أوراق إيرانية، ويسكنون قانونياً بإقامة عمل في العراق. أي انها كانت منذ زمن الشاه، وقبل تأسيس الجمهورية الإسلامية. من ذلك نستنتج ان هناك فئة من الشعب العراقي، تعاني من عقدة إيران والإيرانيين، وكل ما له صلة من قريب او بعيد. طبعاً ان تختلف او حتى ان تكره حكومة او سياسة بلد ما مسألة ربما تكون مشروعة، اما انك تكره البلد كله او الشعب كله او الطائفة كلها، فهذا ما يسمى بالتعصب الشوفيني وهو غير إسلامي وغير قانوني وغير أخلاقي وغير انساني.

#التبعية_الإيرانية        #التعصب     #تسفير_التبعية        #محمد_حسين_النجفي        #www.afkarhurah.com
#mhalnajafi.org
أنظر أيضاً:
تبعات التبعية: قصة فتاة كربلائية

محمد حسين النجفي
رئيس تحرير موقع أفكار حُرة
www.afkarhurah.com

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

You have successfully subscribed to the newsletter

There was an error while trying to send your request. Please try again.

أفكار حُـرة : رئيس التحرير محمد حسين النجفي will use the information you provide on this form to be in touch with you and to provide updates and marketing.