“لا ظلم لا جور، واضح بكل دور، إنته العدل والقانون، إنته نظام لهل الكون”
كما ذكرت في الحلقة الأولى من أنني كل سنة أذهب إلى مدينة مولدي، مدينة النجف الأشرف في ذكرى وفاة الأمام علي (ع). وفي أحد الأعوام ذهبت مع مجموعة من الأصدقاء، كان من بينهم صديق اعتز به كثيراً لطيبة قلبه وأريحيته، كذلك لانقطاع أخباره عني منذ فارقت أرض الوطن. أنه الأخ الطيب “عبد الأمير حاج هادي حسين” الذي لا يعرف ألابتسامة لأنه دائم الضحك والهزل، لذا لا يمر بمرحلة الابتسامة ثم الضحك، وإنما ابتسامته ضحكٌ من أعماق القلب. على أية حال كان ذلك في نهاية ستينات القرن الماضي، وكنا مجموعة من الشباب، يمكن أن تقول عنا رافضين للواقع ومتمردين عليه بكل أبعاده. لا بل كنا حتى في حالة ضياع بين افكار عديدة ومشاعر مبعثرة هنا وهناك، بشكل غير منظم او مبرمج. رافضين كل شيء، تواقين لما هو جديد ومثير وثوري التفكير.
كان لي مع أموري عدة سفرات منها سفرة الى الشمال، حيث زرنا شقلاوة وصلاح الدين، وكانت من امتع السفرات التي لا يمكن نسيانها وما دار فيها من لعب ولهو بريء وغير بريء. المهم في ذلك العام قررت أن آخذ أموري معي الى النجف، كي أريه مدينتي العظيمة، مدينة الأمام علي (ع)، مدينة الثقافة والعلوم، مدينة الأدباء والشعراء، مدينة المناضلين والثوار الذين لم يهادنوا محتلين او طغاة.
وكالعادة في ليلة أستشهاد أمير المؤمنين، تخرج المواكب من مقراتها بتجاه ميدان النجف، مروراً بالسوق الكبير الذي عادة يكون في رمضان زاهياً بشرائط المصابيح والفوانيس المعلقة، والأعلام المرففة، واللافتات التي تعزي المسلمين بوفاة الأمام، حيث المتاجر زاهية بأجمل البضائع التي يتسوقها الزوار، مثل العطور والسبح ومحابس الفضة للرجال. ذهبنا معاً للسوق الكبير حيث ردات المواكب تصدح، لأن السوق مُسقف، لذا يكون الصوت مدوياً ومؤثراً بشكل يهز الأبدان. نظل في السوق الكبير حتى يأتي الموكب الذي انتظره، وهو موكب عزاء “البراق” الذي يدخل السوق متأخراً من الليل الى الصحن العلوي.
سرنا أنا وأموري مع موكب البراق، لاحظت صاحبي في حالة من التفاعل والانفعال، ولكني اعرفه انه لا يعير لهذه المراسيم والعادات أهمية، لا بل إنها جزء مما نحن متمردين عليه. المهم وصل الموكب الى محطته في الصحن العلوي، وبدأ الرادود عبد الرضا بصوته العاطفي المدوي، يلقي قصيدة للشاعر الحسيني عبد الحسين أبو شبع. كنا جالسين القرفصاء وظهرنا متكئٌ على سياج الرواق، وبدأ الحماس يأخذ مجراه، حتى وصل اللطم الى مراحل “النزلة” وهي اللطم الحماسي المتسارع، وإذا بيّ أفاجئ بأموري يخفي وجهه بين ركبتيه ويغطيه بيديه، وبدأ بالضحك، ولا أرى منه سوى كتفيه يهتزان من شدة الضحك. هنا جن جنوني: “أموري دخليك اسكت، أموري ولك فضحتنه، أموري أستر علينا، أموري ترى والله يطبرونا اليوم، أموري الله يخليك، أموري………”، وإذا به يرفع رأسه، وهو يجهش بالبكاء وليس بالضحك، كان متفاعلاً مع القصيدة والجمهور، والمشهد المؤثر بما فيها الرادود والكلمات والجمهور والبخور والأجواء المليئة بالعواطف الإنسانية التي تبكي “علي” الإنسانية، “علي” العدالة الاجتماعية، “علي” الزهد، “علي” التبرم عن تفاهات الحياة وترفها، “علي” التواضع والبساطة، “علي” العادل حتى بمحاسبه قاتله. انتهت القصيدة، وبدأ الجَمهور يتفرق وأموري مازال مقفلاً يديه على وجهه. مشاعر إنسانية فياضة دخلت القلب دون برمجة أو إستأذان، مليئة بالمحبة لعمل الخير والعطاء، كما هي رسالة الأمام علي (ع). ومن بين إحدى القصائد التي نظمها
الشاعر عبد الحسين أبو شبع وقرأها الرادود عبد الرضا بحق الأمام علي:
لا ظلم لا جور
واضح بكل دور
إنته العدل والقانون
إنته نظام لهل الكون
محمد حسين النجفي
18 نيسان 2021
السادس من رمضان
موقع محمد حسين النجفي
يتبع رمضانيات (3)
#محمد_حسين_النجفي
“رائحة العطور وماء الورد والبخور تُكوْن مِسكاً لا تمحي السنين عبيره من ذاكرة الحواس الخمس برمتها”
كعادتي أذهب إلى مدينة مولدي، مدينة النجف الأشرف في العشرين من رمضان كل عام، ليلة أستشهاد الأمام علي (ع). أذهب كل مرة مع مجموعة مختلفة من الأصدقاء، وكأني دليلٌ سياحي وديني في موسم رمضان. تبدأ زيارتنا للذهاب إلى دكان المرحوم الحاج علي مرزة، صديق والدي منذ الطفولة، الذي كان دكانه جزء من المحلات المرتبطة بالسور الخارجي للصحن العلوي في دورة الصحن قبل التوسع والأعمار، ومن الجهة المقابلة لجادة (شارع) الرسول الذي يفصل ما بين محلة الحويش ومحلة البراق القديمتين. الحاج علي يتوقعنا في هذا اليوم من كل عام حيث يدعونا إلى بيته على مائدة أفطار لا يمكن التوقف فيها عن الأكل إلا إذا شعرنا بالاختناق. الفسنجون والسبيناغ ( السبزي) النجفي، والحلاوة الطحينية التي ما زالت رائحتها في أنفاسي. ولابد بعد ذلك من التمدد قليلاً قبل ان نشرب الشاي، قبل الذِهاب لزيارة السوق الچبير (الكبير) في النجف، حيث نأكل حلاوة “الدهينية” المشهورة، ثم لأريهم الدكان الذي كان لابي والمجاور لمقهى الحاج حسين القهواتي. تكون معظم المحلات مفتوحة في السوق لساعات متأخرة ما بعد منتصف الليل. رائحة العطور وماء الورد والبخور تُكوْن مِسكاً لا تمحي السنين عبيره من ذاكرة الحواس الخمس برمتها.
وفي ليلة أستشهاد أمير المؤمنين (ع) تخرج المواكب الواحدة بعد الآخر لتبدأ من ميدان النجف وهو أكبر ساحة في النجف آن ذاك (قبل تشييد ساحة ثورة العشرين)، لتدخل في السوق الكبير متوجهةً للصحن العلوي، حيث تدخل الصحن من باب “الساعة” يرافقها عادة مفرزة من الشرطة وأمام الموكب يسير أصحاب (كفلاء) الموكب والقائمين عليه ووجهاء المحلة التي يمثلونها. وهي مواكب ردات، يتكونون على شكل عدة مجموعات، عادة يكون لهم ردتين تكمل إحداهما الأخرى. مضمون الردات عن جرح واستشهاد الأمام، مُطعمة عادة بالأحداث السياسية لذلك العام. ردات معظمها أنتقادية لأخفاقات حكومية سياسية واجتماعية أو اقتصادية. ردات تحمل الكثير من الوعي والتحدي للحاكم في كل العهود دون استثناء. وحينما يدخل الموكب الصحن العلوي يكون الموكب الذي سبقه على وشك أن يختم جلسته. وطبعاً توقيتات دخول وخروج المواكب مجدولة بشكل دقيق جداً، منعاً لأي احتكاك ممكن أن يحدث بين المواكب. هناك نوع من ألاعتزاز بالانتماء لموكب معين، وبذلك ممكن أن تحدث مصادمات إذا ما حاول موكب أن يأخذ وقتاً اكثر من المخصص له.
يتوقف جَمهور الموكب على إحدى جهتي الصحن، وبالجهة المعاكسة من الصحن للموكب الذي سبقه منعاً للأحتكاك، ثم يبدأ الرادود بقراءة المستهل (ردات اللطم)، ويبدأ الأحماء تدريجياً كي يحفظ الجَمهور المستهل. أنا من عُشاق الرادود المرحوم عبد الرضا الذي كان يقرأ للشاعر الحسيني المناضل الشهيد عبد الحسين أبو شبع لموكب “البراق” المعروف بتوجهاته السياسية الوطنية. صوت المُلا عبد الرضا النجفي صوت جَهْوَري وقوي، يسيطر على الجَمهور سيطرة كاملة. يشد الانتباه إليه، حيث لا تسمع أي دردشة أو حتى همساً بين الحضور. في هذه الأثناء تبدأ حملة جمع التبرعات للموكب بواسطة “وكافة” (أداري) الموكب، لتنقل بأيادي مرفوعة كي يراها الجميع، من شخص لآخر لحين وصولها بيت مال الموكب قرب منبر الرادود.
تبدأ ردات اللطم هادئة أول الأمر، لتشتد حماساً مقطع بعد آخر، وكثيراً ما يطالب الجَمهور الرادود بالإعادة، وأحياناً بإلحاح لأنه لا يريد أن يعيد باستمرار ويتأخر عن موعد الختام. وحينما يطلب الجَمهور الإعادة أول مرة، يُعلن الرادود أسم الشاعر الذي نظم تلك القصيدة، حينها يهيج الجَمهور مُحيياً شاعرهم الشعبي الحسيني.
بعد ذلك نذهب لدار الحاج علي مشياً، ورائحة الطبخ الزكية تأتينا من كل ألاتجاهات، لنرى الكثير من البيوت والمواكب والحسينيات والتكيات تطبخ في الشوارع والعكود (الأزقة)، خاصة ألتمن البسمتي والقيمة النجفية المشهورة، كي يبدأ التوزيع المستمر ولا سيما لوجبة السَّحُور. وعلى ذكر السَّحُور، فبعد أن ننام ساعتين أو أقل، يتم إيقاظنا للسحور. والسحور هنا أكل يختلف كلياً عن أكل الفطور. انه من الوزن “الخفيف جداً”!، دجاج مقلي، كبة حلب مقلية، كباب عروك،…. وغير ذلك مما يسمى “نواشف”! ننام بعد ذلك، ولا نستيقظ إلا ظهراً، حيث تكون مَحَالّ المدينة مغلقة كلياً حِداداً بمناسبة ذكرى وفاة الإمام علي (ع).
14 نيسان 2021
اليوم الثاني من رمضان
#رمضان #النجف-الأشرف #الأمام-علي #محمد_حسين_النجفي
محمد حسين النجفي
موقع محمد حسين النجفي
يتبع رمضانيات (2)
الفصل الثاني من سلسلة اليوبيل المئوي لتأسيس الدولة العراقية
لقد كانت أهداف وطموحات الشريف حسين وأبنائه عبد الله وفيصل وعلي وزيد، واسعة وكبيرة. لم تتحدد تلك الآمال بتحرير الحجاز وبلاد الشام من الهيمنة العثمانية فحسب، وإنما تأسيس دولة عربية شرق أوسطية تمتد حدودها بدءا لتشمل الحجاز والعراق والشام وفلسطين. وليكون الشريف حسين ملكاً وأبناءه أمراء على هذه البلدان، وهذا يعني ربما تأسيس خلافة عربية حديثة على الأراضي غير التركية التي كانت تابعة للدولة العثمانية. فهل أستطاعة هذه العائلة تحقيق ما كانت تصبوا إليه أم لا؟
الأمير فيصل وإن لم يكن أكبر أبناء الشريف حسين، إلا انه كان انشطهم وأكثرهم تدريباً لتحمل المسؤوليات العسكرية والعلاقات السياسية، خاصة مع الحليف الجديد بريطانيا العظمى، عن طريق لورنس العرب. حيث كان فيصل بمنزلة وزير دفاع الشريف حسين ورئيس أركان جيشه. لذلك استبق فيصل الأحداث وأقدم على تحرير دمشق مع لورنس العرب عام 1918، دون التشاور مع الإنكليز على ما يبدو. لماذا على ما يبدو؟ لأن بلاد الشام كانت من حصة فرنسا بموجب معاهدة سايكس بيكو لعام 1916، ولأن معاهدة سايكس بيكو كانت سرية. وليس من المعقول تصور موافقة إنكلترا على دخول فيصل دمشق محرراً. انفضح أمر معاهدة سايكس بيكو السرية بعد أستيلاء البولشفيك على السلطة في روسيا، وتدهور العلاقات بين روسيا الاشتراكية والتحالف الغربي. حيث فضحت روسيا هذه ألاتفاقية التي كانت طرفاً فيها. بعد ذلك أرغم فيصل على الخروج من الشام، وكانت صدمة قوية له، وتضعضع كبير للعلاقات، وانعدام مزمن للثقة بينه وبين ألإنكليز.
بعد أن أنتفض العراقيون في ثورة العشرين، تعقدت الأمور وأدرك الإنكليز صعوبة أدارة العراق من قبل القوات الإنكليزية بشكل مباشر. حيث جرى التفكير بتكوين أدارة وطنية، من الموالين للتاج البريطاني. وبذلك انعقد مؤتمر القاهرة في آذار 1921 الذي حضره ونستون تشرتشل وزير المستعمرات البريطاني، والمندوب السامي السير بيرسي كوكس ومس بيل من أدارة العراق الإنكليزية، وجعفر العسكري وساسون حسقيل نيابة عن وزارة عبد الرحمن الكيلاني المشكلة حديثاً تحت إشراف السير بيرسي كوكس. أقر المؤتمر الأمير فيصل ملكاً على العراق بشرطين، الوصاية البريطانية وبيعة العراقيين له. الوصاية كانت أمراً مفروغاً منه نتيجة لسيطرة القوات البريطانية على عموم العراق، وقرار الحلفاء في مؤتمر سان ريمو. أما بيعة العراقيين أو لنقل بيعة “الأشراف” ممثلين بالشيوخ والسادة ورجال الدين والموظفين الكبار الذين كانوا جزءاً من الإدارة العثمانية، فإنها لم تمر بالسهولة ذاتها.
نعم تعثرت بيعة العراقيين للأمير فيصل، مما اضعفه كثيراً في تفاوضه مع سلطة ألانتداب البريطاني. فعلى سبيل المثال فإن لواء كركوك والسليمانية صوت ضد الأمير فيصل، وان لواء أربيل والموصل اشترطا ضمان حقوق الأقليات كما وردت في معاهدة سيفر لعام 1920. أما لواء البصرة فقد أشترط أن يكون الأمير فيصل ملكاً على “العراق والبصرة”، بمعنى أن البصرة عُدت إقليم متحد مع العراق وليست جزءاً منه. أما لواء الدليم والحلة والمنتفك والعمارة فكانت بيعتهم مشروطة ببقاء إشراف بريطانيا العظمى. ولم يمنح البيعة المطلقة سوى لوائي كربلاء وديالى. أما لواء بغداد فقد بايع الأمير فيصل بشروط عدّة منها التأكيد أن يكون العراق دولة دستورية حرة ديمقراطية مستقلة مجردة من كل قيد ومنقطعة عن سلطة الغير(1). وبعبارة أخرى فإن:
“البيعة كانت لبريطانيا العظمى أكثر من كونها بيعة للأمير فيصل”
مع كل تلك المعوقات والتحفظات التي أشترطها أشراف المدن العراقية الرئيسة، تمّ تتويج فيصل ملكاً على العراق في يوم 23/8/ 1921، بناء على طلبه، كي يصادف ذكرى يوم عيد الغدير الذي اعلن فيها النبي محمد (ص) من أن الأمام علي (ع) خليفة من بعده(2) بمقولته المشهورة “من كنت مولاه فهذا عليٌ مولاه”، ولم يعترض المندوب السامي البريطاني على ذلك. وعلى الرغم من أن الأسباب التي دعت الملك لهذا الاختيار، غير معلنة، إلا ان الملك الجديد أراد أن يكون ملكاً لكل العراقيين، ووفاء لأهل النجف الأشرف الذين قادوا الثورة على الإنكليز والذين رحبوا به بحرارة حينما زارهم قبل الموافقة على الترشيح. أمام هذه المبايعة والتتويج المشروط من جهتين متعارضتين هما أشراف المدن العراقية ورؤساء العشائر من جهة، وشروط الإنكليز ومصالحهم من جهة أخرى، أدرك فيصل أن مهمته صعبة جداً، إلا انه كان مصمماً على النجاح، خاصة بعد التجربة المريرة التي خاضها في الشام.
هناك جملة عوامل ساعدت الملك فيصل أن يحكم العراق افضل من غيره، من بينها انه لم يكن عراقياً بالمولد. وبذلك فإنه غير محسوب على هذه العشيرة أو تلك، على الشمال أو الجنوب، على هذه المدينة أو تلك، وهذا ما يجعله حيادياً في التعامل مع الجميع بشكل متوازن. وبنفس الوقت فإن عدم كونه ليس عراقياً عُدّ عامل ضعف لانه فاقد لأي إسناد سكاني او مناطقي يعتمد عليه. كذلك فإنه هاشمي النسب، شافعي المذهب، وهذا ما يجعله مقبولا من قبل الشيعة والسنة. أما شخصيته وتدريبه كعسكري وعلاقاته الدولية، فإنها متميزة بين أقرانه في ذلك الزمان. وكان للضباط الشريفيين دوراً كبيراً في إسناده ولا سيما نوري السعيد وجعفر العسكري، وجميل المدفعي وعلي جودت الأيوبي.
مع ذلك كانت هناك عوامل ضعف لدى الملك فيصل كان يدركها قبل غيره، من بينها انه لم يدخل العراق محرراً مثلما دخل الشام، لا بالعكس دخل العراق وهو مُبعداً بالقوة من ارض الشام. كذلك فإن الأغوات والمشايخ، كانوا كثيري المطالب، مستغلين للظروف الصعبة، للحصول على المزيد من أراضي الدولة دون مقابل، وإعفاءات ضريبية لا حصر لها. وبما أن الإنكليز هم من أتوا بفيصل إلى العراق، فإن اسمه اصبح لصيقاً للانتداب البريطاني.
كان الملك فيصل يدرك ما له وما عليه، ومع ذلك لم يكن أمامه سبيل إلا أن يبذل جهداً مضاعفاً لخلق توازنات قلقة تكاد تكون يوماً بيوم، للوصول إلى طموحاته وأهدافه العامة التي يمكن تحديدها بما يلي:
لتحقيق ذلك كان عليه أن يكون مناوراً برعاً، وكان يستعمل الإنكليز للضغط على وجهاء العراق الذين يطالبون بالاستقلال، الذي لم يكن عملياً في حينه، لوجود القوات البريطانية، وعدم وجود قوات أو جيش عراقي للوقوف بوجهها. ومن ناحية أخرى كان يستغل تذمر وشكوى العراقيين تجاه ألانتداب البريطاني، والاستفادة من ألانتفاضات العشائرية في الجنوب ومنطقة الفرات الأوسط مثل حركة سالم الخيون عام 1924، وانتفاضة عشائر المياح في الحي عام 1927، وغير ذلك الكثير، للضغط على الإنكليز للحصول على مكتسبات تدريجية في مفاوضاته من اجل الاستقلال التام.
كان هدفه الأسمى هو تحقيق السيادة الكاملة للعراق، لذلك تعهد في خطاب العرش: “ألا وأن اول عمل أقوم به، هو مباشرة الانتخابات وجمع المجلس التأسيسي. ولتعلم الأمة أن مجلسها هو الذي سيضع بمشورتي دستور استقلالها على قواعد الحكومات السياسية الديمقراطية”(3)، كذلك استمد زخماً وأسنادا من مدن “بغداد والنجف وكربلاء، حيث كان للوطنيين تأثير ملحوظ يسانده العلماء، برز رأي مميز يتمثل في إقامة وحدة جغرافية للعراق من البصرة إلى الموصل وحكم عربي”(4) وبذلك دخل مع الإنكليز بمساومات ومفاوضات مضنية ومتعبة. وكان جعفر العسكري ونوري السعيد، يداه اليمنى واليسرى. وكان للإنكليز مصالح اقتصادية وعسكرية واسعة في العراق. فهم لم يحتلوا العراق كي يستلمه فيصل منهم بسهولة ودون قيد أو شرط. الشرطين الأساسين هما المصالح الافتصادية ومرتكزها أمتيازات التنقيب واستخراج النفط، والثاني الوجود العسكري لحماية هذه المصالح. وهذا ما ضمنته معاهدة 1930 بين العراق وإنكلترا، التي هيئت ومهدت لدخول العراق عصبة الأمم المتحدة عام 1932. تمت المفاوضات النهائية للاستقلال بالوزارة الثانية لنوري السعيد ووزير دفاعها وخارجيتها صهره جعفر العسكري. سبق تلك كتابة أول دستور (القانون العام) عام 1925، خلال حِقْبَة وزارة ياسين الهاشمي. دستور غير موفق لسببين، الأول منحه صلاحيات واسعة للملك وللسلطة التنفيذية، وتقليل دور السلطة التشريعية والقضاء، وكان المفروض أن يكون العكس. السبب الثاني أن هذا الدستور استثنى من تطبيقه على سكنة الريف، الذين يشكلون 75% من السكان في حينه، ليخضعوا لقانون العشائر الجائر الذي يمنح الشيخ صلاحيات مطلقة أوسع من صلاحيات الملك نفسه. وقد أدى ذلك إلى سيطرة عدد محدود من الشيوخ المتنفذين على مساحات شاسعة من الأراضي الخصبة، حيث تغيرت أدوارهم من شيوخ يرعون أفراد عشيرتهم، إلى أقطاعيين وبيدهم السوط كي يبتزّوا عرق جبين المزارعين.
أستطاع فيصل الأول أن يحقق الهدف الأسمى بإنهاء الانتداب البريطاني ودخول عصبة الأمم المتحدة ولو بشروط، وهذا إنجاز لا يمكن التقليل من أهميته بأي شكلٍ من الأشكال، خاصة إذا علمنا أن العراق أصبح بموجب ذلك أول دولة عربية حصلت على الاستقلال، وقُبلت عضواً في عصبة الأمم المتحدة. إلا انه لم يحقق نجاحاً، لا بل اخفق في توحيد مكونات الشعب العراقي لتنصهر في بودقة الوطنية العراقية الموحدة، ويظهر ذلك جلياً في مغزى المذكرة السرية للملك فيصل الأول في آذار من عام 1933 التي جاء فيها:
” وفي هذا الصدد وقلبي ملآن أسى أنه في اعتقادي، لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد كتلات بشرية خيالية، خالية من أي فكرة وطنية، مشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة، سماعون للسوء، ميالون للفوضى، مستعدون دائما للانتفاض على أي حكومة كانت، فنحن نريد – والحالة هذه – أن نُشكل من هذه الكتل شعبا نُهذبه ونُدربه، ونُعلمه، ومن يعلم صعوبة تشكيل وتكوين شعب في مثل هذه الظروف يجب أن يعلم أيضا عظم الجهود التي يجب صرفها لإتمام هذا التكوين، وهذا التشكيل “(5)
بهذه المرارة والإخفاق والمسيرة الطويلة المتعبة، تعرضت حالة الملك الصحية إلى متاعب، تطلب منه ذلك السفر إلى سويسرا للراحة والاستجمام والعلاج. إلا انه توفى في اليوم الثامن من أيلول عام 1933 في ظروف وصفت بأنها غامضة. ترك لنا مؤسس الدولة العراقية إرثاً يستحق الافتخار به، ومشروع دولة وطنية موحدة لم يُستكمل حتى وقتنا الحالي. وربما من المناسب أن تتصدر صورته مكاتب وقاعات الدوائر العراقية الرسمية وشبه الرسمية، باعتباره مؤسس الدولة العراقية والأب الروحي للوحدة الوطنية، بدلاً من صور الطغاة والفاسدين، وسياسي الصدفة.
محمد حسين النجفي
22 آذار، 2021
المصادر:
(1) عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات العراقية الجزء (1)، بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، ص 59.
(2) نفس المصدر، ص65.
(3) نفس المصدر، ص 68.
(4) كاظم نعمه، الملك فيصل والإنكليز والاستقلال، بيروت، الدار العربية للموسوعات، ص 32.
(5) عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات العراقية، بغداد، دار الشؤون الثقافة العامة، الجزء (3)، ص317.
#نوري-السعيد #فيصل-الأول #جعفر-العسكري #لورنس-العرب #معاهدة-سايكس-بيكو #العهد-الملكي #تأسيس-العراق #محمد_حسين_النجفي
https://mhalnajafi.org/
” الفصل الأول من سلسلة اليوبيل المئوي لتأسيس الدولة العراقية”
تقديم من قبل الأستاذ الدكتور محمد عبد الرضا شياع المحترم:
أخي وصديقي أبا عامر: مساء الخير والحبور
أسعدني جداً هذا المقال غير التقليدي، وأني لأرى أهمية الكتابة تتجلّى في بذر قلق السؤال بأرض القارئ، فالكتابة المتصالحة لا تضيء وعي المتلقي، أو كما يرى يوري لوتمان بتعريفه للحركة، التي يقول عنّها لا تعني الانتقال من مكان إلى آخر، وإنما تعني الحركة الانتقال من وعي إلى آخر، وعندما ننظر إلى مياه البحيرة الراكدة، نشعر بالتساكن الذهني، ولكنّ الدوائر التي تخلقها الحجارة التي نلقيها فيها إبعاداً للضجر، هي التي تحفّز العقل على الاستيقاظ، والخيال على ابتناء الصور، شخصيّاً لا أحفل بإنجازات المؤرخين الذين لا يطرقون سبل المحجّات الموحشة لقلة سالكيها، وهي التي توصل إلى الواقع المُعيش، وربما إلى الحقيقة المغيبة، فالمغيّب والمسكوت عنه أضحى عندنا درساً مدرسياً نفرح به، وكأنّه الحقيقة، وهي ليست كذلك، لقد شدّني المقال (ما قبل تأسيس الدولة العراقية) من فقرته الأولى، التي استدرجتني إلى المتابعة، لأخرج بوعي مغاير، وإن كانت لبنات المقال الأولى هاجعة في كهوف ذاكرتي، عليه دعني أقول: هذا مقال ممتاز، وتتمثّل ميزته في تحريض القارئ على السفر إلى منابع السؤال، لعلّه يؤوب بالإجابة التي تشي بالواقع.
أشكرك أبا عامر، فبقراءة هذا المقال أُعِدُّ مسائي اليوم من مساءات القراءة العاشقة.
أشكرك صديقي!
أخوك أبو إيناس
المقالـــــــــــــــــــــــــــــــــــــة:
لم تكن هناك دولة مركزية بمعنى الكلمة اسمها الدولة العراقية قبل عام 1920(*)(1)، سواء كدولة حرة أو دولة تابعة لإمبراطورية أو دولة أخرى. إنما كان هناك ولايات مثل ولاية البصرة وولاية بغداد وولاية الموصل، وكلها تابعة بشكل مباشر إلى سلطان الدولة العثمانية ومقرها الآستانة. وعليه لم تكن هناك روابط أدارية حكومية بشكل مركزي ترتبط به هذه الولايات الثلاث. وعدم وجود كيان حكومي لا يعني عدم وجود شعب عراقي مترابط بشكل وآخر مع بعضه عن طريق التجارة والعلاقات الدينية والنسب العشائري والقبلي. كذلك لا يعني عدم وجود مشاعر وطنية عامة وتفكير جمعي بوطن موحد لأرض العراق وشعب العراق.
لقد أُطلقت على العراق أسماء عدّة عبر الزمان والمكان، فعُرف ببلاد ما بين النهرين، وأرض الري، أووروك، وبابل، وسومر، وأكد، ونينوى، وأرض السواد، ووادي الرافدين، وموسابوتميا. أما الحدود الجغرافية فهي أيضاً اختلفت باختلاف الزمان والمكان، فكانت ألامبراطوريات القديمة تعتمد على مدينة واحدة، مثل سومر ومركزها مدينة أُور، والبابليون مدينة بابل، والآشوريون مدينة نينوى. وفي العصور التي تلتها كانت مدن البصرة والكوفة والحيرة لتضاف بعد تلك مدينة بغداد لتكون عاصمة الدولة العباسية في عهد ابو جعفر المنصور. وليتطور الزمان وتتكون مدن جديدة لها أهمية دينية مثل النجف الأشرف وكربلاء وسامراء والكاظمية. لذا فإنّ الجغرافية السياسية للعراق أو لأرض العراق او حينما يقال أهل العراق، المقصود بها ما تؤطرهُ المدن المذكورة وما بينهما وما حولهما من مجمعات كبيرة وصغيرة وقرى ريفية والبدو الرحل الذين يصلون مشارف هذه المدن ولو في مواسم الرعي فقط. فكيف تكوّن العراق الحديث كدولة كما نعرفها اليوم؟ في أعتقادي أن هناك ثلاث عوامل رئيسة أدّت دورها في تأسيس العراق الحديث عام 1921:
العامل الأول هو تدهور الدولة العثمانية تدريجياً، وفقدانها السيطرة على ما يحدث في الولايات غير التركية التابعة لها في اوربا وشمال افريقيا والحجاز أو العراق والشام. وأنعكس ذلك في صراع بين الأشخاص والتيارات السياسية في مراكز قِوَى الدولة العثمانية. ففي عام 1909 أسقط الضباط القوميون الأتراك السلطان عبد الحميد الثاني، وسيطر محمود شوكت باشا على إسطنبول. وبدأ صراع مفتوح بين أفكار واتباع “تركيا الفتاة” الليبرالية وبين أفكار وأتباع “الاتحاد والترقي” التي تؤمن بتتريك الشعوب غير التركية. وفي خضم هذا الصراع ظهرت شخصية القائد مصطفى كمال الذي هزم الحلفاء في المعارك البرية في مضيق الدردنيل في الأعوام 1915/ 1916. وفي عام 1922 تنازل السلطان محمد السادس عن العرش لعبد المجيد الثاني، حيث وقع مصطفى كمال معاهدة لوزان مع الحلفاء متنازلاً بموجبها عن الأراضي غير التركية للحلفاء. وفي عام 1924 ألغيت الخلافة العثمانية التي كانت تحكم بأسم الدين وتمّ تأسيس الجمهورية التركية الحديثة كدولة عَلمانية، على يد مصطفى كمال الذي سُميّ “أتاتورك” ومعناه أبو الأتراك(1).
العامل الثاني هو التنسيق بين الشريف حسين وابنه الأمير فيصل مع الإنكليز عن طريق مكماهون ولورنس العرب. حيث أدت هذه الثورة التي ابتدأت عام 1916 إلى توجيه الضربات الواحدة بعد الأخرى للقوات العثمانية في الحجاز وشرقي الأرْدُنّ، ومن ثمّ تحرير الشام عام 1918. ولقد ألهمت الثورة العربية، العديد من الضباط العراقيين والسوريين الذين يعملون في الجيش العثماني لإعادة النظر في ولائهم للسلطان العثماني، ومنهم نوري السعيد وجعفر العسكري وياسين الهاشمي ومولود مخلص، حيث التحق العديد منهم للعمل جنباً إلى جنب مع الأمير فيصل لتحرير الشام وكان من المفروض السيطرة على مصير الشرق الأوسط العربي تحت أمرة الشريف حسين وأبنائه. بعد ذلك انصب اهتمام الضباط العراقيين الشريفيين نحو السلطة في العراق الذي استكمل الإنكليز السيطرة عليها كلياً عام 1917.
أما العامل الثالث فهو توجه الإنكليز للسيطرة على العراق الغني بالموارد النفطية(2) والأراضي الزراعية الخصبة، وانتزاعها من قبضة الدولة العثمانية. حيث دخلت القوات الإنكليزية عن طريق ميناء البصرة عام 1914 واستمرت بالتحرك شمالاً لاحتلال بغداد، والسيطرة كلياً على العراق في عام 1917. إن خروج العثمانيين من العراق احدث فراغاً سياسياً وإدارياً. تبع ذلك إقرار الحلفاء في مؤتمر سان ريمو انتداب إنكلترا على العراق في 25 نيسان 1920.
بعد تحرير الشام من قبل الشريفيين، بقيادة الأمير فيصل، طالبت فرنسا إنكلترا بتطبيق معاهدة سايكس- بيكو السرية التي قَسم فيها الحليفان، الشرق الأوسط دون دراية الشريف حسين. وبذلك أخذوا يضغطون على فيصل بالتخلي عن الشام للإدارة الفرنسية. ولم يرغب ألإنكليز ان يحكموا العراق بشكل مباشر، لذلك بدأت الإدارة الإنكليزية عن طريق مراكز التخطيط ألاستراتيجي في الهند والقاهرة ولندن في البحث عن افضل وسيلة لحكم العراق. وعلى الرغم من ترشيح العديد من الشخصيات العراقية الطموحة لأنفسهم كي يحكموا العراق أمثال طالب النقيب من أشراف البصرة وعبد المحسن السعدون من أشراف المنتفك والشيخ خزعل الكعبي أمير المحمرة، وياسين الهاشمي الضابط الشريفي الطموح وغيره العديد، إلا إن الإنكليز وجدوا في الأمير فيصل بن الشريف حسين الحل الأفضل، لسببين، الأول تعويضه عن تخليه عن حكم الشام، والثاني تلمس الإنكليز رغبة العراقيين بحاكم من العائلة الهاشمية التي يحترمها شيعة وسنة العراق، خاصة بعد ثورة العشرين.
بذلك انعقد مؤتمر القاهرة في آذار 1921 الذي حضره المندوب السامي البريطاني السير بيرسي كوكس ومس بيل من ادارة العراق الإنكليزية وجعفر العسكري وساسون حسقيل نيابة عن وزارة عبد الرحمن الكيلاني المشكلة حديثاً تحت إشراف السير بيرسي كوكس. وقد تم في هذا المؤتمر الذي حضره مستر ونستون تشرتشل، إقرار الأمير فيصل ملكاً على العراق بشرطين، الوصاية البريطانية وبيعة العراقيين له. الوصاية كانت أمراً مفروغاً منه نتيجة لتواجد القوات البريطانية وقرار الحلفاء في مؤتمر سان ريمو. أما بيعة العراقيين او لنقل “أشراف” العراقيين ممثلين بالشيوخ والسادة ورجال الدين والموظفين الكبار الذين كانوا جزءاً من الإدارة العثمانية، فإنها لم تمر بالسهولة ذاتها.
نعم تعثرت بيعة العراقيين للأمير فيصل، مما اضعفه كثيراً في تفاوضه مع سلطة الانتداب البريطاني. فعلى سبيل المثال، فإن لواء كركوك والسليمانية صوت ضد الأمير فيصل، وان لواء أربيل والموصل اشترطا ضمان حقوق الأقليات كما وردت في معاهدة سيفر. أما لواء البصرة فقد اشترط أن يكون الأمير فيصل ملكاً على “العراق والبصرة”، بمعنى أن البصرة تعتبر أقليما متحدا مع العراق وليست جزءاً منه. أما لواء الدليم والحلة والمنتفك والعمارة فكانت بيعتهم مشروطة ببقاء إشراف بريطانيا العظمى. ولم يمنح البيعة المطلقة سوى لوائي كربلاء وديالى. أما لواء بغداد فقد بايع الأمير فيصل بشروط عديدة منها التأكيد أن يكون العراق دولة دستورية حرة ديمقراطية مستقلة مجردة من كل قيد ومنقطعة عن سلطة الغير(2). وحتى بعد تتويج فيصل ملكاً على العراق، وسعيه للحصول على الاستقلال، سعى بعض الشيوخ على تحريض الإنكليز على فيصل، فقد ” أعلن مشايخ بني ربيعة انهم ينظرون “باشمئزاز حقيقي الى احتمال سحب الإشراف البريطاني، واكثر من ذلك، فإن علي سليمان من الدليم، وأربعين رئيس عشيرة آخرين، ذكّروا الملك في لقاء معه، ومن دون خجل، بأنهم أقسموا على الولاء له شرط أن يقبل بالتوجيه البريطاني”(3)، وبعبارة أخرى فإن:
“البيعة كانت لبريطانيا العظمى أكثر من كونها بيعة للأمير فيصل”
السؤال الذي يمكن طرحه او التفكير به هو: ما الدور الذي لعبه الساسة العراقيون في تأسيس العراق الحديث؟ هل كان دوراً أساسياً أم دوراً ثانوياً؟ هل كان دوراً إيجابياً أم سلبياً؟ حقيقة الأمر كما ذكرنا سابقاٌ من بحث العوامل الثلاث نجد ان العديد من نخبة العراقيين الذين أحاطوا الملك الجديد، كان لهم دور سلبي لتثبيت مصالح خاصة على حساب مصلحة الوطن العليا، ودوراً ثانوياً في تأسيس الدولة، إلا أن دورهم قد تزايد من خلال المفاوضات المستمرة التي أصر عليها الملك فيصل والإدارة العراقية الحديثة لحين حصولهم على الاستقلال، ودخول عصبة الأمم المتحدة عام 1932 في نهاية حكم الملك فيصل الأول ونوري السعيد رئيساً للوزراء وجعفر العسكري وزيراً للخارجية والدفاع(4).
محمد حسين النجفي
5 شباط 2021
https://mhalnajafi.org/
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
(*) يعرف المفكر الألماني ماكس فيبر Max Weber ، الدولة على أنها: منظمة سياسية ألزامية مع حكومة مركزية تحافظ على الاستخدام الشرعي للقوة على أراضي معينة.
(1) بطاطو، حنا، العراق: الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية، الكتاب الأول، من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية، 1995، بيروت، ص 32.
(2) نعمة، د. كاظم، الملك فيصل الأول والإنكليز والاستقلال، بيروت، الدار العربية للموسوعات.
(3) بطاطو، نفس المصدر، ص 117.
(4) الحسني، عبد الرزاق، تاريخ الوزارات العراقية، العدد (3)، دار الشؤون الثقافية العامة، 1988، بغداد، ص 164.
#نوري-السعيد #فيصل-الأول #جعفر-العسكري #لورنس-العرب #معاهدة-سايكس-بيكو #العهد-الملكي #تأسيس-العراق #محمد_حسين_النجفي
بسم الله الرحمن الرحيم
(( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي ))
الأخوة الأعزاء الكرام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
دعوني اقدم نفسي اليكم. أنا محمد حسين النجفي، الأخ الأكبر الى المرحوم الحاج رعد النجفي، وابن اخت المرحوم الحاج كريم. اود ان اشكر حضوركم لمشاركتنا الأحزان بفقد الخال الحبيب الحاج كريم
دعوني احدثكم عن بعض ما لا تعرفوه عن خالي
وُلد في مدينة الكوفة عام 1942، وانتقل مع عائلته الى بغداد عام 1952، حينما كان عمره 10 سنوات
عمل في سوق الشورجة مع والدي واخوته الكبار، وتعلم مهنة التجارة أثناء كونه طالباً في المتوسطة والثانوية
أستطاع ان يتقدم في المهنة دون ارث او عطاء، ليصبح تاجراً معروفاً في سوق الشورجة، صنف الزجاجيات والفرفوريات
كذلك اهتم في شؤون الوطن والصالح العام، فأنخرط في العمل السياسي الوطني، مدافعاً عن الطبقات الأقل حظاً في مجتمعاتنا، ساعياً لتحقيق العدالة الأجتماعي وضمان حد ادنى لحقوق الأنسان، مسترشداً بفكر الأمام علي (رض) والفكر اليساري المعاصر
ونتيجة لذلك تعرض للأضطهاد القاسي كغيره من الشباب الناشط في ذلك الزمان من قبل سلطة البعث الأولى بعد 8 شباط عام 1963
لقد تركت تلك التجربة ذكريات قاسية في نفسه، لم تستطع الأيام ان تمحي آلامها. لذلك حينما عاد البعث من جديد، وبدت بوادر نزوعهم للأضطهاد مرة أخرى، قرر كغيره الرحيل عن العراق الذي أحبه حباً جما
نزح مع عائلته الى لندن عام 1976، وكان من اوائل الناس الذين تعامل معهم نبيل الخضيري وجمال الغبان. مارس انواع المهن التجارية مشاركاً في مطعم الخليج، وأسطنبول أكسبرس، والفنادق ليستقر في نهاية الأمر على الأستثمار في العقارات في قلب لندن النابض. عمل معه اخي المرحوم الحاج رعد واكتسب منه معرفة التجارة بالأملاك
عُرف في سوق الشورجة في بغداد، وفي المجتمع اللندني
بصدق تعامله، ونزاهة مسيرته، وحسن معشره، وسخاء كرمه.
سنفتقده من حياتنا وستفتقده الجالية العراقية في لندن.
و “إنا لله وإنا اليه راجعون”
رحم الله من قرأ سورة الفاتحة على روحه الطاهرة تسبقها الصلاة على محمد وآل محمد
“ليرى أمه واقفةً وَسَط المدججين بالسلاح، بكل شموخ وكبرياء، دون توسل أو أنحناء،
تنظر إلى عيون ابنها غير عابئة بصراخ إخوتهِ الصغار”
سمع صخباً وضجيجاً وهو في الحمام يغتسل. أغلق صنبور الماء، وتوقفت يداه عن الحركة كي يسمع ما الذي يدور خارج جدران الحمام. ميز الأصوات الهمجية وهي تُعربد “وين ابنچ”، “انه في الحمام، على كيفكم”، “هسه أطلب منه يتنشف ويطلع”. طرقت عليه باب الحمام، وقالت: “إبني خَلْص بسرعة ونشف نفسك، أجوْ عليك المقاومة الشعبية”، نهرها احدهم بصوت عالٍ: “خاله، إحنا مو مقاومة شعبية، إحنه حرس قومي”، “عفواً ابني آني شمعرفني”. كان يتوقع قدومهم، ولكن ليس بهذه السرعة. حيث تمّ اعتقاله قبل أيام في باب الثانوية الشرقية، من قبل زملائه الطلاب، الذين أعتدوا عليه بالضرب المبرح، وأخذوه بسيارة أحدهم إلى نادي النهضة الرياضي، الذي تحول إلى مقر للحرس القومي كغيره من الأندية الرياضية، ولقيادة منطقة الكرادة الشرقية ذات الأهمية ألاستراتيجية. أستطاع التخلص منهم في حادث الاعتقال الأول بأعجوبة وساطة لن تُنسى أفضالها.
وعلى الرغم من اعتراض اهلي الا انني قررت الخروج والذهاب من الكرادة الشرقية الى مركز بغداد. وانتهى بي المطاف في الباب الشرقي حيث كان هناك الكثير من الناس متجمعيين قرب محطة باصات الأمانة كرادة داخل، وكان ” مجيد الراضي” يقرأ بيانا من الحزب الشيوعي على جمهور حوله وعلى شاكلة الثورة الفرنسية بكل حماس وغضب على ان ” الى السلاح لسحق المؤامرة الاستعمارية الرجعية………….”. كنت اعرف الخطيب حيث كنا موقوفين معا في القلعة السادسة من الموقف العام وبنفس القضية في صيف عام 1962.
الى السلاح ، ومن اين يأتي السلاح. منذر الونداوي يقصف الدفاع من الجو، ودبابات التآمر تزحف على بغداد وبوادر ميليشيات البعث ( الحرس القومي) بدأت بأحتلال ومحاصرة مناطق حساسة في بغداد. بعد ذلك سمعنا كيف ان الزعيم رفض تسليح الجماهيرالتي ذهبت الى وزارة الدفاع للذود عن ثورتهم وللأسف اعتبر نفسه هو المسوؤل عن حماية الثورة وليس الشعب.
عند الظهيرة، عبرت قوات عسكرية من ذوي البيريات الحمراء جسر الجمهورية وتمركزوا عليه. وكان الجميع في ساحة التحرير يسمعون الأذاعة بأنتظار تغيير يحدث وتذاع بيانات مضادة ولكن لم يحدث ذلك. وبقينا على هذه الحال بأنتظار السلاح او تعليمات ولكن لم يصلنا اي شئ بعد البيان الأول.
وتدريجيا بدأت التجمعات البشرية تقل نتيجة يأسها وسماعها بيانات منع التجول. ذهبت الى احد الجنود من ذوي البيريات الحمراء وسألته ان كانوا مع الأنقلاب ام مع الزعيم؟ فقال اذهب الى بيتكم فإن هناك منع تجول. وعندها ايقنت انهم مع الأنقلاب وانهم الفرقة المظلية الرابعة بقيادة عبد الكريم مصطفى نصرت الضابط البعثي المعروف.
واخذت المشي بأتجاه سينما السندباد. واخذت نفرات كرادة خارج متجنبا كرادة داخل الذي تصورت انه سوف تكون به مضايقات. وكانت سيارات كرادة خارج تمر عبر الشارع الوسطي لعرصات الهندية. وحال مرورنا من بداية العرصات رأينا مجموعة من المدنيين يحملون رشاشات ووضعوا على ايديهم يافطة خضراءعليها حرفين ( ح ق) مختصر حرس قومي. كان هؤلاء من المجموعة التي طوقت بيت الشهيد العقيد فاضل عباس المهداوي، محاولة اغتياله ومنعه من الخروج للدفاع عن الثورة. الا انه خرج واقتحم الطوق وذهب لوزارة الدفاع واستشهد لاحقا مع ابن خالته ورفيق دربه الزعيم عبد الكريم قاسم. كنت اعرف عائلة المهداوي لأنه كان لي شرف التعرف على ابنه مناضل المهداوي الذي كان زميلا وصديقا منذ الصف الأول في المتوسطة الشرقية ولحد الآن. وكان لي شرف التعرف على الشهيد وعائلته المتواضعة حينما نلتقي في بيتهم بعض الأحيان.
لقد كنت في الصف الرابع ثانوي في الثانوية الشرقية في الكرادة الشرقية اي انني كنت طفلا او مراهقا في عمر الخامسة عشر عاما، حينما بزغ علينا هذا الفجر الأسود ، فجر 8 شباط عام 1963. فجر اسود ويوم أسود وتسع شهور سوداء كالحة مخضبة بدماء أشرف العراقيين. وفي مساء يوم 9 شباط ضاعت كل الآمال بأحتمال فشل المؤامرة حينما شاهدنا الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم جالسا على كرسي في استيدوهات الأذاعة العراقية في الصالحية فاتح العينين متحدياً غير متخاذلاً، وهو مرمياً برصاصات الغدر والخيانة من قبل من اعفى عنهم، واذا بعريف تافه يبصق على وجه الزعيم السمح المتواضع الخجول. وكان مشهدا مروعا حيث ان المهداوي كان في الأرض غارقا بدماءه وضباط آخرون مقتولون بشكل همجي وبطريقة بدائية. والأدهى من ذلك يعرضون ذلك على شاشات التلفزيون بكل فخر واعتزاز. كانت صورة الزعيم جالساً بكل هيبة فاتحاً عينيه متحديا المتآمرين عليه دلالة على كبريائه وعدم اذلال نفسه امام هؤلاء الخونة. إلا انه مع ذلك كانت نهاية الأحلام الكبيرة وبداية الكابوس الأبدي الذي مازال يعاني منه الشعب العراقي.
كذلك سمح وساهم البرزانيين وحزب البارتي بأضطهاد الحزب الشيوعي وهو الحزب الوحيد الذي يؤمن بعدالة المطالب الشرعية للشعب الكردي والتي اشغل نفسه دفاعاً عنها واعتبرها من القضايا الأساسية والتي كانت من القضايا الرئيسية التي اختلف فيها مع الزعيم .
وكذلك قام الفلسطينيين بتأييد الأنقلاب والأنخراط بصفوف الحرس القومي، علما ان العراق وبأمر من الزعيم كان البلد المؤسس للجيش الفلسطيني، وخصص العديد من المقاعد في الكلية العسكرية العراقية للفلسطينيين لتخريج ضباط ليكونوا نواة هذا الجيش.
وبعد عدة ايام وبعد رفع منع التجول في ساعات النهار، صدرت الأوامر عن طريق الراديو بعودة الموظفون لوظائفهم والطلاب الى مدارسهم. وما كان علي الا ان اذهب الى مدرستي الى الثانوية الشرقية التي كانت لها حكايتها في احداث اضراب الطلاب الذي استخدم للتمهيد للموآمرة الكبرى على العراق. وصلت باب المدرسة وكانت الباب مغلقة ويقف خلفها حفنة من الطلبة بقيادة طالب ( الأكرط) وهو أخ زوجة حسن العامري عضو القيادة القطرية للبعث والذي اصبح وزيرا للتجارة لاحقا . فتح طالب الأكرط باب المدرسة وبيده خنجر موجه الى وجهي وقال “هلا شوفوا منو اجه وصاح ألزموه”، واذا بي ارمي كتبي بوجهه الكالح واهرب بأتجاه كرادة داخل ثم يسارا في اول شارع فرعي ثم يسارا مرة ثانية بأتجاه كرادة خارج وكان الشارع فارغا من المارة موحشا وكل الأبواب مغلقة شعرت فيه برهبة الوحدة واللاقوة وبدأت اسمع صوت سيارة تقاد بسرعة جنونية وينزل منها اربعة من عتاد الطلبة وانهالوا علي لكما وركلا وكلمات حقد دفين والفاظ بذيئةغير مبررة لزميل لهم اختلف معهم في بعض الآراء.
اخذني هؤلاء الابطال الاشاوس الى نادي النهضة الرياضي الذي اضحى مقر عمليات للحرس القومي وهي ميليشيات مسلحة معظمهم من شباب البعث منحوا انفسهم صلاحيات دستورية وقضائية وامنية. سلموني اليهم وكان في الباب ايضا بعض من طلاب الشرقية الذين احسنوا الترحيب بالشتائم الرخيصة. وكان نادي النهضة معروف بأنه واجهة لتنظيم البعث في منطقة البوشجاع كرادة داخل وكان عبارة عن ساحة كبيرة منخفضة عن مستوى الشارع العمومي وبعض الغرف للأدارة وطلبوا مني الأصطفاف مع الأخرين من هم من مثلي والذين ميزت بعضهم آن ذاك. وكان هناك مذياع ومكبرات صوت تنقل مافي اذاعة بغداد من بيانات ما يسمى بمجلس قيادة الثورة واعلانات الأعتقالات والأعدامات بشكل مستمر وموتور وكان يسمع منهم صوت قاسم نعمان السعدي ومذيع فلسطيني اسمه …توفيق وآخرون.
وبين الحين والآخر يقطع الصوت ليقول المذيع المحلي في النادي انه اذا استطاع اي موقوف او محتجز من اي يحصل على تزكية وكفالة من شخص معروف لديهم (اي بعثي) فمن الممكن اخلاء سبيله بهذه الكفالة.
ثم جاء سيد هاشم الموسوي وكان مسؤول البعث في الثانوية الشرقية وكان مسجونا واطلق سراحه بعد 8 شباط واتجه نحوي وكان يضع يشماغ على رقبته والحماس بادي عليه ونظر نحونا ورآني وهز برأسه هزة ذات معاني خلاصتها اننا انتصرنا وانتم خسرتم. المهم اتجه نحونا وطلبت منه ان يتكفلني بأعتباري زميله في الدراسة، وكان جوابه اترى ذلك الشخص انه اخي وهو موقوف وسوف لن اتكفله لانه شيوعي مثلك ورحل. وكنت اعرف اخاه كان خياطا في البوشجاع ومعروف بآرائه التقدمية.
انتهى النهار واظلمت الدنيا علينا وبدأ القلق يساورني أكثر وفكرت بأن اهلي ربما عرفوا الأن ما حدث لي وعسى ان يفعلوا شيئا. وفعلا عند المساء جاء حسين حبيب المهداوي الملقب بحسين الأعور وكان صاحب محل بقالة مقابل مدرسة الحرية الأبتدائية في سبع قصور كرادة داخل. وكان اخوه أكرم حبيب المهداوي عضو فرع بغداد بحزب البعث ويسكنون في شارعنا في سبع قصور. المهم تكفلني وكنت مستغربا كيف حدث هذا. واخذني بسيارته واوصلني الى البيت وتلقتني امي المسكينة وهي تنظر الي بشموخ وكبرياء وفخر. ولكني كنت ارى الخوف والقلق والألام في داخلها. أما ابي فلم يقل شيئاً وكان لايطفئ سيكارته الا بأخرى مثلها. اما انا فقد احسست بعمق الكارثة من انها ليست انقلاب ضد الزعيم وان عبد السلام اصبح رئيسا وانتهى الموضوع. كلا انها عملية تصفية جسدية وفكرية وحضارية لكل ما حدث بين 14 تموز عام 1958 و8 شباط 1963. وعلمت يقينا من ان القادمات اهول واتعس وقصة كفالتي هذه سوف لن تشفع لي كثيرا. وسألت والدي كي استطعت اقناع ابو علي كي يتكفلني فقال ان حسين سبق وان عمل عند جابر البزاز وحدثت له مشاكل معهم وتوسطت له وساعدته وهو يرد الجميل.
وفي هذه الأثناء جاءوا بصديقي وزميلي مناضل المهداوي والتقت عينانا ومنحنا بعضنا البعض نظرات دعم معنوي من اننا على حق على الرغم من هذه الأنتكاسة البشعة، وكان يبدوا عليه الأتزان والصمود والكبرياء، على الرغم من انهم قد عرضوا صور اباه فاضل عباس المهداوي رئيس محكمة الشعب، على شاشات التلفزيون مقتولا بشكل وحشي ووجهه مخضب بالدماء.
هذه المرة جاء شخص آخر يوزع الماء علينا وعلى كتفه رشاشة، وجلس الى جانبي وقال لي انني اعتقد ان الأتجاه الصيني افضل من الأتجاه الروسي وبدأ يداعبني بحديث ثقافي حول الأفكار العالمية والخلاف العقائدي بين روسيا والصين، ورأيت نفسي اناقشه في مواضيع عدة. وفي النهاية نهض وقال لي حينما قالوا لي بأن اسمك جاء ضمن الأعترافات وانك عضو هام لم اصدق، ولكن من خلال حديثي معك الآن اصدق وضحك وتركني. علمت بأن هذا الشخص كان صلاح عمر العلي التكريتي عضو القيادة القطرية ومسوؤل قاطع الكرادة الشرقية عام 1963، والذي اصبح عضو القيادة القطرية وعضو مجلس قيادة الثورة ووزير الاعلام بعد انقلاب 1968.
عند ذلك اخرجوني من غرفة التحقيق الى النظارة مرة اخرى. ومنذ ان قال لي صلاح التكريتي بأن هناك اعتراف عليّ ولعلمي ان ماذكره حول موقعي في التنظيم كان صحيحا، كان شغلي الشاغل هو كيفية التعامل مع هذه الأعترافات دون كشف ماهو غير معلوم ودون الحاق اي ضرر بالآخرين او التنظيم. وبعد منتصف الليل جاؤوا بأحد زملائي واوقفوه امامي وقالوا له هل تشهد بكذا وكذا؟ قال نعم . هل ان محمد كذا وكذا؟ قال نعم. نظرت الى زميلي وهو بالبجامة والروب، ويرتجف من الخوف والرعب وأشفقت عليه وعلى نفسي وكنت على وشك ان اعتذر منه لما سببته له من أذى في هذا الليل المقيت. وسألوني ان كنت اريد شاهدا آخر فقلت كلا لأنني لا اريد ان يرعبوهم ويرعبوا اهلهم في هذا الليل البارد الرطب الثقيل.
وهنا ادخلوني الى غرفة التحقيق مرة اخرى وسألوني هل اوافق على ما قاله زميلي من اني كذا وكذا ؟ قلت نعم . وهل انك مسؤول عن آخرين؟ قلت كلا .هل تعرف تنظيمات اخرى في الشرقية؟ قلت كلا. وهنا سألني جاسم البحراني لماذا اصبحت شيوعيا وليس بعثيا؟ فكرت وقلت لنفسي سوف لن اقع في الفخ مرة اخرى واجبت بسذاجة من انني كنت اتصور انكم تريدون تسليم العراق لمصر، وهنا انتفض جاسم وقال: “انتوا خطآنيين كل عقلكم احنه نتعب ونسلمة لمصر”. وطلبت منه اذا انتهى التحقيق اريد الذهاب الى اهلي. فقال جاسم يجب ان تقدم براءة من الحزب كألاخرين كي يطلق سراحك. فقلت له هذا لا يمكن وقال لماذا قلت لأنها اهانة شخصية وعلى اية حال كان هناك صراع انتهى بأنتصاركم وكل شئ مكشوف لكم الآن واني اعدك بأني لن اقوم بأي نشاط سياسي. وألح علي جاسم بكتابة البراءة فرفضت وتحججت بأنها اهانة شخصية ولا دخل لها في السياسة. واثناء ما كان هذا الحوار المخيف محتدم واذا بأصوات عالية تلعلع من انهم قبضوا على فلان لا اتذكر اسمه وبدأ نوع من الفوضى او الأحتفال وصاح جاسم بأحد الحرس ان يأخذني الى البيت وكان الوقت في حدود الساعة الثالثة بعد منتصف الليل وكان هناك منع تجول وكنت في سيارة حرس قومي واوقفونا عدة مرات الى ان وصلت البيت.
وحال وقوف السيارة امام منزلنا رأيت نور سيكارة ابي من وراء الستائر، حيث ان غرفة نومهم تطل على الشارع. وانهم مازالوا ينتظرون ابنهم البكر كي يعود. نعم عُدت ولكن لم اعد نفس الشخص الشامخ المتكبر الواثق من نفسه. لقد كسرونا واذلونا وحطموا معنوياتنا. ولكنهم ليسوا على حق ولم نكن نحن على باطل. ومع اني كنت فخورا بنفسي من انني لم اعطي براءة ولم اكشف اية معلومات تنظيمية، الا انني كنت اتمنى ان لا اوافق على اعتراف الأخرين، وكنت اشعر بالذنب لأني مازلت على قيد الحياة ويستشهد الأخرون. كان ابي في حالة هلع بادية عليه ولم يستطع قول اي شئ. اما امي فكانت تحضنني وتشد ازري وخائفة عليّ ليس منهم وانما من نفسي. ولذلك أخفت خوفها ولم يلمني احد على شئ ولم يقولوا لي لماذا عملت هكذا بنفسك وبنا؟ وهذا شئ لم استطع فهمه بالكامل لحد الآن.
طبعا علمت ان عملية اطلاق سراحي تمت بوساطة أبو علي مرة أخرى. وبما انني اعلم من انني لم اعترف بشي سوى قبولي لما قاله زميلي في اعترافه، وبما انني اعلم ان هناك الكثير ممكن ان يكتشف وان الأمور لا نهاية لها، بدأت بحملة لتنظيف البيت من كل الكتب والكراريس والصور والمناشير الموزعة والمخبئة في عموم ارجاء البيت، فولعنا الحمام وكانت حملة مخجلة لأننا نحرق الثقافة بدل ان ننشرها. الا انها ضرورية وحرقت ما يزيد على ثلاثين كتابا ومئات الممنوعات. وقررت ان ابتعد عن اصدقائي وزملائي كي لا اعرض نفسي او اعرضهم لأي خطر. وبعد ايام ذهبت الى المدرسة محاولا تجنب المشاكل. ولكن حينما رآني بعض البعثيين لم تعجبهم عودتي اطلاقا. المشكلة الكبرى هو ان الكل يأتي اليّ يسألني ما الذي حدث لك؟ ما هو الجديد؟ وما ألعمل؟ وكنت احاول ان افهمهم ان عليهم الهدوء لفترة ولكن لم انجح واتذكر منهم الزميل فريد قرياقوس الذي كان في شعبتي وكان طيبا وملحا لدرجة خطيرة، ويريد ان يفعل شيئا غير عابئ من العواقب.
وبعد عدة ايام سحبني سيد هاشم الموسوي من الصف وكان مسؤول البعث في الشرقية، وجاء بزميلي وهو نبيه خضر، وطلب منه ان يعترف، وطلب مني ان اشهد عليه، ولكني انكرت وانكر نبيه ارتباطه في الحزب وهددنا سيد هاشم بأن يأخذنا الى الحرس القومي والتحقيق معنا، ومع ذلك انكرنا، واخيرا طلبت من سيد هاشم الأنفراد للحديث مع نبيه فوافق وقلت لنبيه انه لا اعتراف عليه وعليه ان ينكر والا ستسمر الاعترافات، واتفقنا على ذلك. وعدنا الى سيد هاشم وقلت له ان نبيه يقول انه لا علاقة له وانا اصدقه، ونحن زملائك في المدرسة وتحت رقابتك وحمايتك فماذا سنفعل؟ ولماذا تريد ان تعاقبنا؟ واخيرا القى علينا محاضرة تهديدية وتركنا.
كنت التقي مع سامي بعد المدرسة، واتجول في عرض الكرادة وطولها بأستخدام الدراجة الهوائية. ولم يلقوا القبض على سامي لانه لم ياتي الى المدرسة وكان يسكن في بيت جده وليس في بيت اهله. وكانت تأتي معلومات اليه من خلال خط النساء، ولكن كانت المسألة تضعف كل يوم نتيجة الأعتقالات التي شملت خط النساء ايضا.
وبعد 8 شباط تم اطلاق سراح كل البعثيين الذين كانوا في المعتقل والمشاركين في اضراب الطلبة. والغريب هنا انه تم اطلاق سراح بعض زملائنا المعتقلين قبل الأنقلاب عن طريق الخطأ، ومنهم حبيب عمران وهادي منتظر وبهاء وغيرهم. واتصلت بحبيب وبقى في البيت كي لا يعلم احد بأطلاق سراحه. والسبب على مايبدوا انه اطلق سراحهم، لانهم اساسا اعتقلوا بوشاية على انهم من منظمي الأضراب وليس من معارضيه.
كنا نرى بعض القادة على شاشات التلفزيون ممن انهارت قواهم امام هول التعذيب وكان عدنان جلميران اكثرهم تجريحا وايذاءا. وكان يوم 9 آذار يوم اعلان استشهاد سلام عادل وحسن عوينة ومحمد حسين ابو العيس اكثر الأيام حزنا وارتباكا وضعفا ، وفي نفس الوقت كان يوم شرف واعتزاز وكبرياء لأنهم والجميع يعلم استشهدوا تحت ابشع انواع التعذيب ولم يخذلوا الوطن والقضية. وعلى الرغم من الخسارة الكبيرة بأستشهاد سلام عادل ورفاقه، الا انها رفعت رأسنا وعلت معنوياتنا ومنحتنا الثقة مجددا بالحزب والقيادة.
وفي الأيام التالية عرضت موضوع السفر على سامي وحبيب ووافق الأثنان على السفر واخذنا منهم صور شمسية وذهبنا الى مكتب في شارع الرشيد قرب سوق الصفافير. وبعد عدة ايام تم تسليم الجوازات، ودفع سامي المطلوب الا ان حبيب سافر دون ان يودعنا او يدفع المبلغ. وهذا ما احرجنا مع اناس من هذا النوع وانتهينا ان اعطيناهم ما نستطيع تجنبا للمشاكل!
وطبعا فإن الكل يعلم بأن مدير الثانوية الشرقية يونس الطائي كان متعاوناً مع الامن. وكان يبعث بأسماء شباب أتحاد الطلبة على اساس انهم من القائمين بأضراب الطلبة الذي سبق 8 شباط الأسود. وبموجب ذلك تم اعتقال مسوؤل الشرقية حبيب عمران، ومهدي منتظر وبهاء . وكان اسمي في القائمة حيث اخبرني الزميل والصديق حكمت بأنهم اعتقلوا زميل له في الشعبة اسمه محمد حسين بدلا عني عن طريق الخطأ وهو لا يتدخل في السياسة ابدا. واوصاني بأن اكون حذرا. وكان المدرس علي الشديدي من البعثيين المعروفين في منطقة الزوية . وكان من جانبنا الأستاذ عادل الياس خريج علوم وكان في مرحلة التطبيق، وكذلك الاستاذ علي مدرس الجبر الذي كان منقول سياسيا من الكاظمية، والأستاذ عبد الجبار عبد السادة والهرزي وانطوان القس . وبعد شباط الأسود تعرضوا جميعا للأعتقال بينما ترقى علي الشديدي ليصبح معاون المدير ثم مديرا عاما في التربية.
كنت انتظرانتهاء السنة الدراسية بفارغ الصبر كي اتخلص من عيون اللئم والنظرات الخبيثة من قبل البعثيين الذين كانوا يبالغوا بشماتتهم فينا ومضايقتهم لنا. كذلك كان من الصعب تجنب الزملاء الذين يلحون بالتسائل والأتصالات ولا يقدرون ان الظروف قد تغيرت كليا. لقد اصبح زملائنا الذين نختلف معهم في الرأي ممكن ان يلقوا القبض علينا اعتباطينا في اية لحظة، ويلقونا فريسة للوحوش الكاسرة.
وانتهى العام الدراسي في حزيران 1963 ولا ادري كيف نجحت هذا العام. وكالعادة وفي كل صيف اذهب للدوام مع ابي في سوق الشورجة. وصدفة التقيت بزميل تعرفت عليه في القلعة السادسة في الموقف العام في باب المعظم. والتقينا في كهوة على شارع الجمهورية قرب جامع بنات الحسن. وكان مهدي حبيب من عمال الخياطة النشطين، ويعمل في شارع الرشيد في معمل للخياطة وقد زرته عدة مرات. وكان على اتصال بمجموعة سليم الفخري، وطلب مني ان اهيئ ملابس عسكرية، حيث ان هناك حركة مرتقبةممكن ان تحدث في اية لحظة وعندها البس ملابس جندي والتحق حسب الأوامر. وكان لدي بنطرون خاكي وحذاء أسود، وذهبت الى سوق السراي لشراء قميص وسدارة كشافة. واصبحنا نلتقي في الأسبوع مرتين على الأقل في نفس المكان واحيانا مع شخص ثالث هو شكر الله، من الأخوة الفيلية، حيث لايعرفنا احد وهو قريب على الشورجة.
في يوم 3 تموز سمعنا بحدوث حركة في معسكر الرشيد، وقيل ان قائدها ابو سلام خباز في سبع قصور بمعنى في راس شارعنا. وبدأت أفكرأهي الحركة التي وعدنا بها مهدي ام لا؟ وللأسف الشديد سمعنا بعد ذلك انه قد تمت السيطرة عليها وان الحركة لم تنجح. وبطبيعة الحال فإن من المؤكد سيعقب ذلك حملة اعتقالات جماعية. وخوفا من حركات مماثلة في المستقبل قررت السلطة الجائرة بأن ترسل جميع معتقلي سجن رقم واحد الى نقرة السلمان، مع التخطيط ان يموت معظمهم في الطريق. الا ان سائق قطار الموت الشهم وأهالي السماوة الطيبين والمتعاطفين مع المعتقلين أفشلوا المخطط ولم يستشهد سوى الرائد يحيى نادر من اهالي اربيل.
وفي يوم 4 أو 5 تموز، أتصلت امي بأبي يرحمهم الله تلفونيا لتقول له بأن الحرس القومي جاءوا بثلاث سيارات وطوقوا البيت يبحثون عني لأعتقالي. وقلت لأبي ما العمل؟ فقال الأفضل ان تذهب الى حسين المهداوي وهو يقول لك ماذا تعمل. طبعا حسين هو حرس قومي واخوا اكرم المهداوي عضو قيادة بغداد وقد اصبح مدير تربية بغداد. ذهبت الى ابوعلي حسب توصية ابي وثقته بحسين. وحينما رآني حسين قال لي ماذا تفعل هنا؟ قلت له بأن ابي بعثني اليك كي ترشدنا. وهنا رأيت علامات اندهاش وخوف عليه ونظر الى اعلى حيث كانت الشقة العلوية في تلك البناية مقرا للحرس القومي وكان هو بملابس الحرس القومي. فقال لي وبجدية لا تقبل الشك ” أذهب من هنا وأختل عند اقارب لك بعيدا عن الكرادة الى ان تصفى الأمور”.
وركبت الباص وذهبت الى منطقة النواب في الكاظمية الباسلة التي قاومت الأنقلاب لعدة أيام وكان آخر المقاوميين فيها الشهيد سعيد متروك الذي شهد له الجميع بالشهامة والبطولة وسمعت عنه الكثير من حسين المصفايجي في الشورجة. كذلك كنت اسمع من حسين المصفايجي ما قام به جماعة الخالصي من تصفيات في سراديب جامعهم ومدرستهم الدينية. وذهبت الى بيت خوالي محسن وكريم وخالتي حياة وبيبيتي. وبقيت عندهم واستمريت في الذهاب الى الشورجة صباحا والمبيت في الكاظمية مساءا.
وفي بداية ايلول كان الوضع قد استتب للأنقلابيين، وشعر اهلي وكذلك شعرت انا من انه من الممكن ان التحق في المدرسة. وذهبت يوم التسجيل وهو تسجيل روتيني، بأعتباري انا طالب في المدرسة وناجح من الصف الرابع الى الصف الخامس. كان مسوؤل التسجيل هو عبد الستار النداف، مدرس العلوم في المتوسطة الشرقية والذي رقي الى معاون مدير الثانوية الشرقية لميوله البعثية. حينما رآني، طلب مني ان استقدم ولي امري للتسجيل لانه يعرفني جيدا. اخذت ابي في اليوم الثاني، واخذ من والدي تعهد بأن لا اتدخل في السياسة كشرط قبل ان يسجلني. شعرت بالخجل والمرارة من اني وضعت ابي في هذه المهانة من قبل حثالة يتحكمون بنا.
وبعد يومين او ثلاثة من بدأ العام الدراسي 1963/1964 جاء احد طلاب الأتحاد الوطني وطلب حضوري الى مكتب مدير المدرسة، وذهبت معه وكان ينتظرني في مكتب المدير احد افراد جهاز الأمن وهو مفوض الأمن موسى عمران حيث كان يسكن محلتنا وكان اخوه عباس عمران من عمرنا. اخذني مع شخص آخر بسيارة فولكس واكن الى بيت امن سري في ارخيته. وعند خروجنا من غرفة المدير رأيت مخلص عبد الجليل ( وهو اخو غانم عبد الجليل عضو القيادة القطرية للبعث) يراقب من بعيد فعلمت انه كان وراء هذه الأخبارية. كذلك علمت لاحقا من انه طلب من شخص آخر ان يطلبني من الصف وقال له “انت روح جيبه لأنه صديقي ما اكدر” ( كنا في نفس الصف لثلاث سنيين في المتوسطة الشرقية). طلبت من الأمن ان اتصل بأهلي كي اعلمهم، فقال لي المفوض موسى عمران وهو يضحك هسه يعرفون ان عصابات الأمن قد اختطفتك.
وصلت للأمن العامة ووضعوني في الخفارة مجددا. ورأيت من بعيد في مكتبه أبو صباح ( نوري العاني) ورآني من بعيد وهو يعرفني وشعرت بالراحة لأنه صديق والدي وعمل في الشورجة وكيل اخراج كمركي بعد ان فصل من الأمن العامة بعد ثورة 14 تموز لأنه كان من المقربين لبهجت العطية مدير الأمن العام في عهد نوري السعيد والذي حكم عليه بألاعدام في عهد الثورة ونفذ امر الأعدام به. وقد ارجع ابو صباح الى الخدمة بعد ردة شباط ( وهذا يفسر من كان وراء الأنقلاب). المهم كانت الأخبارية على نفس موضوع محكمة العرفي الثاني. وحينما استدعاني ابو صباح للتحقيق، شرحت له الأمر من انني جئت بمحض ارادتي قبل اسبوعين وخرجت بكفالة، وان هذه الأخبارية قديمة. المهم اخرجني بكفالة اخرى بعد ان قضيت كل اليوم في الأمن العامة مرة اخرى. وحينما كنت في موقف الأمن العامة كان هناك بين الموقفين العدد الكبير من القوميين العرب الذين شاركوا البعثيين في ردة 8 شباط.
بعد ذلك بأسابيع بدأ ت الأشاعات حول وجود خلاف بين الخط العسكري والخط المدني في حزب البعث. ثم تطور ذلك الى صراع بين معظم اعضاء القيادة القطرية والجيش من جهة وبين علي صالح السعدي ومعظم قيادة بغداد مدعومة من قبل الحرس القومي والنقابات والتنظيمات المدنية من جهة اخرى. وعلى اثر ذلك اصبح الكلام في العلن . قسم يطالب بحل الحرس القومي والآخر يعتبر ذلك مؤآمرة على الثورة ( في تعبيرهم). وجاء ميشيل عفلق ومجموعة القيادة القومية للتوسط بين الفريقين المتنازعين، واعلن منع التجول ونزل الحرس القومي للشوارع واحتل الساحات الرئيسة.
وفي يوم 18 تشرين الثاني سنة 1963، اعلن عبد السلام عارف حل الحرس اللا قومي، متهما اياهم بأرتكاب ابشع الجرائم بحق الشعب العراقي ومعلنا تغييرا وزاريا عازلا فيه علي صالح السعدي والوزراء البعثيين المدنيين مثل حازم جواد وطالب شبيب ومبقيا على طاهر يحيى وصالح مهدي عماش واحمد حسن البكر وحردان التكريتي. وكان يبدوا للتو من ان البعث باقي في الحكم حيث لم يصدر اي بيان ضد حزب البعث وانما كانت الحركة تبدوا وكأنها ضد الحرس القومي فقط. وقد لعب عبد الرحمن عارف دورا اساسيا في الزحف على بغداد مصحوبا بتأييد عشائر الأنبار. بعد ذلك طلب من افراد الحرس اللاقومي تسليم السلاح والبقاء في البيوت. وهذا ما تم دون مقاومة تذكر بالرغم من كل السلاح والعتاد الذي كان بحوزتهم.
“الامريكان من اصول عراقية يُقيّمون المرشحين بعيون عراقية، ليس بعيون عراقية وطنية موحدة، وإنما بعيون عراقية طائفية عرقية دينية قومية ومناطقية”
استطاع كلاً من ترامب وبايدن أن يقدما طاقة عالية وتأكيد على آراهم في كيفية إدارة الدولة والأهداف المستقبلية التي يسعون إلى تحقيقها للشعب الأمريكي. واظهر كلا الطرفين حماساً منقطع النظير في تهيئة الناخبين وحثهم على التصويت بكل الطرق المتاحة قانوناً. كذلك اظهر الديمقراطيون والجمهوريون مشاركةً فعالة في الترويج والتصويت لمرشحيهما. أما فيما يخص الأمريكان من اصول عراقية، ولا سيما الجيل الأول منهم، فإنهم ينظرون إلى المرشحيّن، متأثرين بماضيهم وعُقدهم المتأصلة في النفوس، وليس من خلال واقعهم الحاضر وآفاقه المستقبلية سواء لهم او لأبنائهم. ولا بد من القول من انه لا تتوفر لديّ دراسة علمية بهذا الموضوع، ولكن هناك انطباعات كافية من خلال الحوارات العامة والمساجلات الشخصية. ففي مقابلة اجراها “سلام مُسافر” مع “إنتفاض قنبر” في برنامجه “قُصَارَى القول”* على قناة “آر تي” الروسية في اليوم الخامس من تشرين الثاني 2020، وقبل اعلان نتائج الأنتخابات، ابدى قنبر اعجابه بترامب متمنياً فوزه وبقائه لأربع سنوات اُخرْ، لا لشئ يهم الشعب الأمريكي، ولكن لأن ترامب يستخدم سياسة “الضغط الأقصى” على إيران كي “تركع بالكامل” أو تسقط خلال الأربع سنين القادمة. وفي حوار على الفيس بوك مع احد الأصدقاء المنتمين للفكر الليبرالي، يرى إن مشكلة العراق سببها إيران، وهي وراء داعش والميليشيات الشيعية، وبالتالي فإن ترامب هو المنقذ للعراق من خلال تحجيم الدور الايراني. مجموعة كبيرة من الأصدقاء العراقيين المسيحيين يرون في ترامب حامي حمى المسيحيين والكنائس والديانة المسيحية في امريكا وفي الشرق الأوسط. وعلى النقيض من ذلك يرى معظم الأصدقاء الشيعة ان ترامب سياسياً تافهاً معادياً للشعوب وللأسلام، ويذكرهم بعنجهية الحكام الديكتاتوريين في الدول العربية، ولا يوافقون على الحصار ألاقتصادي المفروض على إيران، ويستنكرون الحرب القذرة على اليمن، وبذلك فإنهم يرون في التغيير انفراج. وللأسف الشديد حتى اليساريين والمفروض أن يكونوا متنورين اكثر من غيرهم انقسموا إلى قسمين المثقف منهم يفضل بايدن لآرائه التقدمية وبرامجه في الضمان الصحي والأجتماعي، وفصيل آخر تراجع لأصوله الدينية والقومية والطائفية. وقسم لا بأس به يرى في ترامب الشخصية القوية القادرة على تصحيح الأوضاع العالمية، وهي نزعة عبادة الأصنام المتغرزة في العالم الثالث. Read More
“التغيير المعاكس للتغيير المطلوب”
“تأتي الرياح بما لا تشتهي السَفن”. نعم هذا ما حدث لقانون الأنتخابات العراقي. فبدلاً من ان يصبح اكثر تمثيلاً للشعب العراقي، تراجع ليكون اكثر اكثر مناطقياً واكثر طائفياً واكثر عنصرياً. حيث بدل ان ينتقل العراق الى دائرة انتخابية واحدة، تحول من 18 دائرة انتخابية الى 83 دائرة انتخابية بموجب القانون الجديد. وبذلك سيكون من السهولة على حيتان السياسة العراقية التسلط على رقاب ابناء محلتهم وناحيتهم وقضائهم. مسيرة معاكسة لما مفروض ان يحدث، ونتيجة مؤلمة لأن ذلك سيحول الأنتخابات الى معارك شوارع وحارات وسيؤدي الى احتكاكات تؤجج الفرقة بين ابناء المنطقة الواحدة اكثر مما هي عليه الآن.
“اقتراح العراق دائرتين انتخابيتين فقط” Read More
“البرلمان لا يمثل كل الشعب، إنما يمثل من يرشحون انفسهم، ومن يؤمن بهم، ومن ينتخبهم بأصوات كافية كي يفوزوا”
تمهيد:
هذه المقالة هي جزء من سلسلة مقالات ذات عِلاقة بمحنة الشعب العراقي في بحثه عن بديل سياسي من حيث الأشخاص ومن حيث النظام السياسي، خاصة وإننا مُقبلون على انتخابات مفصلية. وهي مساهمة متواضعة جداً لموضوع شائك ومعقد. ولقد سبقت هذه المقالة مقالتين، هما غياب البديل السياسي، و مقومات البديل السياسي. من لم يقرأ هاتين المقالتين، احثه للرجوع إليهما إن توفر الوقت لاستكمال البحث والأفكار المقترحة. Read More