كما نُشرت في صحيفة طريق الشعب العدد 51 السنة 87 الأثنين 7 شباط 2022
“ردة شباط عام 1963 مسؤولة بشكل مباشر عن تردي المستوى الثقافي والعلمي في العراق لأنها حاربت المثقفين المخلصين”
بموجب الكتاب السري والمستعجل الصادر من وزارة الداخلية بتاريخ 26/10/1963، المرقم ق. س. 11660، تم سحب (إسقاط) الجنسية العراقية عن إثني عشر مثقفاً عراقياً. صدر هذا الأمر الجائر غير القانوني في تلك الفترة التي تعتبر الأكثر ظلاماً ودمويةً في تاريخ العراق الحديث. إنها الفترة التي ابتدأت في 8 شباط 1963 وإنتهت في 18 تشرين الثاني لنفس السنة. القرار يقول سحب الجنسية العراقية، بموجب قانون الجنسية العراقية المرقم (43) لسنة 1963. أي ان القانون عُدل في تلك السنة، كي تستطيع السلطة السلطة الغاشمة من أعطاء الجنسية لكائن من كان، ومن القدرة على سحبها من أعرق العراقيين إنتماءاً. الجنسية العراقية او اي جنسية على وجه الأرض حق وليس إكتساب، لمن يولد من أحد الأبوين في أي وطن. وبالتالي لا يوجد من يحق له سحب الجنسية.
نرجع الى السؤآل الأصلي من هم هؤلاء الأثني عشر شخصاً، ولماذا أسقطت عنهم الجنسية؟ إنهم مجموعة من المثقفين المناضلين النشطين الذين ينتمون للأفكار اليسارية وقسم منهم قياديون في الحزب الشيوعي العراقي، لم تستطع سلطة البعث أعتقالهم كي تعذبهم وتسجنهم أو تقتلهم، لأنهم كانوا وقت الأنقلاب خارج الوطن، أو إستطاعوا الهروب خارج الوطن. إذن كيف تقتلهم هذه السلطة دون ان تعتقلهم؟ وجدوا الحل: بأسقاط جنسياتهم العراقية، وظنوا بذلك أن هؤلاء المناضلين سوف يتخلون عن نشاطهم السياسي وولائهم للوطن.
هذه الكوكبة تضم اول أمرأة تصبح وزيرة في العراق والوطن العربي، وتضم شاعر العرب الأكبر، شاعر دجلة الخير، وتضم كاتب أجمل مسرحية عراقية “النخلة والجيران” والذي ترجم 80 كتاباً من اللغة الأنكليزية والروسية للعربية. تضم من عرفنا على ثورة الزنج والدولة الحمدانية. وتشمل شاعراً من رواد الشعر الحر والذي ترجم أعمال الشاعر التركي الخالد ناظم حكمت. وتتضمن خيرة الأدباء ورواد الصحافة والفن التشكيلي. أكثر من كل هذا وذاك تتضمن إثني عشر مناضلاً محباً مخلصاً لوطنه، مهما كانت توجهاتهم السياسية سواء أتفقنا معها أم لا. أضع بين أيديكم نسخة الأمر
الأداري الجائر، وموجز عن هؤلاء المناضلين الذين شملهم القرار:
الخلاصة:
كيف يمكن لأي سلطة مهما كانت غاشمة ان تُبعد رواداً للثقافة في بلدها. إنها مجموعة تتودد الدول الأخرى لأحتضانهم والأستفادة من نتاجهم الفكري والتعليمي. هؤلاء عينة لما حدث في عام 1963 بعد ردة 8 شباط الدموية. حيث تمّ إعتقال الآلآف من الطلبة والمعلمين والأساتذة الجامعيين والعمال الناشطين، ورميهم بالسجون وتعذيبهم وقتل العديد منهم. ردة شباط عام 1963 مسؤولة بشكل مباشر عن تردي المستوى الثقافي والعلمي في العراق لأنها حاربت المثقفين المخلصين بشتى الوسائل ومنها إسقاط الجنسية عن الذين لم تستطع ان تضع ايديها على أعناقهم. جرائم لا زالت بلا عقاب.
محمد حسين النجفي
www.afkarhurah.com
شباط 2022
كما نُشرت في طريق الشعب العدد (51) 7 شباط 2022، الصفحة الثامنة
“ان مصرف لبنان المركزي ساهم في تحطيم الأقتصاد اللبناني، لأجل عيون أمراء دولة أخرى”
كانت بيروت الخمسينات والستينات وحتى منتصف السبعينات، المصيف والمنتجع والمشفى والمركز التجاري الحر والوحيد في الشرق الأوسط. بيروت مدينة الفن والأقلام والصحافة الحرة. بيروت الروشة وشارع الحمرا والجامعة الأمريكية، مدينة فيروز والرحابنة ووديع الصافي ونصر شمس الدين والمسرح الغنائي. مدينة المطابع والترجمة والتوزيع الى مكتبات الوطن العربي. كانت المركز الوحيد لتداول جميع العملات المحلية والعملات الصعبة. كانت مأوى الهاربين من السياسين والأدباء المضطهدين خاصة من العراق. واليوم بيروت ولبنان لا يجدون من يجمع القمامة من شوارعهم الجميلة، ولا يجدون سواح في مصايفهم ذات المناخ العذب والفاكهة الطازجة والحفلات لأشهر المطربين. أما الطعام والمازات وطريقة توضيب الموائد، فإن موائد لبنان أكاديمية بكل معنى الكلمة لها. فما الذي حدث؟ هل أصيبت بالعين؟ نعم صابوها بالعين الحسودة، العين الشريرة، العين التي لا تتمنى الخير للغير.
كان العراقيون وخاصة التجار والطبقة المتوسطة يفضلون مصايف الزبداني في سوريا ومصايف لبنان مثل عاليه وشتورا وزحلة وخاصة “بحمدون”. أعرف ذلك لأنها المصيف الذي كان يذهب اليه والدي ومجموعة التجار في سوق الشورجة. كان يستورد عن طريق قومسيونجية بيروت الذين يثق بهم كثيراً، بضائع من أوربا، وكان الشحن يأتي إما عن طريق القطار عبر إستطنبول أوشحن عن طريق ميناء بيروت ثم تنقله شاحنات برية عن طريق سوريا. بيروت كانت القلب التجاري النابض في الشرق الأوسط. لم يكن هناك قبرص أو عَمان أو “دبي”.
طيران الشرق الأوسط اللبنانية، كانت شبكة الطيران الأعم والأشمل للأتصال بأوربا. فكنا حينما نسافر الى لندن او باريس يجب ان نبدل الطائرة في بيروت وذلك لعدم وجود خطوط مباشرة بين بغداد وأوربا. سافرت مرة الى باريس عن طريق بيروت. بقيت في بيروت ثلاث او أو أربعة أيام، ثم ذهبت الى باريس. وعلى الرغم من ان باريس مضرب الأمثال في الأطعمة والاتكيت والسرفس، إلا انها لم تقدم لي نصف ما قدمته بيروت. وقررت ان اعود سريعاً الى تلك المدينة العربية ذات النكهة الفينيقية والأناقة الاوربية.
وبعد ان بدأ الدولار النفطي يدخل في جيوب أبناء الخليج، نقلوا سياحتهم من مدينة البصرة الى بيروت والقاهرة. وبطبيعة الحال فإنهم بمالهم الذي لا حدود له، أصبحوا السواح من الدرجة الأولى متخطين العراقيين الذي فتحت امامهم المدن الأوربية وخاصة لندن. كل هذا ولم يكن لأسطنبول وجود سياحي او اقتصادي للعراقيين او الخليجيين بعد.
دخل احد المصطافين والمودعين الكبار لأحد فروع بنك إنترا عام 1966، ولم يتعرف المصرفي سيئ الحظ عليه، وبالتالي لم يعامله المعاملة الخاصة التي تليق به. غضب هذا المستثمر السعودي لكرامته. سحب جميع ودائعه، ونخى ابناء جلدته ان يقوموا بالمثل، وسرت الشائعات على ان أكبر بنك لبناني عالمي سينهار. فتدافع الجميع على سحب ودائعهم. كان ذلك بنك إنترا الذي اسسه المصرفي الفلسطيني يوسف بيدس عام 1951، ليصبح بنك لبنان الأول خلال سنوات، ولتبدأ عيون الحُساد تصيبه. المصرف المركزي اللبناني لم يسعف إنترا كما هو مفروض عليه، وتركه يلفض انفاسه، وقد قيل لأن المملكة السعودية ضغطت على لبنان كي ينتقموا من الفلسطيني الناجح، الذي أهان شيخاً سعودياً. وهذا ما أخبرنا به أستاذنا في الجامعة الدكتور فوزي القيسي الذي كان محافظ البنك المركزي العراقي ثُم وزيراً للمالية في تلك السنوات، الذي درسنا مادة “النقود والبنوك”. وكان تبريره، لأن بنك أنترا لم يكن في حالة خسارة وإنما كان لديه أزمة سيولة بسبب السحوبات المفتعلة. وهكذا نرى ان مصرف لبنان المركزي ساهم في تحطيم الأقتصاد اللبناني، لأجل عيون أمراء دولة أخرى. وقد قيل ايضاً ان إفلاس بنك انترا عام 1966 كان بداية للتدهور الأقتصادي والسياسي والأمني للبنان، وقد مهد ذلك للحرب الأهلية التي حطمت التلاحم الوطني وروجت للطائفية المقيته.
واليوم لبنان يسعى بكل جهده كي يرضي السعودية والخليجيين ويتوسل لأرضائهم على حساب كرامة وإستقلال لبنان سياسياً وإقتصادياً، غير عابئاً بالدروس الماضية والمؤآمرات التي حيكت على لبنان وقلبها النابض بيروت كي تنهض بدلاً عنها وعلى رُكامها، مدن لم تكن في الحسبان، مثل المنامة ودبي وأبو ظبي والرياض. الدرس الذي يجب ان تتعلمه كل الشعوب والحكومات، هو ان يكون أقتصادها متكامل وطنياً يعتمد على مقومات داخلية، قبل ان ينفتح عولمياً.
محمد حسين النجفي
رئيس تحرير موقع أفكار حُرة
www.afkarhurah.com
#بيروت #لبنان #بنك_انترا #فوزي_القيسي #يوسف_بيدس
نشرت في موقع الحوار المتمدن العدد 7152 بتاريخ 2/2/2022
بيروت: مازلت الأحلى في عيوننا
“لاحظت ان هناك إجابة رقمية دون عمليات حسابية تسبقها؟ كان واضحاً انها نقلت الرقم النهائي من زميل مجاور.
منحتها صفر، ووصمت ورقتها بأنها غش”
مقالة نشرت في صحيفة المثقف الألكترونية، العدد: 5629 بتاريخ 2/2/2022 أفتح الرابط أدناه، أو إقرأها في هذا الموقع:
رابط صحيفة المثقف
ما أحلى الحياة الأكاديمية، فقد كنا مجموعة من الشباب المندفعين الى اقصى درجات الأندفاع. نحاضر ونؤلف كتب وننشر أبحاث ونكتب مقالات، ونريد ان نصلح الجهاز التعليمي ونطور المناهج الدراسية، ونرفع المستوى العلمي في جامعتنا، الجامعة المستنصرية. نعم كنا مجموعة متحمسة من التدريسيين الجدد معظمنا خريجوا الدورة الأولى لماجستير أدارة الأعمال وماجستير الأقتصاد والدبلوم العالي لمراقبة الحسابات من جامعة بغداد، أذكر منهم الزملاء محمد عبد الوهاب العزاوي، حمزة الشمخي، عاملة محسن ناجي، تقي العاني، هناء أياس، مهدي صالح العاني، ماجدة العطية، أوس، فوزي العاني، شلال الجبوري، فاضل عبد الستار، فتوح العمران، وغيرهم كثيرون.
كان الكادر التدريسي في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي، ينقسم بالنصف تقريباً، نصفهم مصريون والنصف الآخر عراقيون. كان زملائنا المصريون، جادين في عملهم، مخلصين في إدائهم، يتمتعون بقدرة تدريسية جيدة، إلا انهم لا يستطيعون ضبط الصف خاصة في أداء الأمتحانات الفصلية. وكانت هذه الظاهرة مؤثرة على سلوك الطلبة وإنضباطهم، ويشكل تبايناً شاسعاً بين مراقب عراقي او مصري. وطبعاً لهم أعذارهم فإنهم يخافون المشاكسة مع الطلبة، خاصة في الدراسات المسائية حيث كان معظم الطلبة موظفين في أجهزة الدولة ومنهم ضباط في الجيش والشرطة، ومراتب حزبية عالية في حزب السلطة.
وكما يحدث في كل الأمتحانات فإن بعض الطلبة يغشون او يحاولون الغش حتى وإن كانوا في سن متقدم. أجريت امتحان للفصل الثاني وهو من عشر درجات فقط لطلبة الصف الثاني مسائي لمادة أدارة التسويق، وكان احد الأسئلة يتطلب عمليات حسابية لتقرير سعر البيع لأحد السلع. لاحظتُ أن الآنسة (س) تتطلع كثيراً يميناً وشمالاً، لتحصل على مساعدة (غش). نبهتها عدة مرات، إلا انها كانت مستميتةً، وغير مبالية. وحينما اعطتني ورقتها الأمتحانية، لاحظت ان هناك إجابة رقمية دون عمليات حسابية تسبقها؟ راجعت الموضوع عند التصحيح، وكان واضحاً انها نقلت الرقم النهائي من زميل مجاور. منحتها صفر من عشرة، ووصمت ورقتها بأنها غش. طبعاً هذا لا يعني انها لا تستطيع النجاح. كل ما عليها ان تجمع خمسين من أصل تسعين درجة المتبقة وتنجح.
بعد يومين فقط بعث في طلبي معاون العميد لشؤون الطلبة الزميل شلال الجبوري، وسألني ما هي قصة (س)؟ حكيتها له كما هي. طلب مني أن اعيد النظر في التصليح، أو اعادة امتحانها، او …… كلها حلول ليست اكاديمية، وإنما مساومات أسترضائية. رفضت إعادة النظر، او أعادة الأمتحان لأن العذر لم يكن غياب بسبب المرض او السفر او أيفاد أو …… عند ذاك سحب شلال من درج مكتبه كتاب من “القيادة القومية: قسم شؤون الطلبة العرب” مُعنون الى العميد، يطلب فيه التدخل لمصلحة الطالبة “العربية س” ومحاسبة الأستاذ!!!!!!!!
والآن ما هو رأيك؟ قالها أستاذ شلال، وكأنه يقول لي: نحن لا حول ولا قوّة لنا. والحق يقال لو كان الامر بيده لأحالها الى لجنة أنضباطية، لأنه من التدريسيين الجديين جداً الذين لا يشجعون أي شكل من أشكال الإنفلات. ما كان مني سوى ان اقول له: ما الذي تريدني ان افعله؟ قالها على مضض، ان اغض النظر ونتجنب عواقب القيادة القومية. قلت له: عزيزي أبو رُقية: أنا لن اغير موقفي. هذه الطالبة غشت، وغشت بتحدي، وهذا اقل عقاب. أجابني وماذا عن كتاب القيادة القومية؟ قلت انه موجه للعمادة ولك وليس لي، اذا كان بإمكانك ان تغير التصحيح غيره بنفسك. قال: يبدو أنها على صلة بأعلى جهة في الحزب، قلت: انا لست حزبياً، أنا مدرس اكاديمي في الجامعة المستنصرية. احسست بالمُعضلة التي وقع فيها زميلي شلال، والأشكال الذي سأقع فيه من وراء تعنتي غير المناسب في مثل تلك الظروف، ولكن كان لابد من تثبيت موقف يتناسب مع القيم التي نشأتُ عليها. انتهى الحوار.
رابط ذا صلة: سيرة أستاذ جامعي: د. مهدي العاني نموذجاً
إدراكاً مني لخطورة الموضوع وتبعاته عليّ بشكل خاص، ولأدراكي من أن الأنسة (س) إحدى مدللات القيادة القومية، ذهبت في اليوم التالي الى المقر العام للأتحاد الوطني لطلبة العراق، للقاء رئيس الأتحاد وهو زميل سابق في الدراسات العليا “عبد الكريم محسن”. حينما رآني سبقني بالأعتذار، وقال لي ان المكتب الطلابي في القيادة القومية اتصلوا به حول الموضوع، وأخبرتهم من انك من افضل الأساتذة وعليهم ان لا يستمعوا للطالبة، ولكن للأسف يبدو انها تعرف قياديين على مستوى عالي جداً. حدثته بالذي جرى مع شلال، ووعدني انه سوف لن يُلحقني أو شلال أي ضرر من هذا الموضوع. واني لمتأكد، من ان شلال وعبد الكريم بذلوا جهداً كبيراً كي يجنبونني نتائج مخيفة. وليس من باب المبالغة إن قٌلت أنني بقيت في حالة خوف ورعب لمدة طويلة، وإن كنت لم أندم على موقفي إطلاقاً.
السؤآل الذي يخطر في بالي، أنه في ايام “الزمن الجميل” كان هناك قيادة قومية واحدة ومنظمة طلابية واحدة، وحزب حاكم واحد، ومع ذلك كان هناك بعض التأثير السلبي على العملية التعليمية، السؤآل: ما الذي يحدث هذه الأيام في جامعاتنا، وهناك اكثر من كيان سياسي وأكثر من تجمع سياسي وأكثر منظمة مسلحة، موزعة حسب الطائفة وحسب المنطقة والعشيرة، وحسب الدين وحسب الأنتماء الأثني. كيف يُقاوم التدريسي هذه الأيام، إذا ما هُدد بأسم العشيرة أو العائلة أو الطائفة، في ظروف افضل ما توصف به إنفلات أمني وتدهور ثقافي؟
محمد حسين النجفي
رئيس تحرير موقع أفكار حُرة
www.afkarhurah.com
#الجامعة_المستنصرية #التعليم_في_العراق #محمد_حسين_النجفي
فهود بين نخيل الكوفة: قصة نشرت في مجلة الشرارة النجفية: أفتح الرابط أدناه، أو إقرأها في هذا الموقع:
فهود بين نخيل الكوفة: مجلة الشرارة: صفحة: 20-22
تعرضت مدينتي النجف والكوفة الى حملة إعتقالات وبطش وتعذيب واسعة النطاق، بعد ردة 8 شباط 1963 الدموية، وذلك بسبب اعتبار المدينتين من المدن ذات النفوذ العالي للفكر والحركة الشيوعية والوطنية في تلك السنوات. وجدير بالذكر ان العديد من قادة الحزب الشيوعي العراقي ومناصريهم من مدينة النجف الأشرف، فعلى سبيل المثال لا الحصر الشهيد حسين الرضي (سلام عادل) والشهيد حسن عوينة، وشاعر العرب الكبير محمد مهدي الجواهري وشاعر الشعب محمد صالح بحر العلوم. أما مدينة الكوفة فقد خطت لنفسها ملحمة ثورية بطولية أبان تلك الفترة السوداء من تاريخ العراق. حيث أستطاعت مجموعة من المناضلين الذين ترجع اصولهم لعوائل في ريف الكوفة، الأنسحاب من المدينة، واللجوء الى بساتين وأهوار الكوفة تجنباً للأعتقال والتعذيب والأضطهاد المستمر الذي كانت تتقنه وتتفنن به عصابات الحرس القومي. فهودٌ في مقتبل العمر قرروا ان يخوضوا تجربة المقاومة المسلحة بقرار محلي وربما شخصي، حيث كانت التنظيمات الحزبية معطلة على المستوى القطري.
كانت المنطقة التي تجمع المقاومين لحكم البعث تمتد ما بين الشامية والكوفة ونهر الفرات. وهي مناطق زراعية وبساتين نخيل وأهوار. وجد أهالي هذه المنطقة من فلاحين ومعدان وأبنائهم من الطلبة أنفسهم في مجابهة مع السلطة، التي اغتالت قادة ثورة تموز عام 1958 التي شرعت لهم قانون الأصلاح الزراعي وانهت تسلط الأقطاع عليهم اجتماعياً وأقتصادياً. وكان للشيوعيون إنتشار واسع بين هذه المجتمعات الصغيرة من خلال التنظيمات الحزبية والجمعيات التعاونية وأتحاد الفلاحين. لذلك حينما جهزت سلطات البعث حملتها الأولى على قرية “بور سعيد” في ريف الشامية، لملاحقة المقاومين لقتلهم او اعتقالهم، لم يجدوا فيها سوى النساء والأطفال، لأن أهالي المنطقة علموا بالهجوم مسبقاً.
من بين المقاومين الأبطال كان الرفيق نجم عبد أبو اللول (ابو واثق)، الذي إنخرط بالنشاط السياسي منذ نعومة اظفارهِ. كان من الشيوعيين الذين لعبوا ُ دوراً نشطاً هو وعائلته في مقاومة إنقلاب 8 شباط الدموي 1963. كان بصحبته الرفيق باقر إبراهيم والرفيق عدنان عباس الذي سهل تحركاتهم في هذه المواقع، ولعب دورأَ مشهوداً في تعبئة وتنظيم الشباب وتشكيل فرق المقاومة، وتنسيق الإرتباط بين المدينة والريف، وسخر كل إمكانيات أفراد عائلتهِ واقربائهِ الطيبين لهذه المهمات. ولهذا المكان أهمية إستثنائية، لموقعهِا المطل على نهر الفرات وقربهِ من مدينة الكوفة. لقد اضحت المنطقة بأكملها منطقة حاضنة وبيوت جميع الرفاق وعناصر المقاومة مفتوحة لتسهيل عمل المقاومة على الرغم من بطش سلطة الإنقلاب، وحمامات الدم التي أغرقت فيها البلاد.
وحينما أصاب حزب البعث والحرس القومي ذعراً شديداً بعد حركة 3 تموز 1963 الثورية في معسكر الرشيد بقيادة الشهيد البطل حسن سريع، أدركوا انهم مهددون بالسقوط، بعد ان كاد عريف في الجيش ان ينجح بحركته. بعد تلك الحركة شن الحرس القومي حملة أستباقية واسعة جديدة ضد الوطنيين والشيوعيين على عموم الوطن. فأعتقلوا الذي لم يُعتقل بعد، او الذين اعتقلوا واطلق سراحهم. وبناء على ذلك كان لابد من ان يتم اعتقال المناضلين الهاربين في ريف الكوفة.
لقد حاول الحرس القومي اعتقالهم عدة مرات، وكل مرة يفشل بسبب وعي المناضلين والحماية التي تلقوها من اهالي المنطقة الطيبين المتعاطفين معهم. هذه المرة استخدم الحرس القومي اسلوب الخديعة، حيث نصبوا لهم فخ عن طريق احد المتخاذلين الذي تظاهر بالرغبة في الألتحاق بالثوار. وبذلك تمّ التخطيط للحملة الثانية بشكل متقن وخبيث. ذهب عصر يوم العاشر من آب عام 1963، كل من المناضلين “حسين شعلان الماضي” و”عباس ابو اللول” وأبن أخيه “نجم أبو اللول”. ذهب ثلاثتهم على موعد محدد في منطقة “ألبو نعمان” القريبة من الكوفة، لانتظار شخص يريد ان يلتحق بالثوار، فاجأهم في الموقع أكثر من ثلاثين مسلحاً من الشرطة السيارة وعناصر الحرس القومي، تحت أمرة محمد رضا الشيخ راضي. وحينما أحس المناضلين بالفخ الذي وقعوا فيه، وانهم مطوقين، رفضوا أوامر التسليم وهموا بالأنسحاب، إلا ان القوة المداهمة فتحت النار عليهم ، فما كان منهم إلا ان يردوا بالمثل وتمكنوا من أصابة قائدهم محمد رضا أصابة بليغة، إلا ان المناضل “عباس ابو اللول” الذي كان في المقدمة سقط شهيداً، وتعرض ابن اخيه نجم ابو اللول لأصابة بليغة في جسمه. عندها اخذت عناصر الشرطة والحرس القومي، بإطلاق النار عشوائيا بكل الإتجاهات، فسقط رجل بريء إسمهُ “عبد النبي” الذي كان يعمل في بستانهِ، واعتقل الحلاق “عليوي” الذي أفترضوا إنهُ يقدم العون والمساعدة للمقاومين. وهبّ اهل قرية “ألبو النعمان” رجالاً ونساءاً يتقدمهم شيخهم الشجاع حامي حمى تلك الديار “عباس متعب النعماني” على صوت الرصاص، وتصدوا لتلك العصابة الطارئة غير آبهين بإطلاق النار الكثيف، مما سهل إنسحاب حسين شعلان والمصاب نجم ابو اللول الى مكان آمن. كانت معركة مشرفة بين فهود الكوفة وذئاب سلطة فاشية جائرة، أبليه فيها المناضلون والبونعمان البواسل، بلاءً حسناً ومشرفاً.
انسحب نجم أبو اللول الى منطقة طبر سيد جواد التي إلتجأ اليها بعد إصابته في الإصطدام، حيث قامت بنت الحاج الشهم “عبد عگيلي” بتوفير العلاج لهُ، عن طريق قريب لهم يعمل في مستشفى الفرات الأوسط. ولما انكشف امر ابنته ارسلها الى ناحية القادسية لاخفائها في بيت شقيقه، ولم ترجع إلا بعد سقوط الحرس القومي وحزب البعث في اليوم الثامن عشر من شهر تشرين الثاني عام 1963. كان نجم ابو اللول ورفاقهِ مرحب بهم في المنطقة، ويقضي جل وقته في حديقة الحاج عبد عگيلي. بعد مدة تسرب الخبر للحرس القومي عن مكان تواجده، مما أدى الى اعتقال عبد عكيلي، الذي جرى تعذيبهُ وملاحقة إبنتهِ، لكنهُم لم يحصلوا منه على اية معلومات تؤدي الى اعتقال نجم او غيره من الرفاق.
عاد الحرس القومي بأسرع ما يمكن الى مستشفى الفرات الأوسط ومعهم قائد الحملة المصاب “محمد رضا الشيخ راضي” الأخ الأصغر لـ “محسن الشيخ راضي” عضو القيادة القومية والقطرية لحزب البعث، والمسؤول حزبياً عن قصر النهاية سيئ الصيت. وصلوا المستشفى مذعورين خائفين بما حصل لمحمد رضا شيخ راضي، محاولين من خلال الصراخ والصياح والتهديد للطاقم الطبي ان ينقذوا حياة مصابهم الذي كانت المنية قد وافته برصاص الثوار على ارض المعركة. وفي حديث مباشر لي مع احد قادة الحرس القومي الذين شاركوا في تلك الحملة في حينها عن سبب رعبهم، قال لي بالحرف الواحد إننا لسنا خائفين من الهاربين (الثوار)، إنما نحن مرعوبين من نقمة وانتقام محسن الشيخ راضي منا، الذي سيحملنا مسؤولية مقتل اخيه.
#الكوفة #1963 #الحرس_القومي #محسن_شيخ_راضي
محمد حسين النجفي
رئيس تحرير موقع أفكار حُرة
www.afkarhurah.com
المصادر:
نجم أبو اللول
أحمد القصير (أبو ماجد)
هذا ما حدث / عدنان عباس
رسالة غير منشورة /عارف الماضي
حديث /جواد عبد عگيلي
The Children and The Jumpy Rabbit
Once upon a time, there was a beautiful family of husband and wife with three little children. The older boy’s name is “Jack”, the middle girl’s name is “Jackie” and the youngest boy’s name is “Jimmy”. Their ages are nine, seven, and five years old. They live in the countryside, surrounded by beautiful landscapes. The children go to school through a mile-long unpaved road. Jack is now, at an age that his parents thought, he can take care of his brother and sister. The Parents had no choice but to let that happen because they are very busy with their farm. On the left side of the road, there is a slim creek coming from the nearby mountains. On the right of the road is a forest, that no one dares to enter alone.
Every day Mamma gives them the same advice: Go straight to school, don’t talk to strangers, stay together all the time. The parents were very happy because things were going very well. One morning, as they were going to school, “Jimmy” saw a Jumpy Rabbit playing at the edge of the forest. It was a beautiful Rabbit that was moving its mouth, its nose, and its ears in such a dramatic fast way that demands instant attention. “It’s a Rabbit, It’s a Rabbit” Jimmy was shouting with excitement and running toward the Rabbit. The jumpy Rabbit didn’t stand still, it immediately ran toward the forest, and disappeared. No one could stop Jimmy from running after the Rabbit, he was chased by his sister Jackie immediately. Jack found himself following them because he had no other choice.
They all entered the forest looking for the Rabbit. The Rabbit was nowhere to be found. The three of them were looking for the jumpy Rabbit, and kept getting deeper and deeper into the forest. The trees started getting taller and thicker. The sky was disappearing, the light became dimmer and dimmer, and bushes became thicker and rougher.
The children started getting more scared by the minute while they heard so many noises from different kinds of species, small birds, eagles, owls, chipmunks, frogs, and squirrels. Suddenly, Jackie’s feet froze, followed by her two brothers. Standing still and terrified as a Forest-man appeared from nowhere. Without thinking, they clustered together, holding each other’s hands shakily but firmly. The forest man looked like a savage caveman. He finally smiled at them, the best he could, and asked them: Are you lost your way? Jack changed his position to be in front of his younger brother and sister, spreading his arms to protect them and answer him: “Yes sir”. “OK, kids, this is not the place for you to be”, said the forest man. “Let me show you the way out”. Although they were scared and skeptical, they had no better choice but to follow him.
Soon they started seeing the sky become brighter and brighter, and their doubt of the Forest man started to vanish little by little. In the end, he told them if they continue in this direction, they will be out of the forest soon. They ran as fast as they could without saying thank you or goodbye and without turning their heads back, till they were safe and sound back to the dirt passage under the blue sky towards their school. That was a day of experience and lesson for life. When they grew up, they retold that story to their children, so they don’t do the same mistakes.
“الأنسان لديه عقل ومبادئ، كي لا ينساق بمشاعر عاطفية، الى خندق مناهض للمبادئ الأنسانية”
سألني احد الأصدقاء سؤآلا عابراً: لمن تعطي ولائك للوطن او للدين او للطائفة او للقومية او للعقيدة السياسية؟ كنا في مناسبة اجتماعية بين مجموعة من الأصدقاء، والصديق العزيز فاجئني بهذا السؤآل امام جمع من الحضور من المعارف والأصدقاء. ولربما سؤآل كهذا يحرج او يربك او يؤدي الى اجابات مربكة اوغير مقعنة في معظم الأحيان. لم أتردد في الأجابة عن هذا السؤآل، لأني سبق أن فكرت به ملياً، ويدور في ذهني كثيراً، خاصة ونحن نعيش في عالم مليئٌ بالصراعات والتناقضات التي في معظمها مفتعلة وتافهة ومؤلمة لجسامة مردوداتها السلبية التي تبقى آثارها لأجيال واجيال قادمة.
مما لا شك به، إننا جميعاً من لحم ودم ومشاعر وتاريخ وذاكرة لا تنمحي منها التجارب الموفقة ومنها الذكريات الأليمة، التي نمر بها في المراحل المتعددة من حياتنا. ولكن الأنسان لديه عقل ومبادئ وآراء سياسية واخلاق وتربية عائلية وإجتماعية تضعه ضمن اطار معين لسلوك ورأي في الحياة يحدد موقفه من الأحداث التي يمر بها واحدة تلو الأخرى، ومن المفروض ان تشكل له حصانة ودرع واقٍ كي لا ينساق بمشاعر عاطفية بحته، والأنضمام الى خندق مناهض للمبادئ الأنسانية.
ولكي استطيع ان اعبر عن موقفي، اود ان اذكر حادثة ربما تبدو بسيطة إلا انها توضح ما اريد ان اصل اليه. ففي عام 1968، جرت مبارات نهائي كأس العالم العسكري بكرة القدم، وكانت بين الفريق التركي والفريق اليوناني ليتنافسا على ملعب الشعب في بغداد، من اجل الفوز بالكأس لتلك الدورة. والكل يعلم طبيعة العلاقة الحساسة لا بل العدوانية بين تركيا واليونان، نتيجة لتاريخ مثقل بالحروب فيما بينهما. ومن الطبيعي جداً ان يكون الجمهور البغدادي، وهو الحاضر الوحيد على مدرجات الملعب، ان يكون مُشجعاً برمته للفريق التركي بأعتباره فريق الدولة المسلمة والمجاورة للعراق ولوجود تاريخ مشترك لمئات السنين. وهذا ما حصل بالفعل. ولكن حينما حقق الفريق اليوناني تقدماً على الفريق اليوناني، بدأ الحماس يتغلب على الفريقين، واخذ الفريق التركي يلعب بخشونة، تزداد قسوةً لحظة بعد لحظة، من بينها الدفع المتعمد والتكسير، وغير ذلك من اللعب الغير ودي. وكان من الملاحظ ان الجمهور بدأ تدريجياً يفقد حماسه للفريق التركي، ليتحول الى جمهور محايد. الجمهور العراقي بأخلاقه الكريمة وحبه لكرة القدم والاخلاقيات الرياضية، لاحظ ان الفريق اليوناني، احتفظ بأناقته في الملعب، ولم ينجرف ليجابه الفريق التركي بنفس اسلوبه في التكسير المتعمد واللعب دون اخلاق رياضية. في هذه الأثناء بدأت مشاعري تتغير وامنياتي تحولت الى الرغبة في ان يفوز الفريق اليوناني، وليس مستغرباً ان شاركني في ذلك كل الجمهور العراقي في تشجيع الفريق اليوناني الذي فاز بأربعة أهداف ضد هدف واحد، بفضل تشجيع مدرجات ملعب الشعب له.
ارجوا ان يكون هذا المثال كافِ لتوضيح لمن يكون ولائي. نعم ومؤكد ان يكون ولائي لأبناء جلدتي، لأبناء وطني، لأبناء طائفتي، لأبناء قوميتي، حينما يكونون على حق، وليس ولاء مطلق غير مشروط. يقول المثل: انا واخي على ابن عمي، وانا وابن عمي على الغريب. وهذا مثالٌ على الولاء المطلق غير المشروط دون معرفة الحق من الباطل. وفي اعتقادي ان هذا القول لازال له انصاره، واتباعه، ومؤيديه للأسف الشديد. وهو ولاء ذو نزعة جاهلية غير حضارية.
اذن الولاء الأول والأخير هو للأنسانية، وللأخلاق، وللعدالة، وللحق. طبعاً يبدوا ذلك تهرب ذكي بدل الأجابة بصراحة على السؤآل. وعودة الى سؤآل الصديق العزيز، وكما قلت حول سؤآله اذا خُيرت بين الوطن والدين، وبين الدين والطائفة، و …….. الخ. جوابي كان، اذا كان وطني على حق، وديني على حق، ومذهبي على حق، فإن المفروض ان لا يحدث صراع او تناقض بينهما. واذا حدث صراع او تناقض فيما بينهما، فمن واجبنا ان نتعرف على الحقيقة بحيادية لتحديد الموقف المناسب، وليس على نغمة انا واخي على ابن عمي ….. .
25 اكتوبر 2021
محمد حسين النجفي
رئيس تحرير موقع أفكار حُرة
www.afkarhurah.com
“أستطاع المفكرون الماركسيون والوجوديون الفرنسيون أن يتوصلوا إلى بناء مجتمع اشتراكي مع الاحتفاظ بالحقوق الكاملة للحرية الشخصية”
قوة الأشياء عنوان كتاب قرأته في منتصف ستينات القرن الماضي، للكاتبة الفرنسية الوجودية ذائعة الصيت سيمون دي بوڤوار. ولا يَخفى على احد أنها كانت رفيقة درب المُفكر الوجودي جان بول سارتر، واللذين كوّنا معاً ثنائيا ناشطاً في السياسة والأفكار الوجودية، كاد ان ينافس أطروحات الثنائي الجدلي كارل ماركس وفردريك أنجلس، خاصة بين صفوف المثقفين والكتاب والفنانين والأدباء، وليس في عموم ووسط الجماهير التي كانت في أوربا جميعها يسارية بامتياز، بعد ما عانته من طغيان ودموية النازية الألمانية والفاشية الإيطالية. لم يكن المثقفين والمفكرين بعد الحرب العالمية الثانية في صراع ذهني بأفضلية ألاشتراكية أَو الرأسمالية، وإنما كان الصراع الفكري بين مدى المسؤولية ألاجتماعية والعمل الجماعي كما يراه الماركسيون وبين الخوف على فقدان الحرية الفردية ولا سيما في التفكير والتعبير الذي تبناه الليبراليون والوجوديون. كانوا يبحثون عن نقطة التوازن الجديدة التي سيرتكز عليها العقد ألاجتماعي الجديد (جان جاك روسو). كان الوجوديون على الرغم من قلتهم، خلية نحل لا تمل ولا تتعب ولا تركد، حيث كان الثنائي سارتر وبوفوار غزيري الكتابة، متنقلين ومسافرين ومتابعين، لا يفصلون بين حياتهم الخاصة ونشاطهم العام، يحاضرون في الجامعات، ويتناقشون في المقاهي والبارات، ويتحملون المشاكسة في الندوات.
عنوان الكتاب “قوة الأشياء”، مترجم حرفياً عن الفرنسية ”La Force Des Choses” , ولكن في اللغة الإنكليزية سُميّ الكتاب: “ The Forces of Circumstance” والترجمة الحرفية لذلك هي “قِوَى الظرف”. وفي ترجمة أخرى “Force of Circumstance”، وترجمتها “قوة الظرف”، ولكن حينما نقرأ سردية بوفوار لسيرتها الذاتية عبر هذا الكتاب الوصفي الممتع المليئ بتفاصيل وتحليل رائع للأحداث والأشخاص والمشاهد والتقلبات والصراعات الفكرية والسياسية المحتدمة، كل هذا يجعلني افكر من انها تعني “قوة الأحداث” أو بالأحرى “تحكم الأحداث” في تلك المرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. الأحداث الصغيرة الناعمة البسيطة التي تمر على الآخرين دون ان يحسوا بها، والأحداث الكبيرة المهولة التي تهز وترعب الجميع، عدا المثقف الثوري الذي يُقحم نفسه في قارورتها. نعم كلها تترك علينا انطباعات جديدة وتملي علينا قناعات لم ندركها من قبل، خاصة الأحداث السياسية الكبيرة او العلاقات الشخصية العميقة وعلى الأخص العلاقات العاطفية في العمر المبكر.
تتحدث سيمون دي بوفوار في قوة الأشياء عن الصراعات والمنافسات الفكرية في داخل اليسار الأوربي من جهة، وبين اليسار واليمين والنازية الجديدية التي لم يتخل عنها شريحة كبيرة من الشباب الذي تربوا وتأثروا بأفكار هتلر وموسوليني. كذلك تتحدث عن سفرها وترحالها الى إيطاليا والجزائر والبرتغال، وكيف انهم كانوا ما يزالون يصارعون الفكر النازي والفاشي، الذي مازال يحكم أسبانيا والبرتغال بقيادة فرانكو وسالازار.
طريقة وصفها للأشخاص والأحداث ليست عفوية، او سردية بحتة وإنما وصف ينم على ألتزام بفكر إنساني، فحينما ركبت القطار الشعبي البطيء من مدينة الجزائر الى مدينة بيسكرا، لم يتسن لها الوقت لشراء التذكرة. وحينما جاء مفتش التذاكر طلب ان تشتري التذكرة منه. عدّ المفتش الجزائري أن ركوب فرنسية في قطاره الشعبي مسائلة تدعو للفخر والإعتزاز، ولم يُغرمها او يقطع لها التذكرة، بينما في نفس الوقت شاهدته يشتم ويرمي الركاب الجزائريين الذين لا يملكون ثمن التذاكر في الصحراء من القطار وهو سائر. تقول بوفوار باستغراب، أن المفتش رفض اخذ الاجور من الذي يملكها، ولكن لم يسامح ابناء جلدته لأنهم لا يملكونها (ص 89).
تغلغل الفكر الوجودي لدى العديد من الكتاب العراقيين والعرب مثل أستاذ الفلسفة المصري عبد الرحمن بدوي، والأديب القصصي العراقي حسين مردان، إلا إن الفكر الوجودي بطبعه فكر ذو نزعة فردية، وتقديس للذات مبالغ فيه على اقل التقدير، علماً أن سارتر كان على عِلاقة وطيدة بالشيوعيين الفرنسيين أبان حِقْبَة مقاومة الاحتلال الألماني وبعدها، لأن خِيار الاشتراكية بعد الحرب العالمية الثانية لم يكن موضوع حوار، وإنما كان الخِيار الأوحد، حيث يرى سارتر أن الاشتراكية هي خط الإنسانية الوحيد (ص 15)، بينما يرى الشيوعيون أن “الشيوعي هو البطل الدائم لعصره” (ص 68). أستطاع المفكرون الماركسيون والوجوديون تارَة بالصراع وتارَة عن طريق التصالح الفكري، من أن يتوصلوا إلى توازن بين بناء مجتمع اشتراكي مع الاحتفاظ بالحقوق الكاملة للحرية الشخصية، وهو نموذج أنتشر في أوربا الغربية وحقق نجاحاً وديمومة أكثر من النموذج السوفيتي ودول أوربا الشرقية.
ولذلك كنا نحن الشباب المتطلعين إلى أوربا كنموذجنا المثالي نستغرب ولا نجد جواب مقنع لسؤال منذ ذلك الحين وليومنا هذا:
لماذا أختارت أوربا الغربية الاشتراكية، أو على أقل تقدير نظام حقوق مدنية وضمانات اجتماعية واسعة سبيلاً لرقي مجتمعاتها، بينما أنكرت ذلك على مستعمراتها، حيث شُجع او فرضت عليهم تركيبة القرون الوسطى، البناء الإقطاعي الرجعي الغارق في الطبقية والاضطهاد الاجتماعي والسياسي. إن ما كان يروم اليه شباب الستينيات في العالم الثالث ومنهم العراق هو بناء نموذج سياسي اقرب إلى أوربا الغربية منه إلى نموذج الاتحاد السوفيتي. لذلك فإن سارتر رغم فكره الوجودي، إلا انه لم يعارض قيم الاشتراكية الأوربية، على الرغْم خشيته الخاصة على أن لا يؤدي ذلك إلى اضمحلال دور الفرد وخسارته لحريته. لو أن أوربا الغربية نشرت افكار “الاشتراكية الديمقراطية” كما تبنتها في بلدانها بعد الحرب العالمية الثانية، لأنتقلت دول العالم الثالث من النسيج السياسي والافتصادي والاجتماعي للقرون الوسطى المظلمة إلى مجتمعات حضارية متألقة بالمسؤولية الاجتماعية الجماعية والحرية الفردية المبدعة، ولكن سياسات أوربا الخارجية تختلف بـ 180 درجة عن سياساتها الداخلية، ولذلك فنحن مستمرين بمسيرة التقهقر الحضاري يوماً بعد آخر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سيمون دي بوفوار، قوة الأشياء، ترجمة عايدة مطرجي إدريس، دار الآداب، بيروت، 1964.
محمد حسين النجفي
الأول من أيلول 2021
#محمد_حسين_النجفي #سيمون_دي_بوفوار #جان_بول_سارتر #قوة_الأشياء #الوجودية
#www.mhalnajafi.org
أنا وإبريق الشاي بصحبتي
وفي الأفق
موجة من التلال
تسبح بينهما
نخلتين مازالتا يافعتين
في ظل سكون لا يُفزعهُ
سوى
زقزقة العصافير
وحفيف أغصان شجرة الرمان
أجلس وحيداً بينهما
كي أمتع نظري
وأرطب عطشي
إلى الهدوء والسكينة
كي
أشتت بها أفكاري
وأبعثر بها أحلامي
لأستجمع قوايْ
وأهيئ نفسي
ليوم جديد
لا ندري كيف سيكون
“تباطأت الحلوة في خطواتها كي تتخلف بعض الشيء عن زوجها عمداً، لتفرش عباءتها على مصراعيها كأنها فراشة ربيعية،
ولترفع يدها إلى جبينها وتمنح نزار تحية بيد مرتجفة”
جعلت أم علي من “الحِفافةِ” مهنة لها، حيث تؤدي واجبها في البيوت المستورة التي لا تحب نسائها الذهاب إلى صالونات الحلاقة النسائية. أخذت أم علي، على عاتقها العمل للمساعدة على تربية أطفالها الثلاث، والاعتناء بزوجها الذي أصبحت همومه وأخفاقاته مسيرة حياته. أم علي “كثيرة الصنايع وبختها ضايع”، لان زوجها الذي يعمل في سوق بيع الخضار بالجملة، يعمل يومًا ويجلس في البيت عشرة أيام. مشكلته الإدمان على المشروب، الذي يُذكره، بالآمال الكبيرة التي ضاعت، لتحل محلها انكسارات لم يستطع التغلب عليها، ليغرق في متاهات لماذا وماذا لو.
كانت أم علي، تزور جارتها أم نزار بمناسبة وغير مناسبة، تحكي لها همومها وعما يدور في الحارة من قصص غرامية ومشاكل زوجية، ومن تخاصم مع من، ومن الذي مع الزعيم* (عبد الكريم قاسم) ومن هو ضد الزعيم “ومنو الراح ومنو الأجه”. أما نزار فكان يُحضر لامتحانات البكالوريا للصف الثالث المتوسط، للعام الدراسي 1962/1961، وافضل مكان يجلس فيه هو الشرفة الأرضية المجاورة لغرفة الجلوس، والمُطلة على الحديقة الأمامية. لذلك كان نزار يستمع بشكل غير مباشر ودون قصد، لحديث أم علي مع والدته. وكان ينبهر من فطنة أم علي السياسية، حينما يسمعها تعلق على ما يقوله المذيع في اخبار التلفزيون. وكان يرى في تعليقاتها حِساً وذكاءاً وحنكة سياسية لا تتناسب مع ثقافتها أو مهنتها. واحيانا يقول في نفسه، يبدو أن أم علي تنتمي لحزبٍ او حركة سياسية! وفي احد الأيام سألت أم نزار، أم علي قائلةً: “أكول انتِ شلون عايشه ويه هذا رجلچ السكير؟” “لا يا أم نزار على بختچ”، أجابتها أم علي، “موحقه هيچي يصير، چان فورمن بالسكك يُكرك وفصلوه، لانه نقابي ويدافع عن حقوق العمال”. “معقوله شلون يقبل الزعيم”، أجابتها أم نزار. “ليش الزعيم يدري شديصير بالولايه، الله مبدالچ، ديفصلون المخلصين ويصعدون الخونة وهو نايم، الله اليستر”.
تحدثت أم علي خلال إحدى هذه الجلسات عن “ليلى الحلوة”، وهكذا كانت تَسميتها في المحلة، لأنها فعلا فتاة جميلة، ورشيقة وذات شعر ذهبي مكعكل طويل وعيون عسلية واسعة مثل عيون الغزلان. بيت ليلى يقابل بيت نزار من الجهة الأخرى من الشارع، بيت كبير يتكون من طابقين، وفي الطابق الثاني بالكونة (شرفة) مزينة بسندانات ورود متنوعة بألوانها وأشكالها. وكانت هذه الشُرفة مُطلة على الشارع وتشرف على الشرفة التي يدرس فيها نزار. تُطل ليلى من بالكونتها المشرفة على الطارمة التي يدرس فيها نزار مرة أو مرتين في الأقل يومياً. ونزار شاب وقور وخجول، لذا كان يُبعد نظره عنها خجلاً حينما يلاحظ وجودها، كي لا تنحرج منه، ولأنه يعلم أنها نافذتها الوحيدة للعالم الخارجي، ولتبقى واقفة هناك تُمتع نظرها في تحركات البشر والسيارات وما يدور في الشارع من رواح ومجيء.
ولكن في احد الأيام حدث ما لم يكن متوقعاً. أطلت ليلى وكان وجه نزار باتجاه سندانات شرفتها وكأنه يحاول ان يشتم رحيق الورد عن بعد، وقبل ان يدير رأسه عنها كعادته، منحته ليلى ابتسامة خجولة ودعوة إيحائية بما معناه، ألّا تدر بوجهك عني، لأنني هنا كي أراك وكي تراني. إرتبك نزار من الموقف غير المتوقع، خفقان في القلب واهتزاز في القدمين وشعور بمن لا يصدق ما يحدث. انسحبت ليلى إلى مخدعها بسرعة فائقة. بقيّ نزار يفكر بما حدث؟ هل كان ذلك حقيقة أم خيال؟ سؤال ظل دون إجابة لحين الأطلالة الثانية التي كان نزار يترقبها بفارغ الصبر. وإذا بها ليلى بلحمها وشحمها وشعرها الطويل المتناثر في الهواء، وبلمعان عذب في عيونها لم يسبق له ان رآه من قبل. ولم تمضي سوى لحظات حتى رفعت يدها اليمنى لتهزها عدة مرات كي تُسلم من بعيد ولكي تذهله من جديد. ولم يعرف نزار كيف يجيب، سوى رفع اليد بالإجابة دون ابتسامة لإنه كان مرتبك، لا بل مرتبك جداً، ولا يدري هل انها تسخر منه؟ هل تغازله؟ هل تصادقه؟ أم انها تسلم على ابن الجيران لا اكثر ولا اقل؟ كل ألاحتمالات ممكنة، لكنه كان راضياً بأيٍ منها.
استمرت التحيات والابتسامات عبر الأثير، وكانت حافزاً يومياً كي يُهيّئ نزار نفسه كل يوم ليشرب شاي الصباح ويتناول الغذاء في طارمة الخير والسعادة، طارمة الحب والغرام، الطارمة الموعودة التي تطل منها المدلولة. كانت اغاني عبد الحليم حافظ هي الشائعة في ذلك الزمان خاصة أغاني فلم “حكاية حب” مع مريم فخر الدين الذي عُرض في صالات السينما مؤخراً. كان معظم شباب ستينات القرن الماضي معجبين بأغاني عبد الحليم، لذلك كان معظمهم يحملون راديو ترانزستور صغير، مثلما يلازمهم الهاتف المحمول هذه الأيام، كي يستمعوا إلى الأغاني العاطفية. يتضمن فيلم حكاية حب، قصة حب صعبة المنال بين فتى فقير وفتاة من عائلة باشوات، ويحتوي على اجمل ما غنى عبد الحليم مثل اغنية “بتلوموني ليه” واغنية “حبك نار” واغنية “بحلم بيك”. وإذا صادف حينما تطل المدلولة من شرفتها أن يكون عبد الحليم مُغرداً، يرفع نزار صوت المذياع كي تستمع اليه ليلى وتطرب معه ولو من بعيد، وربما كان ذلك الوسيلة الوحيدة للحديث بينهما. وحينما تراه يرفع الصوت تنفرج أسارير وجهها بابتسامة ناعمة وخجوله مع وضوح بالاستمتاع بها وكأن نزار يناجيها.
وفي يوم من الأيام سمع نزار صوت عبد الحليم يأتي من بعيد في اغنيته الدرامية “حُبك نار”، من الجانب الآخر من الشارع. بدأ الصوت يقترب اكثر والمصدر اضحى اكثر وضوحًا، وإذا به من راديو ترانزستور صغير محمول بيد ليلى، وهي خارجة به من غرفتها الى البالكونه وصوت الراديو بدأ يرتفع كي يسمعه العاشق الولهان في الطرف الآخر من منزلها. قرر نزار ان يجيبها بالبحث عن نفس الأغنية. لم تكن المحطات كثيرة في ذلك الوقت، لذلك عثر عليها بسرعة فائقة، ثم رفع يده التي تحمل الراديو للإجابة على التحية التي أشعلت النار في قلبيهما. وبذلك أصبحت هذه عادة مستمرة بينهما. وكان المارة من الجيران يسمعون نفس الأغنية من على جانبي الشارع، وربما شك البعض من ان مصادفة سماع نفس الاغاني اضحت كثيرة التكرار!
ومرت الأيام الجميلة بسرعة فائقة، وانتهت امتحانات البكالوريا، وكان من عادة نزار العمل مع والده الذي يملك مكتبة لبيع الكتب في شارع السعدون في العطلة الصيفية. نزار يحب العمل في مكتبة والده لأنه شغوف بقراءة الكتب السياسية والقصص الواقعية. كان يقرأ كثيراً قصص نجيب محفوظ وكتابات سلامة موسى. إلا انه لاحظ من اليوم الأول أن بعض الرفوف فارغة من الكتب. سأل والده عن السبب، وكان الجواب إن وزارة الإرشاد والأمن السياسي أبلغونا بعدم نشر وبيع الكتب الهدامة (يسارية التوجه)، لذلك سحبناها من الرفوف وحاليا أخفيناها في غرفة الخزن الخلفية، نبيعها للزبائن الذين نعرفهم فقط. اسرع نزار إلى المخزن واختار بعض الكتب كي يأخذها معه إلى البيت.
مضت عدة أسابيع على هذا المنوال، وفي مساء احد أيام الخميس، سمع الجميع هلاهل (زغاريد) تأتي من جهة بيت الحلوة. وكانت هناك سيارتان او ثلاث واقفة أمام دارهم. لم تدم الشكوك لمعرفة ما جرى سوى يوم واحد، حيث جاءت أم علي إلى دار أم نزار كعادتها بعد ظهر يوم الجمعة كي تزف البشرى، وبدأت كلامها بتساؤل عما إذا سمع الجميع من ان ليلى قد تمت خطبتها من احد أقاربها البارحة. سألتها أم نزار ما إذا كان هذا الخطيب حبيب؟ أجابتها أم علي كلا، ولكني اعتقد انها تحب شخصاً آخر، لأنها كانت سعيدة جداً هذه الأيام وتستمع للأغاني العاطفية كثيراً، وغمزت لنزار بعينها لتُعلمه من انها على معرفة بقصتهم. سألت أم نزار، أم علي: إذا كانت ليلى تحب شخصاً آخر، فلماذا قبلت الزواج من قريبها؟ أجابتها أم علي بحنكة فائقة، من ان حُب الشباب، مشاعر جميلة إلا إنها لا تُكوْن بيت، فالحب شيء والزواج شيء آخر. حينها تملك نزار شعور غريب يصعب فهمه ويتعسر تفسيره، لأنه شعور مُشوش ومتناقض وغير واضح وغير متكامل. وأخذت الأفكار تسبح في مخيلته: طبعاً إذا تقدم لها عريس سوف تتزوج، ولكن ماذا عن “حبك نار”! إنها نارٌ سوف يطفئها الزواج يا صاحبي، لأنها لم تكن ناراً، وإنما شعلة ضياء آتية من قنديلٍ رومانسي يبهر حياتنا بمشاعر نبيلة يخفق لها القلب دون أن يأسره.
تغير الموقف كلياً. لم يعد الثنائي يستمع للاغاني معاً، لم يعد هناك من لزوم للتقصد بالتواجد في محطات التلاقي. ولكن حينما تلتقي عيناهما من بعيد مصادفة، لم يعلوا أي منهما جهداً لتجنبها، لا بل يتم تبادل التحيات ولو بشكل آخر، تحية جار لجار، كلها ود واحترام. كان ذِهاب نزار للعمل مع والده يساعده كثيراً على تفادي اللقاءات المؤلمة. وبدأ يسهر مع الأصدقاء في المساء كي لا يرجع إلى البيت إلا والظلام قد اسكن المحلة في بيوتها. وقبل نهاية ذلك الصيف وفي مساء يوم آخر من أيام الخميس، جاءت الزفة لتأخذ العروس إلى عش الزوجية الجديد، لتتحول ليلى من طفلة بريئة إلى امرأة ناضجة، ولتصبح ربة بيت، ولتنجب بنات وبنين، وربما تتذكر بين الحين والحين، عند سماع أغنية ذات رنين، فيها خصوصية ذات معنى وحنين، مشاعر حب عذري سيظل مطوياً عبر السنين.
وفي يوم خريفي من احد أيام الجمع الذي عادة يزور فيها الأبناء أهلهم، كان نزار في باب الدار يراقب الرياح العاتية والسماء المكفهرة وتبعثر أوراق أشجار النارنج والبرتقال الصفراء، مترقباً لاحتمالات هطول مطر في ذلك اليوم الهائج، لمح قدوم إمرأة ميز طلتها من بعيد ومعها رجل لم يره من قبل، حدس انه غريمه وزوجها، قاصدين بيت اهلها الذي يقابل بيتهم. حار نزار في امره، وارتبك في موقفه، وأخذ يسأل نفسه ما المفروض أن يفعله؟ هل يدخل البيت ويتجنب رؤيتهما؟ لم يستطع فعل ذلك ولن يقوى عليه لأنه يريد رؤيتها ولو لآخر مرة. فظل واقفاً متبسمراً في مكانه، وجسمه يرتعش بكامله. كانت خطواتهم بطيئة جداً، احس إنها لاحظته، ووجهت رأسها باتجاهه، وحينما اقتربوا من بيت نزار تباطأت الحلوة في خطواتها كي تتخلف بعض الشيء عن زوجها عمداً، لتفرش عباءتها على مصراعيها كأنها فراشة ربيعية، ولترفع يدها إلى جبينها، وتمنح نزار تحية بيد مرتجفة، وبنظرات حائرة، وبابتسامة مرتبكة، لا معنى لها سوى إنها ما زالت تتذكر تلك اللحظات العذبة، وانها سعيدة جداً بهذا اللقاء الخاطف، الذي كان في نفس الوقت لقاء ووداع.
__________________________________________________________________
* (الزعيم عبد الكريم قاسم)
محمد حسين النجفي
www.mhalnajafi.org
#محمد_حسين_النجفي #الزمن_الجميل #قصة_حب_بغدادية
لقد آن الأوان لإعادة تنظيم الهيكل الإداري لمحافظة بغداد الكبرى. ودعونا نبحث هذا الموضوع بقدر كافِ من التحليل والموضوعية. حيث قُدرت نفوس العراق لعام 2020 على ما يزيد على أربعين مليون نسمة، ونفوس بغداد بحدود التسعة ملايين نسمة. إن نفوس محافظة بغداد بمفردها تمثل أكثر من خُمس سكان العراق. وإذا استبعدنا إقليم كردستان، فإن نفوس بغداد ستمثل أكثر من ربع سكان بقية العراق. إن متوسط نفوس المحافظات السبعة عشر الباقية، فيما عدا محافظة بغداد أقل من مليوني نسمة. أي إن نفوس محافظة بغداد تعادل حوالي خَمس محافظات كبيرة وحوالي تسع محافظات مثل محافظة المثنى. طبعاً التباين في عدد النفوس وحجم المساحة الجغرافية للمحافظات مسألة طبيعية، ولكن ليس بالضرورة أن يبقى القديم على قِدمه. فنحن نعلم أن محافظات النجف وصلاح الدين ودهوك استحدثت في منتصف السبعينات، نتيجة للتطور السياسي والسكاني. فمحافظة بغداد تطورت خلال الستين عاماً الماضية سكانياً وجغرافياً لجملة عوامل مختلفة، بشكل لا يتناسب مع النمو العام في بقية المحافظات، مما أدى الى أختناقات مرورية، وانخفاض في تقديم الخدمات الحكومية الأساسية، وانخفاض كبير في الأمن والأمان. فمن أجل أداء أفضل لمحافظة بغداد الكبرى أقترح تقسيمها الى ثلاث محافظات، آخذين بنظر ألاعتبار التوزيع السكاني، والتباين الثقافي والاقتصادي والاجتماعي بين وَسَط بغداد وبين شرقها وغربها، وضوابط جغرافية طبيعية او مخططة عمرانياً، مع التأكيد على ان هذا التقسيم ليس لأسباب عرقية او طائفية، وإنما لأسباب ادارية وجغرافية تتيح فرصة إدارية وخدمية ومالية ورقابية افضل. إن تحويل محافظة بغداد الكبرى الى ثلاث محافظات سيمنحها القدر والقيمة التي يستحقها سكانها. إن معظم مناطق محافظة بغداد هي مناطق مأهولة دون فجوات او فراغات طبيعية تساعد على التقسيم، فيما عدا نهر دجلة الخالد وقناة الجيش العظيمة. لذا اقترح ان تُقسم محافظة بغداد الكبرى الى ثلاث محافظات كبيرة ايضاً، كما هو موضح في الخريطة التوضيحية أعلاه، مستفيدين من نهر دجلة الذي يفصل جانب الكرخ عن الرصافة، وقناة الجيش التي تفصل جانب الرصافة عن مدينة الصدر (الثورة). إن التقسيم الإداري المقترح سوف يمنح هذه المحافظات ما يلي:
إن الغرض الأساسي لهذا الحِوار وإن كان متأخراً بعض الشيء، هو بدأ الحِوار لتحسين كفاية الأداء الخدمي وتمكين المواطنين من اختيار ممثلين عنهم من بين مناطقهم وبيئتهم، وتمكينهم من مراقبة الأداء بشكل مباشر ومحاسبة المقصرين. وقد يؤدي ذلك الى تحسين أداء الخِدْمَات مثل الكهرباء والماء وجمع القمامة وتبليط الشوارع ونظافتها، وتحسين أداء التعليم بكل مراحلة من الحضانة حتى الدكتوراه، وتخفيف أزمة السكن والمواصلات.
محمد حسين النجفي
كانون الثاني 2014
أعيدت كتابته وتقديمه في أيلول 2021
#بغداد #محافظة_بغداد #محمد_حسين_النجفي #الكرخ_الرصافة