إنت عمري

تمر هذه الأيام الذكرى التاسعة والخمسون لولادة اغنية “انت عمري”. الأغنية التي ترقبها الملايين من المستمعين العرب من الخليج الى المحيط. انها الأغنية التي اشترك ثلاث عمالقة في تكوينها، الشاعر أحمد شفيق كامل وموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب وكوكب الشرق أم كلثوم. سُميّ هذا اللقاء بين العمالقة بـ “لقاء السُحاب”، والذي غنته ام كلثوم في يوم 6 شباط عام 1964. لم يكن هذا اللقاء عفوياً، وانما حثت عليه القيادة السياسية المصرية بإصرار، متمثلة بشخص الرئيس جمال عبد الناصر.

ام كلثوم انت عمري

ولقد التصقت في ذهني ذاكرت هذه الأغنية بأحداث تلك الحقبة من الزمان. فبعد تسعة أشهر مظلمة ومرعبة عشناها بعد حركة 8 شباط 1963، حدثت الحركة “التصحيحية” يوم 18 تشرين ثاني من عام 1963 التي قام بها عبد السلام عارف وأخيه، بإزاحة حزب البعث من السلطة مستنداً على حجم وجسامة الجرائم التي اقترفها الحرس القومي وتكوينهم لدولة داخل الدولة. بالنسبة لي ولمعظم الشعب العراقي كانت حركة 18 تشرين، تمثل انفراجاً وارتياحاً كبيراً، لأنها ابعدت شبح الحرس القومي الذين سمّاهم عبد السلام عارف بـ “المنحرفون”.

بعد حوالي ثلاثة أشهر من هذا الحدث، غنت ام كلثوم اغنيتها الخالدة “انت عمري” وذلك مساء يوم الخميس السادس من شباط عام 1964، والذي صادف اليوم الثاني والعشرين من شهر رمضان العام الهجري 1383 . وفي هذا الجو من الفرح والابتهاج، قررنا نحن مجموعة من المراهقين السفر الى البصرة لقضاء عطلة عيد رمضان فيها. ذهبنا اربعتنا انا وابن عمتي حسن وابن خالتي ستار ورياض الطحان الى ساحة الوثبة واسقلينا باص “دك النجف”. وقبل الصعود الى السيارة مزح رياض مع السائق، وقال له: عمي ترى هذا “بادغر” اكيد هسّه تصير مشكلة من وراه، قالها وهو يشير بيده باتجاهي. اجبته مازحاً: والله عمي العكس هو الصحيح، آني لو بمكانك ما اصعده بالباص.

كانت حوالي الساعة الخامسة مساءً، حينما تحرك بنا الباص. جلسنا انا ورياض على مقعد وخلفنا جلس حسن وستار. طبعاً الطريق كله نسمع الأغنية الخالدة “انت عمري”، لأنها كانت تذاع في كل المحطات العربية. وبعد مرور أكثر من ساعة ونحن في نشوة الأغنية التي رفعتنا الى السحاب، وبعد ان اجتازينا منطقة الشيخ سعد، سمعنا دوي انفجار لأحدى الاطارات. توقف السائق طرف الطريق كي يبدل الإطار. وليس من قبيل الصدفة ان يكون الإطار الذي انفجر هو احد الأطارات الخلفية المزدزجة، وموقعه بالضبط تحت مقعدي. نظرت الى رياض نظرة تقول له: هل هذه مزحة ام امنية؟ لم يظهر السائق رد فعل عنيف إلا ان لسان حاله كان يقول: استرها علينا يا رب.

تحركنا مرة ثانية وراح الشر والحمد لله. وقبل وصولنا الى منطقة علي الشرجي، وكنا نصف نائمين حدث انفجار آخر ايقظ النائمين وافزع الصاحين. ولم تكن مفاجئة للسائق او لنا، حيث ان الإطار الذي انفجر هو تؤم الأطار الذي انفجر قبله، وموقعه تحت مقعد رياض. نزل الجميع من السيارة وكان البرد قارصاً ونحن في منطقة غير مسكونة وفي حدود الساعة الثامنة مساءً. نظر السائق الينا نظرة غضب لا مزاح فيها. وبما انها الإطار الداخلي فإن تبديله أصعب ويستغرق وقت اطول. وبدأ الركاب يتحدثون مع بعضهم خاصة، وكان حديث الساعة عن افعال الحرس القومي. حدثنا أحد الركاب وهو رئيس عرفاء في الشرط: انه في احدى السفرات من بغداد الى البصرة، اوقفتنا نقطة تفتيش تابعة للحرس القومي، سألني الحرس عن هويتي، وقلت له وانا اشير الى الخيوط السوداء التي على ساعدي، “جا شنهي هاي بوية خيوط كمنجة!!!”

تحركنا للمرة الثالثة، وقد استنفذ السائق كل الإطارات الاحتياطية. وقلنا يا لها من صدفة لعينة، مزحنا وإذا بالمزاح يتحول الى حقيقة. وحدث ما لا يمكن ان يحدث حتى في الأفلام، انفجر الإطار الاحتياط المبدل الذي موقعه تحت مقعدي بالضبط. هذه المرة خفنا من ردة فعل السائق ومساعده. قالها السائق بصراحة: اخوان ما عندي اطار احتياط. حاولوا توصلون الى مدينة العمارة بالركوب مع السيارات العابرة. توقف بك اب ليسأل ما الذي حدث. طلبنا الصعود معه الى مدينة العمارة. اصعدوا بالخلف!!! صعدنا وامرنا لله. البرد قارص، والهواء يلطم وجوهنا كأنه يقصد الأذى. كان هناك جادر في ارضية البك اب. وضعناه على رؤوسنا وكل منا لديه راديو ترانزستر، وضعه على اذنه ليستمع الى انت عمري، ويسرح مع السحاب، ولم نفق إلا ونحن امام فندق في مدينة العمارة.

أستيقضنا متعبين من البرد الذي نخر عِظامنا ونحن في حوض البك أب سابحين في احلام اغنية انت عمري. اكملنا سفرنا الى مدينة البصرة وذهبنا الى سوق العشار وهناك عثرنا على فندق مناسب لأربعتنا. وصلنا قبل افطار آخر يوم من رمضان. كان صاحب الفندق رجل وقور يلبس الملابس التقليدية، صاية وعقال. جلب انتباهي ان هناك صورة وسط الصالة خلف مكتب التسجيل للسيد محسن الحكيم. كانت سُفرة الإفطار جاهزة بانتظار موعد الأذان. أُعطينا غرفة ذات اربعة اسرة، والحمام خارج الغرفة ومشترك. لقد جئنا الى البصرة كي نحتفل ونخرج عن المألوف، وكي نترك ذكرى لا تُنسى ولا تنمحي من ذاكرتنا. قررنا ان نشرب الخمر لأول مرة في حياتنا. ذهب رياض وحسن الى السوق وابتاعوا لنا سكائر روثمان ونبيذ من صناعة سهل نينوى رديء النوعية، لا بل رديء جداً. اما المزة، فكانت تفاح وبرتقال. لا أدري من كتب هذه الوصفة!! ولكن هذا ما كان. المهم جاء النبيذ وصدح صوت الست، وبدأنا نشرب ونشرب ونحن جالسين كل على فراشه. وسبحنا في فضاء مليء بالأفراح، عيد رمضان، التخلص من الحرس القومي، انت عمري، واردئ نبيذ في السوق مع أكثر المزات الغير مناسبة اطلاقاً.

ونحن في تلك النشوة وإذا بأحدنا بدأ في “الاسترجاع” على الزولية التي تتوسط الغرفة. بدأ الكل يضحك عليه، الى ان تبعه الثاني والثالث. اما انا فبدأ رأسي يدور. توقفت عن الأكل والشرب والكلام. بدأت أفكر ان خارج هذه الغرفة رجل متدين، ونحن زمرة مراهقين لم نحسن التصرف، ووووو واستيقظت صباحاً على رائحة عطور الاسترجاع وبحيرة ذات منظر مقزز من صنعنا. ما العمل؟ استعدينا للخروج من الغرفة بشكل جماعي، آملين ان لا يرانا الحجي. ذهبت الى فراش الفندق، واعطيته ربع دينار، وقلت له: الله يخليك عمي، استر علينا، نظف الغرفة ولا تخلي الحجي يعرف بالموضوع.

رجعنا مساءً وكانت الغرفة نظيفة، وقررنا ان لا نقترب لهذا المنكر هنا مرة اخرى. ولكن ما الذي سنقوم به هذه الليلة كي يسجلها التاريخ لنا. اقترح أحدنا ان نذهب الى ملهى ليلي. كيف واعمارنا ما بين الخامسة عشر والسابعة عشر! قال رياض لا عليكم نذهب ونرى. وفعلاً كانت مغامرة الليلة الثانية الذهاب الى الملهى. قطعنا تذاكر للدخول للملهى، ودخلنا دون اشكال. وإذا بنا نرى أنفسنا وسط العديد من النساء الغانيات الجميلات، نستنشق عطور وعطور وعطور. ملابس زاهية تغطي او لا تغطي اجساد شبه عارية. احولت اعيننا من التحدق على هذه وعلى تلك، وعلى تلك النهود وذاك الزند والعيون والجفون. اننا في بحر مسحور ومسكون بملائكة الليل في جو مبهج ومثير، لا بل مثير جداً. اصابنا دوار مثل دوار النبيذ الرديء، إلا انه دوار من الأندهاش. دوار من دوران العيون دون توقف ودون ان نعلم ما الذي يحدث حولنا. جلسنا وبدأ البرنامج براقصات على المسرح، وموسيقى وضجيج، ودخان وعطور نسائية ودخان، ودوران ودوران.

يوم عودتنا كان هادئ وجميل. تمشينا على شط العشار. ركبنا أحد الزوارق في شط العرب، وذهبنا الى مطعم في سوق العشار لنأكل السمك الزبيدي على التمن. يا لها من اكلة مازال طعمها في فمنا رغم تقادم السنين. ذهبنا عصراً الى كراج بغداد وركبنا الباص. حذرت رياض ان لا يمزح هذه المرة، وفعلاً التزم السكون. وكان من المفروض ان نصل الى بغداد بحدود منتصف الليل. إلا ان القدر قرر ان يعيد نفسه. انفجر الإطار الأول ثم الثاني. ولم يكن لدى السائق سوى إطار احتياطي واحد. لذا قرر ان يسير بسرعة خمسة كيلومتر في الساعة، وبذلك وصلنا بغداد فجراً في الساعة الخامسة صباحاً سالمين غانمين. كانت سفرة من العمر تمتعنا بها وبسماع الأغنية التي لا زلنا نسمعها ليومنا هذا: “انت عمري”.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

You have successfully subscribed to the newsletter

There was an error while trying to send your request. Please try again.

أفكار حُـرة : رئيس التحرير محمد حسين النجفي will use the information you provide on this form to be in touch with you and to provide updates and marketing.