قـــــوّة الأشــــياء

قوة الأشياء

“أستطاع المفكرون الماركسيون والوجوديون الفرنسيون أن يتوصلوا إلى بناء مجتمع اشتراكي مع الاحتفاظ بالحقوق الكاملة للحرية الشخصية”

قوة الأشياء عنوان كتاب قرأته في منتصف ستينات القرن الماضي، للكاتبة الفرنسية الوجودية ذائعة الصيت سيمون دي بوڤوار. ولا يَخفى على احد أنها كانت رفيقة درب المُفكر الوجودي جان بول سارتر، واللذين كوّنا معاً ثنائيا ناشطاً في السياسة والأفكار الوجودية، كاد ان ينافس أطروحات الثنائي الجدلي كارل ماركس وفردريك أنجلس، خاصة بين صفوف المثقفين والكتاب والفنانين والأدباء، وليس في عموم ووسط الجماهير التي كانت في أوربا جميعها يسارية بامتياز، بعد ما عانته من طغيان ودموية النازية الألمانية والفاشية الإيطالية. لم يكن المثقفين والمفكرين بعد الحرب العالمية الثانية في صراع ذهني بأفضلية ألاشتراكية أَو الرأسمالية، وإنما كان الصراع الفكري بين مدى المسؤولية ألاجتماعية والعمل الجماعي كما يراه الماركسيون وبين الخوف على فقدان الحرية الفردية ولا سيما في التفكير والتعبير الذي تبناه الليبراليون والوجوديون. كانوا يبحثون عن نقطة التوازن الجديدة التي سيرتكز عليها العقد ألاجتماعي الجديد (جان جاك روسو). كان الوجوديون على الرغم من قلتهم، خلية نحل لا تمل ولا تتعب ولا تركد، حيث كان الثنائي سارتر وبوفوار غزيري الكتابة، متنقلين ومسافرين ومتابعين، لا يفصلون بين حياتهم الخاصة ونشاطهم العام، يحاضرون في الجامعات، ويتناقشون في المقاهي والبارات، ويتحملون المشاكسة في الندوات.

 عنوان الكتاب “قوة الأشياء”، مترجم حرفياً عن الفرنسية ”La Force Des Choses” , ولكن في اللغة الإنكليزية سُميّ الكتاب: “ The Forces of Circumstance”  والترجمة الحرفية لذلك هي “قِوَى الظرف”. وفي ترجمة أخرى “Force of Circumstance”، وترجمتها “قوة الظرف”، ولكن حينما نقرأ سردية بوفوار لسيرتها الذاتية عبر هذا الكتاب الوصفي الممتع المليئ بتفاصيل وتحليل رائع للأحداث والأشخاص والمشاهد والتقلبات والصراعات الفكرية والسياسية المحتدمة، كل هذا يجعلني افكر من انها تعني “قوة الأحداث” أو بالأحرى “تحكم الأحداث” في تلك المرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. الأحداث الصغيرة الناعمة البسيطة التي تمر على الآخرين دون ان يحسوا بها، والأحداث الكبيرة المهولة التي تهز وترعب الجميع، عدا المثقف الثوري الذي يُقحم نفسه في قارورتها. نعم كلها تترك علينا انطباعات جديدة وتملي علينا قناعات لم ندركها من قبل، خاصة الأحداث السياسية الكبيرة او العلاقات الشخصية العميقة وعلى الأخص العلاقات العاطفية في العمر المبكر.

تتحدث سيمون دي بوفوار في قوة الأشياء عن الصراعات والمنافسات الفكرية في داخل اليسار الأوربي من جهة، وبين اليسار واليمين والنازية الجديدية التي لم يتخل عنها شريحة كبيرة من الشباب الذي تربوا وتأثروا بأفكار هتلر وموسوليني. كذلك تتحدث عن سفرها وترحالها الى إيطاليا والجزائر والبرتغال، وكيف انهم كانوا ما يزالون يصارعون الفكر النازي والفاشي، الذي مازال يحكم أسبانيا والبرتغال بقيادة فرانكو وسالازار.

طريقة وصفها للأشخاص والأحداث ليست عفوية، او سردية بحتة وإنما وصف ينم على ألتزام بفكر إنساني، فحينما ركبت القطار الشعبي البطيء من مدينة الجزائر الى مدينة بيسكرا، لم يتسن لها الوقت لشراء التذكرة. وحينما جاء مفتش التذاكر طلب ان تشتري التذكرة منه. عدّ المفتش الجزائري أن ركوب فرنسية في قطاره الشعبي مسائلة تدعو للفخر والإعتزاز، ولم يُغرمها او يقطع لها التذكرة، بينما في نفس الوقت شاهدته يشتم ويرمي الركاب الجزائريين الذين لا يملكون ثمن التذاكر في الصحراء من القطار وهو سائر. تقول بوفوار باستغراب، أن المفتش رفض اخذ الاجور من الذي يملكها، ولكن لم يسامح ابناء جلدته لأنهم لا يملكونها (ص 89).

تغلغل الفكر الوجودي لدى العديد من الكتاب العراقيين والعرب مثل أستاذ الفلسفة المصري عبد الرحمن بدوي، والأديب القصصي العراقي حسين مردان، إلا إن الفكر الوجودي بطبعه فكر ذو نزعة فردية، وتقديس للذات مبالغ فيه على اقل التقدير، علماً أن سارتر كان على عِلاقة وطيدة بالشيوعيين الفرنسيين أبان حِقْبَة مقاومة الاحتلال الألماني وبعدها، لأن خِيار الاشتراكية بعد الحرب العالمية الثانية لم يكن موضوع حوار، وإنما كان الخِيار الأوحد، حيث يرى سارتر أن الاشتراكية هي خط الإنسانية الوحيد (ص 15)، بينما يرى الشيوعيون أن “الشيوعي هو البطل الدائم لعصره” (ص 68). أستطاع المفكرون الماركسيون والوجوديون تارَة بالصراع وتارَة عن طريق التصالح الفكري، من أن يتوصلوا إلى توازن بين بناء مجتمع اشتراكي مع الاحتفاظ بالحقوق الكاملة للحرية الشخصية، وهو نموذج أنتشر في أوربا الغربية وحقق نجاحاً وديمومة أكثر من النموذج السوفيتي ودول أوربا الشرقية.

ولذلك كنا نحن الشباب المتطلعين إلى أوربا كنموذجنا المثالي نستغرب ولا نجد جواب مقنع لسؤال منذ ذلك الحين وليومنا هذا:
لماذا أختارت أوربا الغربية الاشتراكية، أو على أقل تقدير نظام حقوق مدنية وضمانات اجتماعية واسعة سبيلاً لرقي مجتمعاتها، بينما أنكرت ذلك على مستعمراتها، حيث شُجع او فرضت عليهم تركيبة القرون الوسطى، البناء الإقطاعي الرجعي الغارق في الطبقية والاضطهاد الاجتماعي والسياسي. إن ما كان يروم اليه شباب الستينيات في العالم الثالث ومنهم العراق هو بناء نموذج سياسي اقرب إلى أوربا الغربية منه إلى نموذج الاتحاد السوفيتي. لذلك فإن سارتر رغم فكره الوجودي، إلا انه لم يعارض قيم الاشتراكية الأوربية، على الرغْم خشيته الخاصة على أن لا يؤدي ذلك إلى اضمحلال دور الفرد وخسارته لحريته. لو أن أوربا الغربية نشرت افكار “الاشتراكية الديمقراطية” كما تبنتها في بلدانها بعد الحرب العالمية الثانية، لأنتقلت دول العالم الثالث من النسيج السياسي والافتصادي والاجتماعي للقرون الوسطى المظلمة إلى مجتمعات حضارية متألقة بالمسؤولية الاجتماعية الجماعية والحرية الفردية المبدعة، ولكن سياسات أوربا الخارجية تختلف بـ 180 درجة عن سياساتها الداخلية، ولذلك فنحن مستمرين بمسيرة التقهقر الحضاري يوماً بعد آخر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سيمون دي بوفوار، قوة الأشياء، ترجمة عايدة مطرجي إدريس، دار الآداب، بيروت، 1964.

محمد حسين النجفي

الأول من أيلول 2021

#محمد_حسين_النجفي          #سيمون_دي_بوفوار        #جان_بول_سارتر       #قوة_الأشياء     #الوجودية
#www.mhalnajafi.org

 

  

مُنـــــاجـــــات الصبـــــاح

أنا وإبريق الشاي بصحبتي
وفي الأفق

موجة من التلال
تسبح بينهما
نخلتين مازالتا يافعتين
في ظل سكون لا يُفزعهُ

سوى
زقزقة العصافير 
وحفيف أغصان شجرة الرمان
أجلس وحيداً بينهما
كي أمتع نظري
وأرطب عطشي
إلى الهدوء والسكينة
كي
أشتت بها أفكاري
وأبعثر بها أحلامي
لأستجمع قوايْ

وأهيئ نفسي
 ليوم جديد
لا ندري كيف سيكون 

الشُــــرفـــــــة: قصـــة حب بغـــــداديـــــة

الشرفة

“تباطأت الحلوة في خطواتها كي تتخلف بعض الشيء عن زوجها عمداً، لتفرش عباءتها على مصراعيها كأنها فراشة ربيعية،
ولترفع يدها إلى جبينها وتمنح نزار تحية بيد مرتجفة”

جعلت أم علي من “الحِفافةِ” مهنة لها، حيث تؤدي واجبها في البيوت المستورة التي لا تحب نسائها الذهاب إلى صالونات الحلاقة النسائية.  أخذت أم علي، على عاتقها العمل للمساعدة على تربية أطفالها الثلاث، والاعتناء بزوجها الذي أصبحت همومه وأخفاقاته مسيرة حياته. أم علي “كثيرة الصنايع وبختها ضايع”، لان زوجها الذي يعمل في سوق  بيع الخضار بالجملة، يعمل يومًا ويجلس في البيت عشرة أيام. مشكلته الإدمان على المشروب، الذي يُذكره، بالآمال الكبيرة التي ضاعت، لتحل محلها انكسارات لم يستطع التغلب عليها، ليغرق في متاهات لماذا وماذا لو.

كانت أم علي، تزور جارتها أم نزار بمناسبة وغير مناسبة، تحكي لها همومها وعما يدور في الحارة من قصص غرامية ومشاكل زوجية، ومن تخاصم مع من، ومن الذي مع الزعيم* (عبد الكريم قاسم) ومن هو ضد الزعيم “ومنو الراح ومنو الأجه”. أما نزار فكان يُحضر لامتحانات البكالوريا للصف الثالث المتوسط، للعام الدراسي 1962/1961، وافضل مكان يجلس فيه هو الشرفة الأرضية المجاورة لغرفة الجلوس، والمُطلة على الحديقة الأمامية. لذلك كان نزار يستمع بشكل غير مباشر ودون قصد، لحديث أم علي مع والدته.  وكان ينبهر من فطنة أم علي السياسية، حينما يسمعها تعلق على ما يقوله المذيع في اخبار التلفزيون. وكان يرى في تعليقاتها حِساً وذكاءاً وحنكة سياسية لا تتناسب مع ثقافتها أو مهنتها. واحيانا يقول في نفسه،  يبدو أن أم علي تنتمي لحزبٍ او حركة سياسية! وفي احد الأيام سألت أم نزار، أم علي قائلةً: “أكول انتِ شلون عايشه ويه هذا رجلچ السكير؟” “لا يا أم نزار على بختچ”، أجابتها أم علي، “موحقه هيچي يصير، چان فورمن بالسكك يُكرك وفصلوه، لانه نقابي ويدافع عن حقوق العمال”. “معقوله شلون يقبل الزعيم”، أجابتها أم نزار. “ليش الزعيم يدري شديصير بالولايه، الله مبدالچ، ديفصلون المخلصين ويصعدون الخونة وهو نايم، الله اليستر”.

 تحدثت أم علي خلال إحدى هذه الجلسات عن “ليلى الحلوة”، وهكذا كانت تَسميتها في المحلة، لأنها فعلا فتاة جميلة، ورشيقة وذات شعر ذهبي مكعكل طويل وعيون عسلية واسعة مثل عيون الغزلان.  بيت ليلى يقابل بيت  نزار من الجهة الأخرى من الشارع، بيت كبير يتكون من طابقين، وفي الطابق الثاني بالكونة (شرفة) مزينة بسندانات ورود متنوعة بألوانها وأشكالها. وكانت هذه الشُرفة مُطلة على الشارع وتشرف على الشرفة التي يدرس فيها نزار.  تُطل ليلى من بالكونتها المشرفة على الطارمة التي يدرس فيها نزار مرة أو مرتين في الأقل يومياً. ونزار شاب وقور وخجول، لذا كان يُبعد نظره عنها خجلاً حينما يلاحظ وجودها، كي لا تنحرج منه، ولأنه يعلم أنها نافذتها الوحيدة للعالم الخارجي، ولتبقى واقفة هناك تُمتع نظرها في تحركات البشر والسيارات وما يدور في الشارع من رواح ومجيء.

ولكن في احد الأيام حدث ما لم يكن متوقعاً.  أطلت ليلى وكان وجه نزار باتجاه سندانات شرفتها وكأنه يحاول ان يشتم رحيق الورد عن بعد، وقبل ان يدير رأسه عنها كعادته، منحته ليلى ابتسامة خجولة ودعوة إيحائية بما معناه، ألّا تدر بوجهك عني، لأنني هنا كي أراك وكي تراني. إرتبك نزار من الموقف غير المتوقع، خفقان في القلب واهتزاز في القدمين وشعور بمن لا يصدق ما يحدث. انسحبت ليلى إلى مخدعها بسرعة فائقة. بقيّ نزار يفكر بما حدث؟ هل كان ذلك حقيقة أم خيال؟ سؤال ظل دون إجابة لحين الأطلالة الثانية التي كان نزار يترقبها بفارغ الصبر. وإذا بها  ليلى بلحمها وشحمها وشعرها الطويل المتناثر في الهواء، وبلمعان عذب في عيونها لم يسبق له ان رآه من قبل. ولم تمضي سوى لحظات حتى رفعت يدها اليمنى لتهزها عدة مرات كي تُسلم من بعيد ولكي تذهله من جديد. ولم يعرف نزار كيف يجيب، سوى رفع اليد بالإجابة دون ابتسامة لإنه كان مرتبك، لا بل مرتبك جداً، ولا يدري هل انها تسخر منه؟ هل تغازله؟ هل تصادقه؟ أم انها تسلم على ابن الجيران لا اكثر ولا اقل؟ كل ألاحتمالات ممكنة، لكنه كان راضياً بأيٍ منها.

استمرت التحيات والابتسامات عبر الأثير، وكانت حافزاً يومياً  كي يُهيّئ نزار نفسه كل يوم ليشرب شاي الصباح ويتناول الغذاء في طارمة الخير والسعادة، طارمة الحب والغرام، الطارمة الموعودة التي تطل منها المدلولة. كانت اغاني عبد الحليم حافظ هي الشائعة في ذلك الزمان خاصة أغاني فلم “حكاية حب” مع مريم فخر الدين الذي عُرض في صالات السينما مؤخراً. كان معظم شباب ستينات القرن الماضي معجبين بأغاني عبد الحليم، لذلك كان معظمهم يحملون راديو ترانزستور صغير، مثلما يلازمهم الهاتف المحمول هذه الأيام، كي يستمعوا إلى الأغاني العاطفية. يتضمن فيلم حكاية حب، قصة حب صعبة المنال بين فتى فقير وفتاة من عائلة باشوات، ويحتوي على اجمل ما غنى عبد الحليم مثل اغنية  “بتلوموني ليه” واغنية  “حبك نار”  واغنية  “بحلم بيك”. وإذا صادف حينما تطل المدلولة من شرفتها أن يكون عبد الحليم مُغرداً، يرفع نزار صوت المذياع كي تستمع اليه ليلى وتطرب معه ولو من بعيد، وربما كان ذلك الوسيلة الوحيدة للحديث بينهما. وحينما تراه يرفع الصوت تنفرج أسارير وجهها بابتسامة ناعمة وخجوله مع وضوح بالاستمتاع بها وكأن نزار يناجيها.

وفي يوم من الأيام سمع نزار صوت عبد الحليم يأتي من بعيد في اغنيته الدرامية “حُبك نار”، من الجانب الآخر من الشارع. بدأ الصوت يقترب اكثر والمصدر اضحى اكثر وضوحًا، وإذا به من راديو ترانزستور صغير محمول بيد ليلى، وهي خارجة به من غرفتها الى البالكونه وصوت الراديو بدأ يرتفع كي يسمعه العاشق الولهان في الطرف الآخر من منزلها. قرر نزار ان يجيبها بالبحث عن نفس الأغنية. لم تكن المحطات كثيرة في ذلك الوقت، لذلك عثر عليها بسرعة فائقة، ثم رفع يده التي تحمل الراديو للإجابة على التحية التي أشعلت النار في قلبيهما. وبذلك أصبحت هذه عادة مستمرة بينهما. وكان المارة من الجيران يسمعون نفس الأغنية من على جانبي الشارع، وربما شك البعض من ان مصادفة سماع نفس الاغاني اضحت كثيرة التكرار!

ومرت الأيام الجميلة بسرعة فائقة، وانتهت امتحانات البكالوريا، وكان من عادة نزار العمل مع والده الذي يملك مكتبة لبيع الكتب في شارع السعدون في العطلة الصيفية. نزار يحب العمل في مكتبة والده لأنه شغوف بقراءة الكتب السياسية والقصص الواقعية. كان يقرأ كثيراً قصص نجيب محفوظ وكتابات سلامة موسى. إلا انه لاحظ من اليوم الأول أن بعض الرفوف فارغة من الكتب. سأل والده عن السبب، وكان الجواب إن وزارة الإرشاد والأمن السياسي أبلغونا بعدم نشر وبيع الكتب الهدامة (يسارية التوجه)، لذلك سحبناها من الرفوف وحاليا أخفيناها في غرفة الخزن الخلفية، نبيعها للزبائن الذين نعرفهم فقط.  اسرع نزار إلى المخزن واختار بعض الكتب كي يأخذها معه إلى البيت.

مضت عدة أسابيع على هذا المنوال،  وفي مساء احد أيام الخميس، سمع الجميع هلاهل (زغاريد) تأتي من جهة بيت الحلوة.  وكانت هناك سيارتان او ثلاث واقفة أمام دارهم. لم تدم الشكوك لمعرفة ما جرى سوى يوم واحد، حيث جاءت أم علي إلى دار أم نزار كعادتها بعد ظهر يوم الجمعة كي تزف البشرى، وبدأت كلامها بتساؤل عما إذا سمع الجميع من ان ليلى قد تمت خطبتها من احد أقاربها البارحة. سألتها أم نزار ما إذا كان هذا الخطيب حبيب؟ أجابتها أم علي كلا، ولكني اعتقد انها تحب شخصاً آخر، لأنها كانت سعيدة جداً هذه الأيام وتستمع للأغاني العاطفية كثيراً، وغمزت لنزار بعينها لتُعلمه من انها على معرفة بقصتهم. سألت أم نزار، أم علي: إذا كانت ليلى تحب شخصاً آخر، فلماذا قبلت الزواج من قريبها؟ أجابتها أم علي بحنكة فائقة، من ان حُب الشباب، مشاعر جميلة إلا إنها لا تُكوْن بيت، فالحب شيء والزواج شيء آخر. حينها تملك نزار شعور غريب يصعب فهمه ويتعسر تفسيره، لأنه شعور مُشوش ومتناقض وغير واضح وغير متكامل. وأخذت الأفكار تسبح في مخيلته: طبعاً إذا تقدم لها عريس سوف تتزوج، ولكن ماذا عن “حبك نار”! إنها نارٌ سوف يطفئها الزواج يا صاحبي، لأنها لم تكن ناراً، وإنما شعلة ضياء آتية من قنديلٍ رومانسي يبهر حياتنا بمشاعر نبيلة يخفق لها القلب دون أن يأسره.

تغير الموقف كلياً. لم يعد الثنائي يستمع للاغاني معاً، لم يعد هناك من لزوم للتقصد بالتواجد في محطات التلاقي. ولكن حينما تلتقي عيناهما من بعيد مصادفة، لم يعلوا أي منهما جهداً لتجنبها، لا بل يتم تبادل التحيات ولو بشكل آخر، تحية جار لجار، كلها ود واحترام. كان ذِهاب نزار للعمل مع والده يساعده كثيراً على تفادي اللقاءات المؤلمة. وبدأ يسهر مع الأصدقاء في المساء كي لا  يرجع إلى البيت إلا والظلام قد اسكن المحلة في بيوتها. وقبل نهاية ذلك الصيف وفي مساء يوم آخر من أيام الخميس، جاءت الزفة لتأخذ العروس إلى عش الزوجية الجديد، لتتحول ليلى من طفلة بريئة إلى امرأة ناضجة، ولتصبح ربة بيت، ولتنجب بنات وبنين، وربما تتذكر بين الحين والحين، عند سماع أغنية ذات رنين، فيها خصوصية ذات معنى وحنين، مشاعر حب عذري سيظل مطوياً عبر السنين.

وفي يوم خريفي من احد أيام الجمع الذي عادة يزور فيها الأبناء أهلهم، كان نزار في باب الدار يراقب الرياح  العاتية والسماء المكفهرة وتبعثر أوراق أشجار النارنج والبرتقال الصفراء، مترقباً لاحتمالات هطول مطر في ذلك اليوم الهائج، لمح قدوم إمرأة ميز طلتها من بعيد ومعها رجل لم يره من قبل، حدس انه غريمه وزوجها،  قاصدين بيت اهلها الذي يقابل بيتهم. حار نزار في امره، وارتبك في موقفه، وأخذ يسأل نفسه ما المفروض أن يفعله؟ هل يدخل البيت ويتجنب رؤيتهما؟  لم يستطع فعل ذلك ولن يقوى عليه لأنه يريد رؤيتها ولو لآخر مرة. فظل واقفاً متبسمراً في مكانه، وجسمه يرتعش بكامله. كانت خطواتهم بطيئة جداً، احس إنها لاحظته، ووجهت رأسها باتجاهه، وحينما اقتربوا من بيت نزار تباطأت الحلوة في خطواتها كي تتخلف بعض الشيء عن زوجها عمداً، لتفرش عباءتها على مصراعيها كأنها فراشة ربيعية، ولترفع يدها إلى جبينها، وتمنح نزار تحية بيد مرتجفة، وبنظرات حائرة،  وبابتسامة مرتبكة، لا معنى لها سوى إنها ما زالت تتذكر تلك اللحظات العذبة، وانها سعيدة جداً بهذا اللقاء الخاطف، الذي كان في نفس الوقت لقاء ووداع.
__________________________________________________________________
* (الزعيم عبد الكريم قاسم)
محمد حسين النجفي
www.mhalnajafi.org
#محمد_حسين_النجفي   #الزمن_الجميل    #قصة_حب_بغدادية

 

 

بغــــــــــــــــــداد الكــــــــــــــــــبرى

Greater Baghdad

لقد آن الأوان لإعادة تنظيم الهيكل الإداري لمحافظة بغداد الكبرى. ودعونا نبحث هذا الموضوع بقدر كافِ من التحليل والموضوعية. حيث قُدرت نفوس العراق لعام 2020 على ما يزيد على أربعين مليون نسمة، ونفوس بغداد  بحدود التسعة ملايين نسمة. إن نفوس محافظة  بغداد بمفردها تمثل أكثر من خُمس سكان العراق. وإذا استبعدنا إقليم كردستان، فإن نفوس بغداد ستمثل أكثر من ربع سكان بقية العراق. إن متوسط نفوس المحافظات السبعة عشر الباقية، فيما عدا محافظة بغداد أقل من مليوني نسمة. أي إن نفوس محافظة بغداد تعادل حوالي خَمس محافظات كبيرة وحوالي تسع محافظات مثل محافظة المثنى. طبعاً التباين في عدد النفوس وحجم المساحة الجغرافية للمحافظات مسألة طبيعية، ولكن ليس بالضرورة أن يبقى القديم على قِدمه. فنحن نعلم أن محافظات النجف وصلاح الدين ودهوك استحدثت في منتصف السبعينات، نتيجة للتطور السياسي والسكاني. فمحافظة بغداد تطورت خلال الستين عاماً الماضية سكانياً وجغرافياً لجملة عوامل مختلفة، بشكل لا يتناسب مع النمو العام في بقية المحافظات، مما أدى الى أختناقات مرورية، وانخفاض في تقديم الخدمات الحكومية الأساسية، وانخفاض كبير في الأمن والأمان. فمن أجل أداء أفضل لمحافظة بغداد الكبرى أقترح تقسيمها الى ثلاث محافظات، آخذين بنظر ألاعتبار التوزيع السكاني، والتباين الثقافي والاقتصادي والاجتماعي بين وَسَط بغداد وبين شرقها وغربها، وضوابط جغرافية طبيعية او مخططة عمرانياً، مع التأكيد على ان هذا التقسيم ليس لأسباب عرقية او طائفية، وإنما لأسباب ادارية وجغرافية تتيح فرصة إدارية وخدمية ومالية ورقابية افضل. إن تحويل محافظة بغداد الكبرى الى ثلاث محافظات سيمنحها القدر والقيمة التي يستحقها سكانها.  إن معظم مناطق محافظة بغداد هي مناطق مأهولة دون فجوات او فراغات طبيعية تساعد على التقسيم، فيما عدا نهر دجلة الخالد وقناة الجيش العظيمة. لذا اقترح ان  تُقسم محافظة بغداد الكبرى الى ثلاث محافظات كبيرة ايضاً، كما هو موضح في الخريطة التوضيحية أعلاه، مستفيدين من نهر دجلة الذي يفصل جانب الكرخ عن الرصافة، وقناة الجيش التي تفصل جانب الرصافة عن مدينة الصدر (الثورة). إن التقسيم الإداري المقترح سوف يمنح هذه المحافظات ما يلي:

  •  سيكون لكل محافظة، محافظ يهتم بها ومسؤول عن شؤونها أمام سكانها
  • سيكون لكل محافظة ميزانية مالية خاصة بها تسد احتياجاتها
  • تحسين الوضع الأمني بسبب المعلومات ألاستخبارية المباشرة
  • يكون لكل محافظة جامعة تعليمية رسمية بكل الاختصاصات
  • يكون لكل محافظة مدينة طب تعليمية متكاملة
  • تستحق كل محافظة ان يكون لها مطار دَوْليّ
  • يكون لكل محافظة العديد من المنتزهات مثل متنزه ا لزوراء
  • التمثيل السياسي المحلي يكون اكثر إنتماءً لبيئته
  • تحسين شفافية الأداء الإداري والخدمي، والمراقبة الشعبية
  • تسهيل التقييم من قبل الناخب لممثليه ورفع مستوى الرِّقابة والمحاسبة على الأداء
  • أقترح تسمية جانب الكرخ “محافظة الزوراء” وهو احد اسماء بغداد القديمة، ويتوجها منتزه الزوراء، ولتكون المنطقة الخضراء مركزها الإداري
  • تسمية منطقة شرق قناة الجيش “محافظة الثورة” وفاءاً لمؤسسها الزعيم عبد الكريم قاسم، ولتكون مدينة الصدر مركزها الإداري
  • تسمية جانب الرصافة “محافظة بغداد” عاصمة العراق ألاتحادي الموحد، ويكون مركزها الإداري في منطقة ألخلاني
  • أستحداث منصب وزير دولة لشؤون بغداد الكبرى للتنسيق بين المحافظات الثلاث فيما بينها ومع مجلس الوزراء

 إن الغرض الأساسي لهذا الحِوار وإن كان متأخراً بعض الشيء، هو بدأ الحِوار لتحسين كفاية الأداء الخدمي وتمكين المواطنين من  اختيار ممثلين عنهم من بين مناطقهم وبيئتهم، وتمكينهم من مراقبة الأداء بشكل مباشر ومحاسبة المقصرين. وقد يؤدي ذلك الى تحسين أداء الخِدْمَات مثل الكهرباء والماء وجمع القمامة وتبليط الشوارع ونظافتها، وتحسين أداء التعليم بكل مراحلة من الحضانة حتى الدكتوراه، وتخفيف أزمة السكن والمواصلات.
محمد حسين النجفي
 كانون الثاني 2014
أعيدت كتابته وتقديمه في أيلول 2021
#بغداد      #محافظة_بغداد       #محمد_حسين_النجفي              #الكرخ_الرصافة 

مقاطعة الأنتخابات: البديل الأضعف

أعلن السيد مقتدى الصدر مقاطعته للأنتخابات القادمة، تبعه في ذلك الحزب الشيوعي العراقي. قراران يتسمان بالاهمية، وتَحملان في طياتهما إدانة واضحة لجدوى ألانتخابات وللعملية الديمقراطية برمتها.  ان هاتين الحركتين في طبيعة تكوينها وأهدافها غير مُتجانستين، على الرغم انهما عملا معاً تحت سقف إئتلاف “سائرون” في الأنتخابات الماضية، وحققا نجاحاً يُذكر. موقف كهذا يتطلب الجواب على السؤال التالي: ما العمل بعد عدم المشاركة في الأنتخابات؟

الكل يتفق من أن العملية السياسية ومنها الأنتخابات، فاسدة ومنخورة حتى العظام، وأن الآمال في إحداث تغيير في تركيبة مجلس النواب المُقسم محاصصياً شبه مستحيلة. ولكن هل أن المقاطعة هي الحل الأفضل؟ للأسف الشديد لا اعتقد ذلك. لأن مقاطعة الأنتخابات من قبل بعض الجهات، سوف يمنح الفرصة للجهات الأخرى ان تَستغل ذلك لتسد الفراغ، وبالتالي ينحصر ألاستحواذ على السلطات والثروات بأيادي أقل ويتركز الفساد بيد سلطة تكون منفردة بمقومات البلد.

الصدريون يختلفون عن الشيوعيون من حيث العدد والعدة والقدرة على التأثير على ما يجري في البرلمان والحكومة والشارع، مُضافاً لذلك يمتلكون حجم وافر من علاقات  إقليمية سواء من خلال أجهزة الدولة او من خارجها. وفي النهاية سنرى ان الصدر والصدريين سوف يتراجعون عن المقاطعة، ويشاركون بالأنتخابات لثلاثة أسباب: أولها لأن الآخرين سيطلبون منهم ذلك، فعلى سبيل المثال، السيد الكاظمي اعلن عن اسفه لعدم مشاركة الصدر، وهذا يعني مطالبته بأن يشارك. والسبب الآخر ان النواب الصدرين سيضغطون على الصدر للتراجع عن موقفه، فإن تعنت فإن غالبيتهم سوف ينشقون عنه ويرشحون تحت مكونات انتخابية جديدة بأسماء اخرى او يندمجون مع إئتلافات وقوائم مستعدة لأحتضانهم. أما السبب الثالث والمهم فإن عضوية مجلس النواب، أمتيازات وحصانة وحماية وتغطية، وليست واجب وطني كما هو مفروض. النيابة ليست وظيفة عالية الدفع والمخصصات فقط، وإنما شركة قابضة عملاقة للعديد من المشاريع والمقاولات والعلاقات والزيجات والسفرات والعلاجات، التي لا يمكن في اي حال من الأحوال ان يستغني عنها النواب الصدريين طواعية لوجه الله.

 يأخذ الحزب الشيوعي  قراراته من مفهوم المصلحة العامة، والوطن اولاً، مناهضاً للفساد والمحاصصة والطائفية، التي لا تلقَ استجابة في صناديق ألاقتراع للأسف الشديد على الرغْم من تأييدها من قبل المثقفين والواعين. لذا يرى الشيوعيون ان حظهم محدود جداً ضمن ظروف قانون انتخابات مُصمم لمصلحة الكتل الكبرى، ضمن بيئة معظم الأصوات توزع إما طائفياً او عرقياً او عشائرياً او مناطقياً أو بتفاعل عاملين او أكثر من هذه العوامل، وليس على أساس البرامج ألاقتصادية والأصلاحات ألاجتماعية ورفع مستوى التعليم والثقافة وتحسين الرعاية الصحية وتحقيق العدالة ألاجتماعية والى آخر ما ينادي به اليسار والتيار الديمقراطي العلماني والمخلصين في العراق.

إن مقاطعة ألانتخابات من قبل بعض الأحزاب سوف لن تُلغي الأنتخابات او حتى لن تُقلل من شأن نتائجها، لأنها سوف تمنح فرصة للآخرين للاستحواذ على مقاعد أكثر كما ذكرنا. وإذا رجعنا للسؤال الأول: ما العمل وما هو البديل؟ ان الشيوعيين ومجموعة شباب تشرين، ما زالوا ينشطون في المطالبات والمظاهرات والوقفات ألاحتجاجية، وقدموا في ذلك العديد من التضحيات والشهداء خاصة في مدن بغداد والنجف والناصرية. إنه نشاطاً جماهيري له دور عظيم في خلق الوعي لدى الشباب، ولكنه لن يكون عاملاً حاسماً، إن لم تشارك به كل المحافظات من دهوك حتى الفاو، وبزخم عالٍ كما حدث في مصر عدة مرات. وهذا ليس مقدراً له ان يحدث حالياً لانقسام الشارع العراقي قومياً وطائفياً بشكل مكبل للأيادي والعقول بأغلال حديدية للأسف الشديد.

هناك احتمال ان تستفاد مجموعة منْ هُم في السلطة حالياً، مع مجموعة من ضباط الجيش الحاليين والمتقاعدين، وبأسناد خارجي، تغيير السلطة كما حدث سابقاً في مصر والجزائر وما يحدث حالياً في تونس. وهناك احتمالات تشير الى إمكانية حدوث مثل هكذا حركة، خاصة بعد نجاحها في تونس، وتسمى تصحيحية وضد الفساد، وسيرحب الشعب بها ويفرح نتيجة يأسه من الواقع المرير، الى حين ان تنكشف الأوراق من جديد، ويعيد التاريخ نفسه.

لا يمكننا ان نستخف بالأسباب التي دعت الى عدم المشاركة في الأنتخابات من قبل الشيوعي أعرق الأحزاب العراقية، والكتلة الصدرية وهي اكبر الكتل البرلمانية، ولا يمكن ان نستنكر أو نؤيد قرار مفصلي كهذا، ولكن في اعتقادي ممكن ان نحاورهما، ونطرح رأينا المتواضع. ان المشكلة الأساسية في اعتقادي هي مجلس النواب، لأنه ليس سلطة تشريعية فقط، وإنما سلطة تختار السلطة القضائية والتنفيذية أيضاً. فإن كانوا فاسدين فسيختارون منْ هم مثلهم. الحل ان يشارك الصدريون والشيوعيون والعلمانيون والمستقلون في الأنتخابات ويتعلمون كيف يفوزوا بمقاعد كافية للتحكم في البرلمان، او على الأقل يُكونوا كتلة معارضة قوية بشرط ان لا تشترك في السلطات التنفيذية كي تصبح رقيباً شعبياً على الدولة. معنى ذلك ان تنأى كتلة المعارضة عن ألاشتراك بأي منصب رئاسي او وزاري او حتى إداري عالي، كي تبقى قادرة على ان تقوم بدورها الإشرافي في التشريع والمراقبة والمحاسبة.
31 تموز 2021


مقالات ذات صلة على الروابط ادناه:
1- البديل الأنتخابي: تحديد الدوائر الأنتخابي
2- صِناعة مُرشح البديل السياسي
3- مقومات البديل السياسي
4- غياب البديل السياسي
#مقتدى_الصدر   #الأنتخابات_العراقية      #أخبار_العراق      #محمد_حسين_النجفي       #الشيوعي_العراقي

جنوب وأهوار العراق: خيرات ومعاناة

 “يتحدث الكثيرون عن جمال طبيعة أهوار العراق، ولا يتحدثون عن سكان الأهوار ومعاناتهم
 وما تعرضوا له من ظلم وإهمال وتهميش عبر السنين”

تمهــــــــــــــــيد:
من المعروف أن الحضارة الإنسانية قد بدأ شروقها في الجزء الجنوبي من وادي الرافدين الغني بالموارد المائية والمحاصيل الزراعية والثروة الحيوانية والسمكية. حيث شهد جنوب العراق نشأة أول حضارة إنسانية وصلت إلينا، ألا وهي الحضارة السومرية قبل ستة آلاف عام. وقد ساهمت هذه الحضارة في دفع عجلة التقدم البشري وتكوين اول التجمعات الأنسانية على شكل مدن متكاملة، وتحكموا بمصادر المياه ببناء السدود والقنوات للسيطرة على الفيضانات. وما ملحمة كلكامش، الملك السومري الذي دفعه حزنه الشديد على موت صديقه، للقيام برحلة طويلة بحثاً عن سر الخلود، إلا إحدى الأدبيات التراثية من ذلك العهد العظيم.

ونتيجة لخيراته الواسعة، وقع وادي الرافدين تحت الأحتلال الأجنبي تلو الآخر لحين الفتوحات الأسلامية التي انتصرت على الساسانيين. واعتنق سكان العراق الذين لا ينتمون لأي ديانة سماوية، الدين الإسلامي واضحى العراق بكثافة سكانه، اضافة واسعة لحجم وقوة المسلمين. وقد اختيرت الكوفة لتكون عاصمة لخلافة الدولة الأسلامية في عهد الأمام علي (ع). وبتعاقب العهود الأسلامية المختلفة، ازداد استيطان العشائر العربية في العراق، واخذت العادات والتقاليد العربية تُكتسب أكثر فأكثر من قبل السكان الأصليين الذين وَجدوا فيها قيماً مناسبة لتنظيم حياتهم الأقتصادية والأجتماعية.                                                                     


أهوار جنوب العراق: طبيعة وخيرات:
تغطي مساحات شاسعة من جنوب العراق أهوار ومستنقعات تستمد مياهها من الفيضانات الموسمية لنهري دجلة والفرات في ربيع كل عام نتيجة لذوبان الثلوج في جبال فارس والأناضول. ومن اهم هذه الأهوار هي هور الحمار وهور الحويزة وهور الجبايش وهور الرستمية وهور مجنون. حيث تمتد الأهوار من جنوب الفرات الأوسط ومتوسعة في محافظات ميسان وذي قار والبصرة، ومن الشرق تتداخل اهوار العراق مع اهوار إيران. وتعتبر منطقة الأهوار أكبر وأهم ملجأ طبيعي للطيور في الشرق الأوسط، وأحد اهم عشر مناطق مائية في العالم كله. ويأتي ذلك من كونها الملجأ الوحيد لثلثي الطيور المهاجرة عبر الشرق الأوسط  ما بين سايبريا وافريقيا، كذلك فإنها المسكن الدائم لأكثر من مئة نوع من الطيور المائية النادرة الموجودة في العراق مثل البط والوز والحباري والنسر الملوكي والبجع الدلماسي والبلبل العراقي المحبوب. والأهوار غنية بالثروة السمكية، وتعتبر مصدراً مهماً في توفير السمك للمدن المحيطة بها.  ومن أنواع السمك المتوفر في الأهوار نذكر البني والشبوط والهامور والزبيدي وانواع عديدة اخرى. كذلك فإن الأهوار أرض خصبة لتكاثر الروبيان الذي ينساب تدريجياً الى المياه الدافئة في الخليج. ونظراً لأهمية الأهوار القصوى للمنطقة وللعالم أجمع، فإن المركز الدولي لمراقبة الحفاظ على البيئة قد رشح كل من بحيرة هور الحمار وأهوار الناصرية وأهوار الشطرة كمراكز تحتاج لحماية بيئية خاصة للمحافظة عليها دونما اي تغيير(1).

لقد عشق المستكشفون الأجانب، الأهوار حينما زاروها. حيث وصفتها الكاتبة البريطانية فريا ستارك عام 1945، على انها بساط مائي واسع يحفز متعة الخيال خاصة عند الغروب، دون ان تدفع لذلك ثمن يذكر(2). وتغنى بها الرحالة مكسويل في منتصف الخمسينات من القرن العشرين، حيث اذهلته المناظر الطبيعة الخلابة للأهوار. وهاهو يصف إحدى رحلاته الصباحية التي بدأها من قرية أبوملح، حيث يقول: “أخذ مشحافهم يتلوى من خلال الأزقة المائية الضيقة، الى ان إنفرج امامهم الأفق ليروا من بعيد أشجار النخيل الشامخة، وتناسق الالوان الذي يحبس الأنفاس. حيث ترائى له من بعيد بساط برتقالي اللون منشور أمام بيوت من القصب، وكأنه الرداء الملكي المزكش، لا بل أكثر إشراقاً وزهوا. وليس هناك مكان على الأرض يزدهر به الربيع، مثل ضفاف دجلة والفرات التي تعلو على جانبيها بساتين نخيل التمور، وبين ثناياها تتفتح الورود الزاهية الألوان، وعلى مدى البصر تمتد سماء زرقاء تتلاشى في الأفق البعيد. إنها حقاً جنة عدن بعينها”(3).

إقتصاديات سكان الأهوار:
سكان الأهوار نوعين. النوع الأول هم من يسكنون على ضفاف الأهوار وأمتدادهم نحو اليابسة. وهؤلاء يعملون بدرجة أساسية في زراعة الشلب (الرز)، وبالتالي فإنهم خاضعين لنظام ملاك الأراضي والمشايخ والإقطاع. أما النوع الآخر فهم من يسكن الأهوار بين القصب والبردي والذين يعيشون إما في جزر طبيعية صغيرة، أو يصنعون جزرهم عن طريق استخدام الجاموس في طي القصب واضافة الطين فوقه عدة طبقات، ومن ثمّ بناء بيوت من القصب والحصران والطين على تلك الجزيرة، التي تحتاج الترميم المستمر. وهؤلاء القوم هم من أفقر الفقراء، والذين يسمونهم العامة “المعدان” الذين لا يرتبطون بالإقطاع لأنهم لا يحرثون ولا يزرعون أرضاً، وانما  يعتمدون على ما تدرهُ عليهم الجاموس من منتجات الألبان. ويرى السيد مصطفى جمال الدين وهو من أهالي المنطقة، أن المعدان يشبهون من بعض الوجوه إخوانهم العرب الذين يعيشون على تربية الأغنام والبدو الذين يرعون الأبل، فكلهم لا مكان ثابت لسكناهم، لأنهم لا تربطهم بالتربة أراضي زراعية، فأراضي أهل الأهوار هي ضروع جواميسهم التي يتنقلون معها، حسب المراعي التي يكثر فيها النبت الصغير من القصب الذي يسمونه بـ (العُنكر)(4) وعلى  موارد موسمية أخرى مثل صيد الأسماك مستخدمين لآلاف السنين “الفالة” ذات الخمسة رؤوس، ولم يستخدموا الشبك في صيدهم إلا مؤخراً، لأرتفاع سعر الأسماك في الأسواق ولأزدياد الطلب عليها. كذلك فإنهم يستمتعون بصيد انواع الطيور التي تمتلأ بها الأهوار مثل البط والوز والدراج والقطه. ولعل اهم ما يميز اقتصاديات سكان الأهوار هو قدرتهم على الأكتفاء الذاتي من خلال إعادة تدوير مواردهم المحدودة. حيث ان حياتهم الأقتصادية مبنية على الأستفادة من كل الموارد المتاحة لهم محلياً استفادة قصوى. والأستغناء قدر الأمكان عن كل ما يتطلب شراءه من المدن. فبالأضافة لأستخدام القصب كعلف اساسي للجاموس فإنهم ينسجون منه الحصران (السجاد) والسلال. ويستفاد منه في بناء بيوت القصب وأسوارها. أما الجاموس المائي، فإنه مصدر اساسي للحياة في الأهوار. فمنه الحليب الغني بدسمه، والذي يشتق منه الزبد والجبن واللبن (الزبادي). كذلك يُستخدم الجاموس بمثابة  “الشفل” لشق الطرق المائية بين القصب العالي الخشن الملمس. وهذه الطرق هي بمثابة الشوارع والأزقة الضيقية التي لا تسع سوى لمرور مشاحيفهم ذات التصميم الهندسي الرشيق. كذلك تستخدم فضلات الجاموس وقوداً للطبخ والتدفئة. أما طعامهم المفضل فهو مما متوفر محلياً من الرز والسمك والطيور مع حليب الجاموس ومشتقاته. والمعروف عنهم أنهم يحتسون الشاي بالسكر والقهوة المرة، ويكثرون من ذلك خاصة في جلسات المضايف المسائية وفي مناسبات الأفراح والمآتم.
 

           

المرأة في الأهوار:
للمرأة في الأهوار دور فعال في الحياة الأجتماعية والأقتصادية للعائلة. فإذا كان الرجل رب الأسرة عُرفاً، فإن المرأة في الأهوار هي المحور الأساس والسندان الذي تعول عليه العائلة. فهي ربة بيت مسؤولة عن تربية الأطفال واداء الأعمال المنزلية من دون استخدام الأجهزة والأدوات الحديثة. وهي تجلب الماء للبيت وتقطع القصب لتقدمه علفاً للجاموس. كذلك فإنها تقوم بدور البائعة لما تنتجه العائلة من حصران وسلال ، وما تكرره وتخمره من منتجات الألبان. وهي تقود المشحوف بمفردها وتنزل الى الأسواق لتتم صفقاتها التجارية بكل جدارة وثقة، لتعود لمنزلها محملة بما يحتاج اليه البيت من سُكر وشاي ورز وطحين وسكائر وعلب الكبريت. وحقيقة الأمر ان المرأة في هذه المجتمعات تقوم بكل شئ ما عدى حلب الجاموس الذي يقوم به الرجال.  وعلى الرغم من مشاركتها الفعالة في شؤون العائلة، إلا انها لا تشارك في جلسات المضايف المسائية المخصصة للرجال فقط. وهي جلسات للمسامرة ورشف فناجين القهوة المرة الواحد بعد الآخر، ولتقديم السكائر سواء اللف او المزبن او المعلب، وليستمتعوا بسماع قصص بطولات فرسان العرب، وحكايات ألف ليلة وليلة الخيالية، وعن عنتر وعبلة وعن الجن والسعلوة والآفة والحوت.

                                                                          

ويصف ثيسيجر عرب الأهوار بأنهم شديدي الأعتزاز بكرامتهم، ويبلغ كرمهم حداً غير معقول، فلا يمانع احدهم بأن يمنحك ثوبه الوحيد الذي يلبسه اذا طلبت منه ذلك. أما المستكشفة والكاتبة الأنكليزية أثيل ستيفنز التي عاشت في العراق منذ عام 1919 لغاية عام 1939 والتي زارت فيها معظم المدن التي لها تاريخ حضاري مثل نينوى وبابل وأور، “إنها وجدت في سكان الأهوار الشئ الكثير من طباع الطيور المائية التي ترفرف وتنتفض عند الدخول الى الماء والخروج منه. كذلك فقد لفت نظرها سرعة البديهة في رصد النكة في الكلام، وهيامهم في الشعر والغناء”(5).

وترجع أصول عرب جنوب العراق الى قبائل البدو في الجزيرة العربية، وعلى ذلك فإنهم ينقسمون الى قبائل وعشائر وأفخاذ وألبو. نذكر منهم، آل الفرطوس، بني أسد، آل زيرج، آل عيسى، ألبو دراج، ألبو محمد، بني لام، آل حسن، ألبو علي، ألبو غنام، ألبو صالح، ألبو شامة، الأمارة، بني خيكان ومنهم آل جوبر، ليصلوا الى أكثر من مئة عائلة وعشيرة.  ويتفاخر أهل الجنوب بتضامنهم مع بعضهم البعض ويؤمنون بالمسؤولية الجماعية. فإن أخطأ أحدهم فإن العشيرة برمتها تتحمل مسؤولية ذلك، وتشارك في تسديد تكاليف التعويض ودفع الفدية. ويشبه ذلك ماهو متعارف عليه حالياً بنظام التأمين ضد الشكاوي العامة او الخاصة.

المعاناة: سلسلة متواصلة
لقد تعرض النظام العشائري التضامني التقليدي في جنوب العراق في مطلع القرن العشرين الى تغييرات جوهرية. حيث تغيرت العلاقات الأقتصادية والأجتماعية من كونها تضامنية وتكافلية، الى علاقات إقطاعية وشبه إقطاعية معتمدين في ذلك على الدستور العراقي الذي كُتب عام 1925، الذي استثنى الريف من الخضوع للسلطة المركزية والقانون العام، ومنح الشيوخ سلطات واسعة بموجب قانون العشائر وقوانيين تسويات الأراضي التي استطاع من خلالها الشيوخ إبتزاز العهد الملكي الضعيف والسيطرة على اراضي واسعة وخصبة كشرط من شروط مبايعة الملك فيصل الأول ملكاً على العراق. حيث ان الشيوخ، هُم مُلاك الأراضي والقرى التي يسكنها ويزرعها الفلاحون. ويحصل المُلاك على حصة الأسد من المحاصيل، تبلغ في بعض الأحيان ثلاثة ارباعها. وكان بعض الشيوخ المحميون بقانون ملكية الأراضي الزراعية وقانون العشائر، يعاملون رعاياهم بمنتهى القسوة واللا إنسانية لتشمل الأهانة والضرب والجلد وحتى السجن في سجون الشيخ الخاصة. وبعد ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958، تمّ ألغاء قانون العشائرالمعمول به سابقاُ. كذلك الغيت العلاقات الاقطاعية بوضع حد أعلى للملكية الزراعة وفق قانون الاصلاح الزراعي رقم 30 لعام 1958. حيث تمّ توزيع الاراضي المسيطر عليها على الفلاحين الصغار، ووضعت الأسس اللازمة لتشجيع الملكية الزراعية الصغيرة والجمعيات التعاونية الزراعية، مما خلق معه نوع من التوازن الأقتصادي والعدالة الأجتماعية، واعادة توزيع الثروة والدخل على شرائح واسعة من سكان الريف، وهذا ما كان مفترض به أن يكون. ولقد أدى ذلك الى تزعزع العلاقات العشائرية وتدهورها  لفترة من الزمن، إلا انها سرعان ما عادت مبنية على اسس افضل تعتمد على قدرة الشيخ على اكتساب الأحترام والولاء من ابناء عشيرتهِ، وليس كما كان في معظم الأوقات امر محتوم وضرورة إقتصادية(6). تقلبات كثيرة اربكت العلاقات العشائرية وغيرت من طبيعتها الكثير.

ويقال ان تعداد سكان الأهوار بلغ حوالي النصف مليون نسمة في الخمسينات من القرن العشرين. إلا ان هذا العدد قد اخذ بالتناقص المستمر، نتيجة لتدهور الحياة المعاشية في الأهوار بسبب الأنخفاض المستمر في مستوى المياه التي تغذي الأهوار وتنعش الحياة فيها. إضافة الى ذلك الأهمال الكلي من قبل الأدارات المتعاقبة لهذه المنطقة لتبقى دون تطور يُذكر من حيث توفر الخدمات الصحية، او المدارس المناسبة للأطفال والأحداث، او اية مشاريع تنموية تساعد اهالي المنطقة على الأستفادة من امكانياتهم المحلية وتطويرها وتسويقها بأسعار مناسبة. كذلك العلاقات الأقطاعية غير الإنسانية وغير المجزية اقتصادياً، دفعت العديد من الشباب بالبحث عن فرص عمل خارج الطوق العشائري. وفي الوقت نفسه، فإن فرص العمالة وارتفاع الأجور في المدن الرئيسة، مثل بغداد والبصرة وغيرها، قد ادى الى نزوح العديد منهم للسكن في المدن الكبيرة، حيث تشكل مدينتي الثورة (الصدر) والشعلة في بغداد مثالاً بارزاً لهجرة أهالي الجنوب وابناء الأهوار بشكل خاص للسعي وراء مصادر رزق افضل.

كوارث ومعاناة:
لقد مرت على العراق خلال الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين، احداث جسام ادت الى العديد من التغيرات في البنية الأجتماعية والأقتصادية للمجتمع. وكان لجنوب العراق حصة وافرة من هذه الأحداث، حيث كان ساحة قتال مستمرة للحرب العراقية الأيرانية التي استمرت لثمان سنوات، والتي ادت الى دمار شامل للمناطق الحدودية وتلوث مزمن للبيئة المائية، حيث قام  الجيش العراقي بأجتتاث مساحات واسعة من مزارع النخيل في المنطقة الحدودية مع إيران، وقطع رؤوس ما تبقى منها، حتى لا تصبح غطاء للقوات الإيرانية. وأوقفت الري كي يغادر أغلب المزارعين مناطقهم. فتحولت بساتين النخيل التي تغطي عموم أراضي البصرة الى غابة من أعمدة خشبية، جذوع بلا رؤوس، أجساد بلا روح، أعواد بلا ثمر أو أي رجاء مستقبلي مثمر. ثم جاءت حرب الخليج الثانية وما اعقبها من احداث مؤلمة، حيث كان الجنوب خط الدفاع الأول، فأنهال الحلفاء بطائراتهم وصواريخهم بالقصف المستمر فهدموا الجسور ودمروا المولدات الكهربائية وخربوا شبكات المياه الصالحة للشرب. أعقب ذلك الأنتفاضة الشعبانية عام 1991، وما اعقبها من حملة دموية انتقامية من قبل السلطة، حيث تجاوز عدد الضحايا مئات الآلاف، اعقبها حصار اقتصادي وإهمال متعمد لأذلال سكان جنوب العراق بسبب إنتفاضتهم الشعبانية..
وبدلاً من ان يكون اكتشاف النفط في اهوار الجنوب عامل خير وبركة، فإنه كان وغيره من الأسباب والظروف التي تبلورت بعد حربي الخليج الأولى والثانية من العوامل التي ادت الى اعادة تنظيم المياه في هذا الوادي الخصيب، مما ادى الى بناء السدود والتعليات الترابية وشق القنوات والأنهر المصطنعة، وبناء شبكة واسعة من الطرق لربط المناطق ببعضها، لأغراض عسكرية وقمعية لأهالي الجنوب. كل ذلك وغيره ادى الى نزوح جماعي من المنطقة نتيجة الجفاف من جهة والظروف المحيطة الصعبة من جهة اخرى. ومن بين أخطر المشاريع على بيئة الأهوار وجنوب العراق هو مشروع النهر الثالث الذي تمّ افتتاحه في 7 كانون أول عام 1992، الذي ادى الى تجفيف الأهوار وتهجير ساكنيها، وانهاء الحياة المعتادة لآلاف السنين فيها(7). لاحظ في الصورة الجوية  للأهوار لعام 1970 وكلها خضراء، والصورة لعام 1993 بعد التجفيف وكيف تحولت معظم الأهوار الى صحراء قاحلة.

أهوار العراق 1993 بعد التجفيف، ستلايت
أهوار العراق 1993 بعد التجفيف، ستالايت
أهوار العراق 1970، ستالات
أهوار العراق 1970 قبل التجفيف، ستالايت

 

ألختــــــــــــــــــــــــــــــــــام:

ولابد لنا من ان نطالب كافة الجهات الحكومية المعنية بشكل مباشر أو غير مباشر، بالحفاظ على هذه البيئة الغنية بثروتها الطبيعية وبتراثها عبر السنين، ومنح سكانها حرية العيش في ديارهم وفي بيئتهم التي اعتادوا عليها، فإن خسارة هذا التراث لا يمكن ان تعوض بأية جدوى اقتصادية لمشاريع قد رأينا الفشل الذريع للعديد منها سابقاً. كذلك فإن هناك مسؤولية إجتماعية ودينية وعشائرية وأخلاقية للحفاظ على البيئة التي دافعنا عنها وعن ساكنيها للعديد من السنوات العجاف. ولكننا للأسف الشديد نرى أن  التقارير تشير الى ان بعض أهالي المنطقة هم من يعتدون عليها حالياً، فإنهم يصيدون الأسماك وقت التكاثر، ويصطادون الطيور النادرة المهاجرة مثل طيور الفلامنكو ويستخدموها في مأكلهم، ويتصارعون بعنف على حصص المياه، ويتسلون سياحياً على حساب الحفاظ على البيئة.  والجدير بالذكر أن منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة وافقت في 17 تموزعام 2016 على اعتبار أهوار العراق، والمدن الأثرية القديمة الموجودة بالقرب منها مثل أور وإريدو والوركاء، ضمن لائحة التراث العالمي ومن الأقاليم المحمية دولياً، لغنى طبيعتها ولأهميتها التأريخية، مطالبةً الحكومة العراقية عدم الأسفاف في الأستخدامات السياحية التجارية، والحرص على عدم تلويثها بسبب التنقيب والأستخراجات النفطية. ولا ندري إن أسمعت فتوى اليونسكو حياً ام لا. ولنأمل ان تبقى أزهار وادي الرافدين متفتحة دائماً، وطيور الأهوار مرفرفةً في سمائه الزرقاء أبدا.

مصادر البحث:
1- الشيباني، د. هيثم، أهوار العراق، الكاردينيا، حزيران،  2016.
2- Freya Stark, Baghdad Sketches, Illinois, The Marlboro Press.1984, Page 107.
3- Gavin Maxwell, People of Reeds, Harper, New York, 1957, Page: 188-189.
4- مصطفى جمال الدين، محنة الأهوار والصمت العربي، محاضرة ألقيت في مركز أهل البيت، 8/22/1993، ص:12.
5- Ethel S. Stevens, By Tigris and Euphrates, London, Hurst& Blackett Ltd., 1923
6- الطائي، صادق، القبيلة والسياسة في العهد الملكي والجمهوري، القدس العربي، مجلة ألكترونية، 30/8/2016.
7- Sean Ryan, “Saddam Kills off Marsh Wildlife in Eco-Disaster”, The Sunday Times, London, April 17, 1994, Page 16.

محمد حسين النجفي
#أهوار_العراق       #المعدان       #جنوب_العراق      #عشائر_العراق      #تجفيف_أهوار_العراق     #محمد_حسين_النجفي
تموز 2021

نوري باشا السعيد: ملك العراق غير المتوج

الفصل الثالث من سلسلة اليوبيل المئوي لتأسيس الدولة العراقية

 لم يكن نوري باشا السعيد شخصاً عادياً او سياسياً ذكياً او حاكماً قادراً فحسب، وانما كان ظاهرة عراقية باهرة، وشخصية سياسية فريدة من نوعها، تركت بصمتها على الدولة العراقية منذ تأسيسها حتى وقتنا الحاضر. وهذا القول يقر به محبوه وأعدائه، لأنه تحكم في تطورالأوضاع السياسية لمدة لا تقل عن أربعين عاماً بشكل مباشر، وحتى يومنا هذا بشكل غير مباشر. نحن هنا بصدد دراسة هذه الظاهرة، بحيادية قدر الأمكان للوقوف على اهم انجازاته وأبرز اخفاقاته منذ اشتراكه مع الأمير فيصل في الثورة العربية بقيادة الشريف حسين، لحين قيام ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958.

من هو نوري السعيد؟
وُلد محمد “نوري” سعيد بن صالح طه، في بغداد قرب ساحة الميدان حالياً سنة 1888 وقُتل يوم 15 تموز 1958، وعرف لاحقاً بأسم “نوري السعيد”. وبالتالي فإنه عاصر الدولة العثمانية، وإحتلال الأنكليز للعراق، وشارك في ثورة الشريف حسين في الحجاز، وساهم في تنصيب فيصل الأول ملكاً على العراق، وعاصر الملك غازي، والملك فيصل الثاني، ويومين من العهد الجمهوري.  إختلف المؤرخون حتى على اصله وفصله، فمنهم من يُرجع اصوله الى طوزخورماتو، ومنهم يُرجعها الى الموصل، وآخرين يؤكدون انه بغدادي الأصل. هناك من يقول انه كردي والآخر يقول تركماني، والبعض يؤكد انه عربي اصيل. وعلى الرغم من كل هذه الإختلافات، فإنه من المؤكد بغدادي المولد والنشأة والطباع، عراقيٌ قلباً وقالبا، وهذا هو المهم والعامل المؤثر على نهج حياته الشخصية والأجتماعية والعسكرية والسياسية(1) . حصل على رتبة ملازم عام 1906 وهو في عمر الثامنة عشر. يصفه لورنس العرب الذي خاض معه غمار تحرير دمشق بأنه يتحلى بشجاعة وثقة ورباطة جأش، وهذا ما جعله زعيماً مثالياً متميزاً. يتكلم نوري السعيد خمس لغات، هي العربية والتركية والأنكليزية والألمانية والفرنسية، ولم يكن يتكلم العربية بطلاقة.

جدلية الولاءآت المعقدة:
لقد أستطاع “الباشا” أن يوازن بين ثلاث ولاءات متناقضة ومتصارعة فيما بينها في معظم الأحيان، ألا وهي: أولها ولائه للعراق، وثانيها ولائه للعـائلة المالكة، وثالثها ولائه للتاج البريطاني. 

ولائه للعراق:
الولاء الاول هو للعراق كشعب وارض ودولة، وقد تجلى ذلك في امرين عظمين قادهُما نوري السعيد بقدراته كسياسي محنك، اولهما هو انهاء الأنتداب البريطاني والحصول على الأستقلال ودخول العراق عصبة الأمم المتحدة عام 1932، وذلك كان اول قطر عربي يدخل عصبة الأمم. تحقق ذلك في عهد وزارة السعيد الثانية، ووزير خارجيته جعفر العسكري. كان ذلك من اهم أهداف وأمنيات الملك فيصل الأول. والأنجار الثاني الكبير هو حصوله على زيادة موارد العراق النفطية لتصل الى 50% من مجمل الموارد التي تحصل عليها الشركات النفطية، أسوةً بما حققته إيران في عهد دكتور مصدق. والأهم من ذلك هو تخصيص 70% من هذه الموارد، لميزانية استثمارية يديرها بأستقلالية “مجلس الأعمار” الذي انجز الكثير من مشاريع البنية التحتية التي كان العراق بأمس الحاجة اليها. 

ولائه للعائلة المالكة:
ولائه للعائلة الهاشمية، وسعيه، وصهره جعفر العسكري لتنصيب فيصل ملكاً على العراق، أمراً مشهوداً ومؤرخاً له. ولم يكن هذا المسعى ليمرر بسهولة، ونحن نعلم ان هناك العديد من الشخصيات العراقية العريقة والمتنفذة والقادرة مادياً، راغبةً بذلك لنفسها، أمثال عبد الرحمن الكيلاني نقيب أشراف بغداد، ورئيس الوزراء في حينها بتكليف من السير بيرسي كوكس المندوب السامي البريطاني، وطالب النقيب الذي كان اشدهم طموحاً وعبد المحسن السعدون الذي له علاقات قوية مع الأنكليز. كذلك ياسين الهاشمي العسكري المتشدد الذي اراد ان يكون حاكماً لعراق جمهوري وليس ملكي، وغيرهم كثيرون. نعم السعيد والعسكري كانا عاملاً اساس في ترشيح وتتويج وتوطين فيصل الأول ملكاً على العراق الجديد، وبقيا على هذا النهج طيلة حياتهما.
 

ولائه للتاج البريطاني:
أما الولاء الثالث فهو الأكثر جدلاً بين السياسيين والمؤرخين، حيث يتهمه البعض بالعمالة والآخر بالتواطئ، وعلى احسن تقدير رعاية المصالح البريطانية في العراق. وهنا علينا التفكير، بمحدودية البدائل المتوفرة والممكنة التي كانت متاحة امام العائلة الهاشمية ونوري باشا، والتي ربما كان افضلها مسايرة الأنكليز والحصول منهم على الأستقلال بالمفاوضات، وزيادة الموارد النفطية بمباحثات مستمرة، وتقليل وجودهم العسكري تدريجياً، والحصول على العلوم والتكنولوجيا من خلال البعثات وبناء الجامعات، والأستفادة من الأمكانات الهندسية في بناء البنية التحتية والمشاريع العملاقة مثل السدود والخزانات المائية والقدرة على السيطرة على الفيضانات. نعم لقد انجزت المملكة تقدم رائد وسريع، لبناء العراق الجديد بمساعدة الأنكليز، ولم يكن ذلك سهلاً إطلاقاً. لذا كان للباشا دوراً بارعاً في هذا المجال وإن كان صعباً ومضنياً ومجهداً، إلا انه استطاع ان يحصل بالأقساط ما حقق تقدماً مستمراً للعراق. 

الباشا بعد رحيل فيصل والعسكري:
لقد شارك وقاد الباشا الأحداث بشكل فعال بالأشتراك مع الملك فيصل الأول وصهره جعفر العسكري. إلا انه بعد وفاة فيصل الأول عام 1933 وإغتيال جعفر العسكري من قبل بكر صدقي عام 1936، اضحى الباشا وحيداً وفي موقف لا يُحسد عليه. إلا انه لم يتراجع عن مكانه وقرر ان يدير دفة المملكة بمفرده. وهذا ما حدث بالفعل، وبالتالي فإن الأنجازات والأخفاقات التي حصلت بعد عام 1936 هي بأمانة نوري باشا السعيد الذي اضحى “ملك العراق غير المتوج”.

إلا ان الباشا لم يكن ملاكاً أو قديساً ولا مُصلحاً إجتماعاً. حيث نشأ عسكرياً متمرساً، وضابطاً عثمانياً متعجرفاً، تعلم منها القيادة المتزمتة، التي لا تتقبل الحوار والنقاش من قبل الذين دونهم رتبة او منصبا. وهكذا كان ينظر نوري باشا لبقية السياسيين، او الأحزاب السياسية التي كانت ربما تحمل نفس طموحاته ولكن بطريقة مختلفة. فعلى سبيل المثال أُتهم السعيد بتدبير امر أغتيال توفيق الخالدي متصرف بغداد لأنه كان ناشطاً سياسيا ومنافساً يحمل افكاراً جمهورية. كذلك أنضم الى حزب منافسه الشخصي، عبد المحسن السعدون “حزب التقدم” لأنه يؤمن: ” بأن تحطيم الحزب من الداخل أسهل من تحطيمه من الخارج” وكانت نظرته الأستعلائية على بقية السياسين واضحة المعالم في استخدامه اساليب تآمرية وبوليسية. وليس غريباً معرفة ان اول مسؤولية لنوري السعيد كانت مديراً عاماً للشرطة في العهد الملكي، اعقبها رئيساً لأركان الجيش عام 1922، ووزيراً للدفاع في وزارة عبد المحسن السعدون عام 1925 ورئيساً لرئاسة الوزارة عام 1930.

ترأس نوري السعيد رئاسة 14 وزارة، كانت مدتها حوالي 12 عاماً، إلا انه كان الآمر الناهي والحاسم لكل الأمور سواء كان في الحكم او خارجه. لقد كان “ابو صباح” محترماً ومهيوباً، إلا انه لم يكن محبوباً من قبل اقرانه السياسيين، او احزاب المعارضة، او من قِبل عموم الشعب خاصة الطبقة المثقفة من طلبة الكليات والخريجين والناشطين سياسياً. لذلك كانت المظاهرات تهتف ضده وبسقوطه، وليس ضد الملك او العائلة الهاشمية. فعلى سبيل المثال حينما وُقعت معاهدة بورت سموث من قبل رئيس الوزراء صالح جبر ووزير خارجيته فاضل الجمالي عام 1948، لم يكن الباشا في الوزارة، ومع ذلك خرجت المظاهرات في وسط بغداد تهتف:

“نوري السعيد القندرة وصالح جبر قيطانها”

هذا إيحاء من ان هذا الأمر لم يكن ليكون لولا تخطيط من نوري السعيد وموافقته عليه، وإن كان خارج الحكومة في حينها. المهم ان نوري السعيد، لم يستطع ان يستوعب الشخصيات والقوى السياسية التي نشأت أبان وبعد الحرب العالمية الثانية. هذه القوى الشابة، لم تتأئر بالتراث العثماني، او التفكير المللي، أو إفتراضية ان هناك نوعين فقط من الناس: “أشراف” يقودون الأمة بما يرونه مناسباً، و”عامة” تتقبل ذلك ولا تتدخل ولا يحق لها حتى أن تتسائل، في هذه السياسة او تلك. نعم نشأ جيل جديد من طلبة وخريجي المعاهد والكليات، الذين تثقفوا ثقافة اوربية غربية وشرقية، بأتجاهات ليبرالية غربية من جهة، وميول يسارية إشتراكية من جهة أخرى. وبالتالي فإنهم يريدون ان يكون لهم صوت ودور في هذا المجتمع الذي مازال تحت البناء. ففي نهاية الثلاثينيات وخلال اربعينيات القرن العشرين، تأسست العديد من الجمعيات والأحزاب قسم منها علني، وقسم شبه علني، والأغلبية كانت سرية، كي لا تتعرض للبطش والأضطهاد. الأضطهاد الذي اضحى ان يكون من السمات الأساسية للسلطة السياسية بقيادة عبد الأله ونوري السعيد، تحت راية “محاربة الشيوعية”. واستطاعت سلطة نوري السعيد ان تبطش بالشيوعيين الذين لم يرفعوا اي شعار ثوري يدعوا لأسقاط الدولة او الملكية، وانما كانت شعاراتهم الأساسية التحرر التام من الأستعمار البريطاني، والسيطرة  الوطنية على الموارد النفطية، والدفاع عن حقوق العمال خاصة العاملين في الشركات المملوكة او التي تدار من غير العراقيين مثل عمال النفط والسكك والموانئ.  وكانوا بالتأكيد مساندين للأنتفاضات الفلاحية المتكررة ضد الأقطاع الذي حمى نفسه بقانون العشائر الجائر(2). 

كذلك لم يستطع نوري السعيد قبول اوتقبل فكرة ظهور شخصيات على المسرح السياسي مؤثرة على الشارع البغدادي بشكل خاص وعموم العراق بشكل عام. أمثال تلك الشخصيات محمد مهدي كبة، صديق شنشل، كامل الجادرجي، محمد حديد، عبد الفتاح إبراهيم، عزيز شريف، عبد القادر اسماعيل البستاني وأخيه، حسين جميل، هديب الحاج حمود، ويوسف سلمان يوسف (فهد) وغيرهم كثيرون. ولم يتحمل او يتصور ان هؤلاء الشباب الناهضين وقيادتهم لتنظيمات تملك قدرة البقاء رغم القسوة الأمنية في التعامل، لأنها كانت تمثل صوتاً هادراً نابع من جذور المجتمع العراقي بكل طباقته. والجدير بالذكر ان هذه الأحزاب كانت بمجملها احزاب تمثل الروح الوطنية لكل اطياف الشعب العراقي، ولم تكن عنصرية او دينية او طائفية او مناطقية. 

إصلاحات توفيق السويدي:
قام توفيق السويدي بالأصلاحات عام 1946 ومنها إلغاء الأحكام العرفية، ورفع الرقابة عن الصحافة، واطلاق سراح السجناء السياسيين وتشريع قانون جديد لتنظيم الحياة الحزبية وأجازت بموجبه خمسة احزاب هي حزب الأستقلال (محمد مهدي كبة)، وحزب الوطني الديمقراطي (كامل الجادرجي)، وحزب الأحرار (سعد صالح) وحزبين يساريين هما حزب الشعب بقيادة عزيز شريف وحزب الأتحاد الوطني بقيادة عبد الفتاح إبراهيم. لم يرق ذلك لنوري السعيد والوصي عبد الأله وغيره من المتزمتين، حيث عملوا على اسقاط وزارته، وترشيح أرشد العمري لرئاسة الوزارة الذي يصفه إسماعيل العارف “المحدود الأفق والتفكير والممعن في الرجعية والعفوية والنزق، فشن حملة تصفية ضد الأحزاب المجازة، .. فقامت مظاهرات صاخبة في بغداد وكركوك سقط فيها ثمانية قتلى من عمال النفط العراقيين بسبب مطالبتهم برفع الأجور في اوورباغي، وأحيل كامل الجادرجي الى المحكمة..أستقال على أثرها العمري، كي يشكل الباشا وزرارته التي استطاع فيها ان يشق الحركة الوطنية بأشراك الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الأحرار في وزارته، وعدل قانون الأنتخاب بالشكل الذي يؤمن فوز مناصريه”(3).  

معاهدة بورت سموث وإعدام فهد ورفاقه:
بعد ذلك استلم نوري السعيد الوزارة ليكمل مشوار الأضطهاد. فتم أعتقال قادة الحزب الشيوعي في يوم 18 كانون الثاني 1947. وجرت محاكمتهم بمحاكمة علنية وكان للمتهمين محامون وكان في قاعة المحكمة مراسلوا صحف ومواطنون عاديون(4)، وحكم على ثلاثة منهم بالأعدام وهم فهد (يوسف سلمان يوسف) وزكي بسيم وإبراهيم ناجي شميل، وقبل ان يتم اعدامهم تغيرت الوزارة (بتخطيط من الباشا) كي يرأسها صالح جبر لتمرير معاهدة بورت سموث. في هذه الأثناء تمّ استئناف الحكم وخفض حكم الأعدام  الى السجن المؤبد.  ولم يسكت الشارع العراقي على معاهدة بورت سموث، حيث جرى إسقاطها شعبياً، وكان للحزب الشيوعي دوراً قيادياً في المظاهرات، مما ادى الى سقوط وزارة جبر وتبعتها وزارة محمد الصدر كي تهدأ الأوضاع قبل ان تصل مرة اخرى لنوري السعيد لرئاسة وزارته العاشرة في 6 كانون الثاني 1949. واول ما قام به هو أعادة محاكمة فهد ورفاقه بتهمة قيادة المظاهرات وإسقاط معاهدة بورت سموث من السجن، أمام محكمة عسكرية شبه ميدانية، وحكم على اربعة منهم بالأعدام، هم فهد (يوسف سلمان يوسف) وحازم (محمد زكي بسيم)  و صارم (حسين محمد الشبيبي) وساسون شلمو دلال، وتمّ إعدامهم في يومي 14 و15 شباط من نفس العام اي بعد أربعة أيام من صدور الحكم. وأعدم فهد في منطقة علاوي الحلة المتحف حالياً، ووزع الآخرون على مناطق متعددة من بغداد وظلوا معلقين عدة ساعات، مع كتابات مسيئة على جثثهم(5). وكانت هذه الأعدامات تحدث لأول مرة ضد أشخاص مدنيين، لم يحملوا سلاحاً او يستخدموا عنفاً ضد الدولة. وقد بلغ عدد شهداء الحزب الشيوعي وموآزريه فقط، في فترة الحكم الملكي والمسجلين والمؤرخين 66  شهيداً(6)، ناهيك عن شهداء القوى الوطنية الأخرى.  ويتحمل مسؤوليتها بالكامل نوري باشا السعيد بأعتباره المهند س الأول والأخير للسياسية الأمنية في ذلك العهد.

إنتخابات عام 1954:
لم يكن من السهل الفوز بمقاعد في البرلمان، خاصة بوجود مجموعتين قويتين هما حزب الأتحاد الدستوري بزعامة نوري السعيد وحزب الأمة الأشتراكي برئاسة صالح جبر. كان رئيس الوزراء حينها أرشد العمري، وكان موعد الأنتخابات يوم 9 حزيران 1954. لذا قررت المعارضة تشكيل جبهة وطنية لخوض الأنتخابات، متكونةً من حزب الأستقلال والحزب الوطني الديمقراطي وممثليين عن الفلاحين والعمال والشباب والأطباء والمحامين والطلاب. وكان خمسة من الثمانية هم من الحزب الشيوعي. لقد بذل البلاط والعمري والسعيد وجبر وكل قوى المشايخ والأقطاع بالغ جهدهم كي لا يفوز اي من ممثلي المعارضة الوطنية. إلا انه مع ذلك فاز احد عشر نائباً من اصل 135 نائبا،ً وتقاسم السعيد وجبر والبلاط والأقطاع بقية المقاعد. وعلى الرغم من ان الجبهة الوطنية لم تفز حتى بـ 10% من المقاعد، إلا ان ذلك أعتبر تهديداً للبلاط وللدولة. وبناء على ذلك اعتبرنوري باشا أن العمري فشل في مهمته بردع الجبهة الوطنية،  فلم يجتمع المجلس النيابي سوى مرة واحدة ليتم حله، وتقديم العمري أستقالته والهرب الى الأستانة، كي يشكل السعيد وزراته من جديد(7).   

خلاصة ووجهة نظر:
سؤآل لابد من أثارته، هو ان النظام الملكي بقيادة نوري السعيد كان متأثراً بالنظام الملكي في المملكة المتحدة، فلماذا لم تمنح السلطة التنفيذية الحرية الكافية للجمعيات والأحزاب السياسية؟ ولماذا لم تتقبل  حرية التعبير السياسي في العراق؟ ولماذا لم يكن هناك حرية للصحافة والمطبوعات، أسوةٌ بما هو جارٍ في المثل الأعلى الذي تقتدي به السلطة آن ذاك وهو النظام السياسي الملكي في المملكة المتحدة؟

الجواب إن العراق بقى ضمن العقلية العثمانية في أدارة الدولة وإن كان موالياً للأنكليز. الجواب إنها مسألة التركيب النفسي لنوري باشا السعيد، الذي سعى بقدرته الشخصية وإمكاناته الفردية أن يحكم العراق بصفته ملكاً غير متوج. حيث انه لم يكن او عائلته من الملاكين او الأغنياء، ولم يكن شيخاً او ابن شيخ من كبار عشائر العراق، ولم يكن ضابطاً كبيراً حينما بدأت الأحداث. إنه عصاميٌ بنى مجده بنفسه، وصعد لأعلى المناصب بعمله وجهده وبدهائه وبراعته السياسية.  حيث رسخ ذلك بنيته الأصلية وشخصيته العسكرية وتربيته التركية العثمانية، وتأثره بشخصية وإنجازات مصطفى كمال أتاتورك الطاغية عليه. لذلك لم يكن ليتقبل المنافسة بسهولة. وإن تراجع في بعض الأحيان، فيتراجع عن قصد مخطط وعلى مضض في بعض الأحيان ليستجمع قواه. ولم تستطع الثقافة الأوربية البريطانية زحزحته حتى بعد الحرب العالمية الثانية من إسلوب حكمه قيد إنملة. وكان حوالي أحد عشر سنة من سنوات الحكم الملكي “الدستوري” الثمانية والثلاثون، كان العراق كله او أجزاء منه تحت الأحكام العرفية(8).  لذا لا يمكن ان يكون رائداً دستورياً ديمقراطياً باي شكل من الأشكال.  وهو داء مُصاب به معظم سياسي العراق. فإن لم يتغيروا سوف لن تتغير المسيرة الحضارية في العراق. لذلك في اعتقادي أن نوري باشا السعيد كان من أهم الأسباب التي أدت الى تشكيل تنظيم الضباط الأحرار السري وجبهة الأتحاد الوطني المعارضة، وقيام ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958. حيث ان الثورة كانت بمجملها ضد نوري السعيد وعبد الأله وليست ضد العائلة الهاشمية، وإن ذهبت العائلة المالكة ضحية للأحداث المؤسفة. إنتهى الباشا نهاية محزنة لا تليق بملك ودكتاتور العراق غير المتوج، عسى ان تكون عبرة لمن جاء من بعده، ولكن للأسف لم يعتبر أحد، ولا حياة بمن تنادي.

مصادر البحث:
1- عبد الرزاق احمد النصيري، نوري السعيد ودوره في السياسة العراقية، مكتبة اليقظة العربية، 1987، ص: 16-18.
2- أنظرالميثاق الوطني للحزب الشيوعي العراقي، كتابات الرفيق فهد، الطريق الجديد، بغداد، 1976، ص: 133-137.
3- إسماعيل العارف، أسرار ثورة 14 تموز وتأسيس الجمهورية في العراق، منشورات الماجد، لندن، ص: 67.
4- بهاء الدين نوري، مذكرات بهاء الدين نوري، دار الحكمة، لندن،2001، ص: 59.
5- حنا بطاطو، العراق، الكتاب الثاني، الشيوعيون، مؤسسة الأبحاث العربية،1996، ص: 226.
6- شهداء الحزب، شهداء الوطن، دار الكنوز الأدبية، بيروت، ص: 13-42.
7- حامد الحمداني، من الذاكرة، الجبهة الوطنية لخوض الأنتخابات عام 1954، موقع الأخبار، 3 نيسان، 2018.
8- عبد الرزاق الحسني، تأريخ الوزارات العراقية، الجزء (10)، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1988، ص: 288-289.
محمد حسين النجفي
WWW.MHALNAJAFI.ORG
#نوري_السعيد      #فيصل_الأول         #توفيق_السويدي        #صالح_جبر       #معاهدة_بورت_سموث      #العهد_الملكي     #تأسيس_الدولة_العراقية     #محمد_حسين_النجفي       #مجلس_الأعمار     #فهد

 

                                                                                                                       

جَلسة عمل ساخنة في الحرم الجامعي

“المفروض أن يبحثوا عن نِقَاط القوة في زملائهم، كي يجدوا سبباً حقيقياً
لتسليم دفة العمل لرُبان يُقدم ما لا يستطيع أن يُقدمه الآخرون”   


المكان: الجامعة المستنصرية، كلية الإدارة والاقتصاد، قسم الإدارة، مكتب رئيس قسم الإدارة.

الزمن: العام الدراسي 1978/1977.
الحضور: رئيس قسم الإدارة، دكتور فُلان، أستاذ نجيب، الدكتور الآخر، وكاتب هذه السطور.
سبب الاجتماع: لجنة المناهج الدراسية.

بدأت الجلسة:
بدأ رئيس القسم بالتحدث عن مهمة لجنة المناهج الدراسية، وما يجب ان تقوم به، وعدم الاعتماد الكلي على المناهج المنقولة من جامعة بغداد. حيث ان الجامعة المستنصرية يجب أن يكون لها أستقلاليتها وهويتها المتميزة، خاصة بعد أن تنمي كادرها التدريسي الدائم المستقل عن جامعة بغداد. وبناء على هذه المقدمة القيمة، بدأ الحديث يتداول فيما بيننا حول كيفية تحقيق هذا الهدف. وقبل الولوج الى صُلْب الموضوع لابد من تعريف طبيعة الهيئة التدريسية، حيث كانت متباينة في العمر والخبرة والتحصيل العلمي والألقاب الأكاديمية. والمفروض ان يكون ذلك عنصر حيوية لخلق نهضة منهجية في المواد التدريسية، إلا ان الموضوع أنقلب بسرعة ليكون حواراً بدائياً وللأسف عدائياً.   

حينما حاولت تقديم اقتراح تشكيل لجان فرعية متخصصة لكل مادة من المواد التدريسية، أعترض الدكتور المخضرم فُلان، وقال بطريقة تنمرية متعجرفة وبالحرف الواحد: “بحضور  الكبار، الزعاطيط (الأطفال) تسكتْ”، فوجئت وصُدمت وألتفتُ الى رئيس القسم كي يقول شيئً، إلا انه حاول تجاهل الموقف، وإن بدى الحرج والامتعاض عليه. بعد ذلك تكلم أستاذ نجيب مؤيداً لما ذكرته، وإذا بدكتور فلان يقول بطريقة تسلطية ساخرة له: “هالمرة التلكيف يريدون يعلمونا”.  ويستخدم الجهلة الشوفينيون كلمة “تلكيف” وهي أسم مدينة عراقية عريقة في سهل نينوى شمال العراق، بهذه الطريقة على كل مسيحي، ليس لأنتسابهم لتلك المدينة، وإنما تنكيلاً وتصغيراً لأبناء تلكيف وألقوش وبطناية وغيرها من مدن سهل نينوى الجميلة وأهلها الطيبين. وما هم إلا من سكان العراق الأصليين، الذين يعملون بكدهم وعرق جبينهم، فما كان مني إلا ان أقف على قدميّ هذه المرة، مخاطباً رئيس القسم: نحن هنا في اجتماع رسمي، وأنا أُطالب بأن يُدوّن كل ما ذكره دكتور فلان، حول الزعاطيط والتلكيف في محضر الجَلسة. حاول رئيس القسم، أن يسايرني لأنه يعلم أن الحق معي، وان دكتور فُلان لم يكن عليه ان يتحدث بهذه الطريقة. إلا أنني هددته بأني سأذهب فوراً الى عميد الكلية الذي كان في حينها “سليم ذياب السعدي” الذي اعرفه من انه سوف لن يتقبل مثل هذا النوع من التجاوزات اللا أخلاقية في الحرم الجامعي. أما الدكتور الآخر في الجَلسة، فإنه فضلّ ان يكون جالساً على التل، متفرجاً ومستفيداً من تناقضات الآخرين.

بعد ذلك تحرك أستاذ نجيب، وهو محاسب قانوني، خريج إنكلترا، وإنسان في منتهى الأدب والأخلاق، في الدفاع عن نفسه، وشارك في الملاسنة التي بدأت فيها أصواتنا تعلو ويسمعها من هم خارج المكتب. وحينما رأى دكتور فُلان المُتزمت والمُتحكم الذي كان يتبجح بصلته بحزب السلطة، أن موقفه تافه لأبعد الحدود، بدأ بالتراجع ألاستراتيجي، والإدعاء بأنها كانت ممازحة وميانة بين الأحباب والزملاء، وإننا بالنسبة إليه مثل أبنائه، لذلك أستخدم معنا كلمات دارجة ومتعارف عليها! أعلمته أننا هنا في لجنة عمل، وإننا هنا متساوون في الحقوق والواجبات، وإن افضلنا هو اكثرنا عملاً وليس أكبرنا سناً أو أعلانا شهادةً، وأن أكثرنا عملاً هو أكثرنا وطنية، وأن الوطنية والإخلاص للوطن لا دخل لها بالألقاب الأكاديمية أو الانتماءات الحزبية.

أجابني وهو يبتسم أبتسامة مصطنعة: “هوب، هوب، عمي راح تاكلنه وتشربنه،…….”. هنا تدخل رئيس القسم وهو إنسان محترم جداً، وقال إن الحق مع أستاذ محمد وطلب من دكتور فلان ان يعتذر بشكل أصولي وجدي ودون مُزاح وعلى ان لا يتكرر مثل هذا التصرف في الاجتماعات القادمة، وقد تم ذلك فعلاً، وقد عُدّ ذلك الاجتماع مُلغى، على ان تؤخذ مقترحات أستاذ محمد بجدية. وفعلاً تشكلت لجان فرعية لكل مادة علمية، وكنت أشارك في أدارة معظم هذه اللجان. وبطبيعة الحال فإن النفس الأمارة بالسوء لا يمكن ان تغير من مسيرتها. وتكرر ذلك مرات ومرات مع دكتور فلان ومن هم على شاكلته. وفي الصورة أدناه توثيق لأحدى جلسات اللجان الفرعية مع الزملاء الأستاذ عبد الستار فاضل وسكرتيرة القسم هاسميك (لاحقاً زوجتي) والأستاذ عبد المنعم الربيعي وكاتب هذه السطور، كان عملاً جماعياً جاداً مع من أراد ان يقدم شيئ لوطنه.

إجتماع لجنة مادة المحاسبة مع الأستاذ عبد الستار فاضل وهاسميك سكرتيرة
قسم الإدارة والأستاذ عبد المنعم الربيعي وكاتب السطور بتاريخ 9/1/1978

وللأسف الشديد نتعرض في الحياة لأناس يبذلون جُل جهدهم لإيجاد نِقَاط ضعف عند الآخرين، لكي يسخرون ذلك في محاجاتهم وسباقهم نحو المناصب او المراكز او الجاه او المال او كل ما سلف. بينما المفروض ان يبحثوا عن نِقَاط القوة في زملائهم وأصدقائهم وأقاربهم وأبناء وطنهم، كي يجدوا سبباً حقيقياً للتقدير، وتوجيباً لصفات إنسانية راقية، لتسليم دفة العمل لرُبانٍ يستطيع أن يقدم ما لا يستطيع أن يقدمه الآخرون.
محمد حسين النجفي
26 أيار 2021
www.mhalnajafi.org
#الجامعة_المستنصرية    #عبد_المنعم_الربيعي    #عبد_الستار_فاضل     #محمد_طاهر_الشاوي    #محمد_حسين_النجفي   #نجيب_أنطوان_سامونا   #سليم_ذياب_السعدي
مقالات ذات علاقة:
الأمانة العلمية بين أروقة المستنصرية

 

رمضانيات(4): النجف الأشرف: نموذج للتعددية والديمقراطية

“يا إمام العدل    يالمالك مثيـــل
  وسفه يحكمنا     الحرامي والعميل”

أهم ما تسعى إليه المراجع الدينية في العالم هو توحيد منهجيتهم ورص صفوفهم وتوحيد كلمتهم، ومنع اي تسيب او خروج عن الأجماع. لربما نجد ذلك صحيحاً للأزهر والفاتيكان، إلا انه ليس مطلوباً، أو ممارساً على ارض الواقع بالنسبة للمرجعية الدينية في النجف الأشرف. فأولاً لا يوجد مرجع ديني واحد في النجف الأشرف يُقلده عموم الشيعة في العراق والعالم الإسلامي، وإن كان هناك المرجع الأعلى السيد علي السيستاني حفظه الله. فإضافة للسيستاني هناك المراجع العظام، السيد محمد سعيد الحكيم، والسيد بشيرحسين النجفي، والسيد محمد إسحاق الفياض، والسيد كاظم الحائري. إضافة لذلك هناك مراجع في كربلاء والكاظمين وقم إيران ولبنان. وللمرجع السيد محمد حسين فضل الله رحمه الله العديد من المُقلدين له من العراقيين في داخل العراق وخارجه، حتى بعد وفاته.

يُفترض ان يكون للجامع او المسجد، إمام يأِم بالمصلين في أوقات الصلاة الخمس. الأمر ليس كذلك في العتبة العلوية في خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن العشرين. فهناك عدة أئمة يأمون المصلين في آن واحد وفي نفس الموقع. أتذكر كان يأُم المصلين ما لا يقل عن ثلاث او أربعة أئمة، من بينهم السيد حسين الحمامي والسيد محسن الحكيم رحمهم الله وغيرهم. وعلى الرغم من أن الآذان للصلاة يبدأ من منارة الأمام وباستخدام المكبرات الصوتية، إلا إن كل إمام على ارض الصحن لديه مُكبر، ويسمى أيضا “منادي الإقامة” ويسمى دارجاً بـ”المكبرچي”. ووظيفة المكبرچي، وهم عادة أحداث لم يبلغوا سن الحلم بعد، أن يُكبروا لإقامة الصلاة، وأن يُكبروا في الركوع والقيام كي يسمعه المصلين خلف الأمام، لأن عددهم كبير ولم يستخدم الميكروفون في حينه. وكنت حينما أستمع إلى تكرار “الله أكبر” و “سبحان ربي الأعلى” بأصوات متنوعة في آن واحد، أشعر بخشوع صوفي تام في تلك اللحظة من اللحظات الروحية البعيدة عن مجريات الحياة وتفاهاتها. فإذا ذهبت إلى صحن الأمام علي للصلاة، فإن بإمكانك أن تختار وراء من تصلي. فالمراجع العظام الذين ذكرناهم، كل منهم له مقلدين و اتباع وموآزرين، يصلون ورائهم. وكلما كثر عدد المقلدين والمصلين وراء المرجع، كلما ازدادت مكانته بين أقرانه من العلماء. حيث انه تبعاً لعقيدة المذهب الجعفري، يُفترض ان يكون لكل بالغ اوبالغة مُقلد يقلدهُ، ويسير على نهجه في شرح الأمور الفقهية والعبادية والممارسات اليومية، حتى من بينها متى يبدأ شهر رمضان ومتى يكون العيد.

كذلك فإن لكل مرجع رسائل وبحوث وكتب ومدرسة فكرية متميزة، وطلاب ومكتب و”بيت مال”. بيت مال يستلم الخُمس والزكاة والتبرعات من المُقلدين، وينفقها كل مرجع بما يراهُ مناسباً لمدارس العلم ولمُنح دراسية لطلاب الحوزة، ولدور الأيتام وللفقراء والأرامل وللمعوزين. وكل من هؤلاء المراجع يعمل باستقلالية تامة عن الدولة وعن المراجع الأخرى.

إضافة للتعددية في المراجع الدينية هناك تعددية في المواكب الحسينية، التي تعمل أيضا باستقلالية تامة عن الدولة، وعن المواكب الأخرى وعن المراجع الدينية. والاستقلالية هنا تعني احترام الغير من الأشخاص والمؤسسات، ولا تعني الاستغناء عنها أو عدم اعتبارها أو تحديها. ولم يحتكر اي مرجع ديني حق ألاجتهاد والولاء لنفسه أو لمكتبه أو لرسالته. لذا فإنهم  قدموا، وأظن أنهم مازالوا يقدمون نموذجاً حياً للتعايش السلمي والانفتاح الفكري والتعددي يجب أن يحتذى به. 

إذن التعددية في ألاجتهاد والتقليد، وتعدد المراكز الدينية، وتقبل وجود أكثر من مرجع ديني في نفس الزمان ونفس المدينة ولنفس العقيدة الدينية، هو مشهد حضاري ونموذج يستحق أن يعمم  على بقية الأنشطة سواء الدينية أو ألاجتماعية أو الافتصادية أو حتى السياسية. كذلك علينا ألّا ننسى بأن مدينة النجف الأشرف أعطتنا أنموذجات عدّة عبر التاريخ، حيث قدمت لنا أحياء النجف القديمة أول دستور عراقي يحكم العلاقات بين أطراف (المحلات الرئيسة) النجف ويسمى” دستور حي البراق في النجف” عام 1918 (راجع أسحاق النقاش، شيعة العراق، دار المدى، دمشق، ص:515-516). كذلك فإن الإنفتاح الفكري في مدينة النجف يتقبل حتى نشاطات وفعاليات سياسية للقوى العَلمانية، دون إبعاد وتهميش، وإلا كيف تقبل أهالي ومرجعيات ووجهاء مدينة النجف ان يُسمى شارع بإسم الشهيد “سلام عادل”. وفي هذا العام نزل موكب شباب “هيئة ثوار النجف الأشرف” ودخل صحن العتبة العلوية بمناسبة ذكرى استشهاد الامام، بهذه الردات التي تمجد انتفاضة تشرين وتخلد شهدائها:

من أبو الفقره علي هذا المــدد                    ثابتة بتشرين إلك راية وعهد
ثورة ننصب موعزاء    إحنه شعب الشهداء
وسيف إبن ملجم نحر شبانه
يا إمام العدل يالمالك مثيـــل                     وسفه يحكمنا الحرامي والعميل
ساحة الحبوبي تشهد والنجف                   لوحة من دمنا حبرها ما نشف
ثورة ضد الفاسدين     يا نصير الثائرين
وسيف إبن ملجم نحر شبانه

محمد حسين النجفي
العاشر من أيار 2021
الثامن والعشرون من رمضان
موقع محمد حسين النجفي
#النجف-الأشرف   #الأمام-علي    #أنتفاضة-تشرين         #محمد_حسين_النجفي

رمضانيات(3): دروس مبكرة في العطاء

الحاج رضا النداف 1959

“لقد كان جدي قريباً للأئمة الأبرار بأعماله، لأنه كان يقضي وقتاً كثيراً في العمل الصالح، ووقتاً أقل في التعبد والزيارات”

العِلاقة بالأب والأم  مليئةٌ بالمحبة والاحترام في معظم الأحيان، إلا أن العِلاقة بين الأحفاد والأجداد، علاقات لا تشوبها سلبيات التربية في المحاسبة والقصاص والتعنيف القاسي في بعض الأحيان. وبما أنني كنت أول وأكبر الأحفاد بالنسبة إلى بيبي (جدتي) وجدي من ناحية أمي، فقد كنت قريباً أليهما كثيراً ومُدللهما.  

ومن بين أهم ذكرياتي مع جدي هي، حينما كان يأخذني معه إلى كربلاء والنجف والكوفة، وكان عمري ما بين التاسعة والإثني عشر عاماً. رحلة ثنائية تبدأ عصر يوم الخميس من منطقة الشواكة حيث سيارات التكسي خمس نفرات التي تعمل على خط بغداد- كربلاء، وخط بغداد- نجف. نصل كربلاء قبل غياب الشمس، حيث نبدأ بزيارة الأمام الحسين (ع) ثم اخيه العباس (ع). وبعد أداء مراسيم الزيارة، يبدأ جدي رحلته في السوق القديم، يسلم على الكثيرين، ويعرفه العديد من التجار. بعد ذلك ندخل في درابين (ازقة) كربلاء القديمة المتشعبة من السوق. البيوت شعبية وقديمة، يقف أمام باب أحد الدور ويطرق الباب. تأتي امرأة من وراء ستار خلف الباب، ينظرون إلينا من زاوية الستار، “أهلا حجي أبو مهدي، سلام عليكم،  تفضل حجي”، يجبهم جدي “لا شكراً، بشروني شلونكم، شلون فلان وفلانة وفلان”. يسأل عن العديد من الأشخاص الذين لم اسمع بهم سابقاً في حياتي.  واقف جنب جدي، لا دور لي في الكلام، ورأسي يصل إلى جيب صايته الجانبي (الملابس التقليدية، انظر إلى الصورة)، ألاحظ أن يده في داخل جيبه، وكأنها في حالة مخاض مستمر. يسحبها قليلاً ثم يتراجع، يحاول مرة ثانية وثالثة بشكل متردد، إلى أن يسحبها وكفه مغلق على شيء ما بداخلها، ويمد يده ويقول بما معنا، تفضلي حجية، واعذرينا من التقصير. ردود الفعل مليئة بالكبرياء، وعدم التقبل، ومرة أخرى يدعوننا إلى الدخول إلى البيت، وهو يرفض طبعاً.  في هذه الأثناء يسألون عن بيبيتي وأمي وأبي وعن أناس آخرين لا اعرفهم. في نهاية الأمر يفرض نفسه عليهم ويرغمهم على أخذ ما في يده.

“منو هذوله جدو؟”  “انهم يقربون لنا من بعيد جدو”، …….. نستمر للبيت الثاني والثالث والرابع. نفس الطريقة، ونفس الموال. لا يقبل الدخول للبيوت، وكل البيوت تسكنها نساء فقط. ولا أعتقد إن الأمر كان عفوياً، وإنما مقصوداً. حيث إن هؤلاء السيدات، إما مطلقات أو أرامل، أو أية حالة اجتماعية أخرى هو اعلم بها. ولكن معظمهم من ذوي القربى المتعففين الذين ظروفهم المعاشية صعبة. كان يتكلم معهم باللغة العربية، وقسم منهم يتحدثون عربي وفارسي مخلوط، وقسم عربي مكسر، والنساء الكبيرات في السن لا يتحدثنه سوى باللغة الفارسية،  وكان يتكلم معهم بالفارسي التي كان يجيدها.

بعد ذلك نذهب كي نتعشى أو نفطر إن كان رمضان، في احد مطاعم السوق، ثم نذهب إلى الفندق (خمس نجوم شعبي!!!)، وننام في السطح على الجرابي (الأسرة). ومن السطح نرى قبة الأمام الحسين وقبة العباس (عليهم السلام). وبعد قليل من الوقت يبدأ الهواء بالتغير تدريجاً من كونه حار جاف، إلى ناعماً رطباً لندخل في نوم عميق حتى الصباح الباكر حيث نصحوا على آذان الفجر من مآذن العتبات المقدسة قبيل الفجر بقليل، يتبع ذلك بزوغ أشعة الشمس الصيفية التي تحرق العيون.

لا أتذكر كثيراً مراسيم زيارتنا للأئمة مع جدي بوضوح. الذي أتذكره أن زيارته سريعة لإنه يريد ان ينجز مهام اجتماعية وعائلية. أتذكر انه كان يحب منطقة “خيمكة” (الخيم الزينبية)، حيث كانت منطقة قريبة من الصحن وواسعة ومناسبة لاستراحة الزوار. وفي اليوم التالي نبدأ رحلة بـ “الربل” (عربانه يجرها حصان)، وهي رحلة ممتعة لمناطق خارج مركز كربلاء القديم.  كنت أحب ركبة الربل فهي ممتعة جداً. كنت أراقب فيها الحصان أكثر مما أشاهد معالم الطريق. أما فيما يتعلق بجدي فإنه كان يكمل مهمته، لتفقد بقية العوائل المحتاجة. يتوقف الربل أمام بيوت يعرفها جدي جيداً، ليقوم بنفس المهمة دون تعب او ملل. وفي مناسبات أخرى كان يصطحبني معه إلى مدينتَيْ النجف والكوفة ليؤدي نفس المهمات العائلية.

واليوم وبعد مرور ستين عاماً لازلت أتذكر جدي وما كان يقوم به نيابة عن نفسه وعن والدي الذي كان جدي يرعى مصالحه آنذاك. اليوم أتذكر جدي رحمه الله، وأتساءل لماذا لم يأخذني جدي إلى مدينة الألعاب أو الى السينما أو لمتنزه أو أماكن لعب الأطفال أو أن يشتري لي دوندرمة (بوظة)، لكان قد ادخل السرور إلى قلبي كثيراً وأنا طفل صغير، ولتذكرت ذلك له بإمتنان. هل كانت تلك الرحلات الثنائية، عفوية غير مقصودة؟ ام انها كانت تربية من نوع مميز وبطريقة متقدمة، ذات هدف سامي بعيد الأمد، لا تجده في كتب التربية الحديثة؟ فما الذي اراد ان يصل اليه جدي؟ من المؤكد انه أراد أن يعطيني درس في الكرم والعطاء وتفقد المحتاجين بطريقة يصون بها كرامتهم وحفظ ماء وجههم؟ لم افهم الموضوع في حينه، ولكن التكرار في الزيارات معه جعلتني أدرك نبل عمله وسعة كرمه. لقد كان جدي قريباً للأئمة الأبرار بأعماله، لأنه كان يقضي وقتاً كثيراً في العمل الصالح، ووقت أقل من ذلك في التعبد والزيارات.  رحمك الله جدي، رسالتك وصلت منذ الطفولة، ونتمنى أن  نكون عند حسن ظنكم.
محمد حسين النجفي
#رمضان    #النجف-الأشرف     #كربلاء        #محمد_حسين_النجفي
27 نيسان 2021
15 رمضان
موقع محمد حسين النجفي
يتبع رمضانيات(4)

 

Close

You have successfully subscribed to the newsletter

There was an error while trying to send your request. Please try again.

أفكار حُـرة : رئيس التحرير محمد حسين النجفي will use the information you provide on this form to be in touch with you and to provide updates and marketing.