كما نُشرت في صحيفة طريق الشعب العدد 51 السنة 87 الأثنين 7 شباط 2022
“ردة شباط عام 1963 مسؤولة بشكل مباشر عن تردي المستوى الثقافي والعلمي في العراق لأنها حاربت المثقفين المخلصين”
بموجب الكتاب السري والمستعجل الصادر من وزارة الداخلية بتاريخ 26/10/1963، المرقم ق. س. 11660، تم سحب (إسقاط) الجنسية العراقية عن إثني عشر مثقفاً عراقياً. صدر هذا الأمر الجائر غير القانوني في تلك الفترة التي تعتبر الأكثر ظلاماً ودمويةً في تاريخ العراق الحديث. إنها الفترة التي ابتدأت في 8 شباط 1963 وإنتهت في 18 تشرين الثاني لنفس السنة. القرار يقول سحب الجنسية العراقية، بموجب قانون الجنسية العراقية المرقم (43) لسنة 1963. أي ان القانون عُدل في تلك السنة، كي تستطيع السلطة السلطة الغاشمة من أعطاء الجنسية لكائن من كان، ومن القدرة على سحبها من أعرق العراقيين إنتماءاً. الجنسية العراقية او اي جنسية على وجه الأرض حق وليس إكتساب، لمن يولد من أحد الأبوين في أي وطن. وبالتالي لا يوجد من يحق له سحب الجنسية.
نرجع الى السؤآل الأصلي من هم هؤلاء الأثني عشر شخصاً، ولماذا أسقطت عنهم الجنسية؟ إنهم مجموعة من المثقفين المناضلين النشطين الذين ينتمون للأفكار اليسارية وقسم منهم قياديون في الحزب الشيوعي العراقي، لم تستطع سلطة البعث أعتقالهم كي تعذبهم وتسجنهم أو تقتلهم، لأنهم كانوا وقت الأنقلاب خارج الوطن، أو إستطاعوا الهروب خارج الوطن. إذن كيف تقتلهم هذه السلطة دون ان تعتقلهم؟ وجدوا الحل: بأسقاط جنسياتهم العراقية، وظنوا بذلك أن هؤلاء المناضلين سوف يتخلون عن نشاطهم السياسي وولائهم للوطن.
هذه الكوكبة تضم اول أمرأة تصبح وزيرة في العراق والوطن العربي، وتضم شاعر العرب الأكبر، شاعر دجلة الخير، وتضم كاتب أجمل مسرحية عراقية “النخلة والجيران” والذي ترجم 80 كتاباً من اللغة الأنكليزية والروسية للعربية. تضم من عرفنا على ثورة الزنج والدولة الحمدانية. وتشمل شاعراً من رواد الشعر الحر والذي ترجم أعمال الشاعر التركي الخالد ناظم حكمت. وتتضمن خيرة الأدباء ورواد الصحافة والفن التشكيلي. أكثر من كل هذا وذاك تتضمن إثني عشر مناضلاً محباً مخلصاً لوطنه، مهما كانت توجهاتهم السياسية سواء أتفقنا معها أم لا. أضع بين أيديكم نسخة الأمر
الأداري الجائر، وموجز عن هؤلاء المناضلين الذين شملهم القرار:
- محمد مهدي الجواهري:
وُلد عام 1899 في مدينة النجف الأشرف، شاعر العرب الأكبر، شاعر اللغة الفصيحة والشعر المقفى، شاعر الأنتفاضات والثورات الشعبية، شاعر دجلة والفرات وأم عوف، الشاعر الذي كتبت أبيات من قصيدته العصماء “آمنت بالحسين” بالذهب في الحضرة الحسينية. أديب وشاعر وصحفي ونقيب للأدباء والصحفيين في آن واحد. كان فكره تقدمياً حراً ولم ينتسب للحزب الشيوعي. توفى عام 1997 في دمشق ودفن في الزينبية.
- فيصل السامر:
وُلد عام 1924 في مدينة “المدَيْنة” في محافظة البصرة، ومن عشيرة “السامر”. خريج كلية الملك فيصل للموهوبين والمتفوقين، وخريج جامعة القاهرة في تحصيل البكالوريوس، والماجستير عام 1950 بأطروحته “حركة الزنج” ، والدكتوراه بعنوان “الدولة الحمدانية في الموصل وحلب”. خدم قي مهنة التعليم وتقلد مناصب عديدة، حتى أصبح وزيراً للأرشاد عام 1959. ومن منجزاته تأسيس وكالة الأنباء العراقية، والفرقة السمفونية ودار الأوبرا. ألف العديد من الكتب ونشر العديد من البحوث. كان فكره تقدمياً ولم ينتمي للحزب الشيوعي. توفى في بريطانيا عام 1982.
- الدكتورة نزيهة الدليمي:
وُلدت في بغداد عام 1923، وتخرجت من كلية الطب، جامعة بغداد. ناشطة سياسية من أجل حقوق المرأة، وإحدى أهم رائدات الحركة النسوية في العراق. أول أمرأة تستلم منصباً وزارياً في العراق وفي العالم العربي عام 1959، لتصبح وزيرة للبلديات. ساهمت في إعداد قانون الأحوال الشخصية رقم (188) لسنة 1959. ساهمت في تأسيس وأنشاء مدينة الثورة (الصدر حالياً)، ووزعت قطع الأراضي على سكان الصرائف في منطقة الشعلة. قيادية في الحزب الشيوعي العراقي، وتعرضت للفصل والأعتقال، وصدر بحقها حكم غيابي بالأعدام. توفيت في المانيا ودفنت في بغداد عام 2007.
- الدكتور صلاح خالص:
وُلد في البصرة عام 1925. حصل على الدكتوراه من جامعة السوربون الفرنسية المرموقة في الأدب الأندلسي عام 1952. عمل أستاذاً في كلية الآداب. كاتب وأديب ومؤسس لأتحاد الأدباء العراقيين مع رفاقه من المثقفين ومنهم الجواهري الكبير. ألف ثلاث كتب عن الأدب الأندلسي في أشبيلية. وهو من جيل القامات الأدبية مصطفى جواد وحسين أمين وعلي الوردي وفيصل السامر وعلي جواد الطاهر. كان محررا لمجلة الأديب، ولعب دوراً بارزاً في إصدار مجلة “الثقافة الجديدة” منذ عام 1953. وكغيره من المثقفين أمضى حياته في تقديم المآثر النضالية وإشاعة الفكر العلمي التقدمي. عمل مدرساً في قسم اللغة العربية بكلية الآداب وتخرج على يديه جيل من المثقفين الملتزمين. تعرض للسجن والأعتقال في العهد الملكي عدة مرات لمهاجمته الأستعمار والرجعية. تميز بالجرأة والشجاعة والصراحة في المواجهة. نشر العديد من الكتب والبحوث والمقالات. عضو مؤسس في نقابة الصحفيين العراقيين، وعضو مؤسس في نقابة المعلمين وأتحاد الصحفيين العرب.
- الزعيم هاشم عبد الجبار:
أخ الزعيم عبد الكريم قاسم بالرضاعة. آمر اللواء العشرين مُشاة. رئيس هيئة التحقيق الخاصة في محكمة الشعب. أثناء محاولة إغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم عام 1959، بادر دون أوامر من الزعيم للنزول الى بغداد والأنتشار فيها تحسباً، لصد مؤآمرة إسقاط السلطة. لم يستزغ الزعيم ذلك، وأبعده كما ابعد الكثيريين ممن كانوا مخلصين له ولثورة تموز. ألتحق بوزارة الدفاع يوم 8 شباط 1963 للدفاع عن ثورة تموز، مثله مثل وصفي طاهر وفاضل عباس المهداوي. في مساء يوم 8 شباط وبعد ان تبين ان الموآمرة قد نجحت، طلب الزعيم من العديد من الضباط ومنهم هاشم عبد الجبار التسلل في جنح الليل عبر ضفاف نهر دجلة. توفى عام 1975 في المانيا ودفن فيها.
- نوري عبد الرزاق حسين:
أرسله والده للدراسة في إنكلترا في العهد الملكي، إلا انه فُصل لنشاطه السياسي ضد حلف بغداد. ذهب الى القاهرة للدراسة. عاد الى العراق بعد ثورة تموز عام 1958 وأصبح السكرتير العام لمنظمة الشبيبة الديمقراطية، ثُم أصبح سكرتير أتحاد الطلاب العالمي عام 1960. ناشط سياسي عالمي، صديق لياسر عرفات وجيفارا وجورج حبش وخالد محي الدين وعبد الفتاح إسماعيل والكثير من الثوريين اليساريين في العالم.
- عبد الوهاب البياتي:
وُلد عام 1926 في بغداد. وهو من جيل رواد الشعر الحديث (الحر)، مُعاصراً بدر شاكر السياب ونازك الملائكة. خريج الأدب العربي. عمل صحفياً، وكتب في مجلة “الثقافة” وأعتقل في خمسينيات القرن الماضي لمواقفه السياسية. ترجم الكثير من أعمال الشاعر التركي التقدمي “ناظم حكمت”، وعانى ما عاناه حكمت من تشرد وسجون وأضطهاد. وبسبب أفكاره عاش جزءاً كبيراً من حياته في المهجر، ما بين القاهرة ودمشق وبيروت. عمل ملحقاً ثقافياً في أسبانيا في الثمانينيات، وتأثر كثيراً بالأدب الأسباني. توفى ودفن في دمشق عام 1999.
- ذو النون أيوب:
وُلد في الموصل عام 1908. صحفي وروائي ومحرر وكاتب قصص قصيرة. كاتب لسير ذاتية ومدرس وناقد أدبي. إنتسب للحزب الشيوعي لفترة وجيزة لا تتعدى العام الواحد. عمل في الحزب الوطني الديمقراطي، وجمعية الدفاع عن الشعب العراقي في براغ عام 1963. توفى في بغداد عام 1996.
- غائب طعمة فرمان:
وُلد عام 1927. تخرج من كلية الآداب بمصر. له الكثير من الأعمال الأدبية القصصية والمسرحية، من بينها القربان، المخاض، ظلال على النافذة، وأشهرها مسرحية “النخلة والجيران” التي مازالت خالدة في ذاكرة من شاهدوها، كما قدمتها فرقة المسرح الحديث. ترجم ثمانون كتاباً من اللغة الأنكليزية والروسية الى اللغة العربية. مجموعاته القصصية، حصاد الرحى، ومولود آخر. يقول عنه الناقد جبرا إبراهيم جبرا: (يكاد يكون الكاتب العراقي الوحيد الذي يُركب أشخاصه وأحداثه في رواياته تركيباً حقيقياً). توفى ودُفن في موسكو عام 1990.
- محمود صبري:
وُلد يوم 14 تموز عام 1927 في بغداد. درس العلوم الأجتماعية في إنكلترا، وتطور إهتمامه الى فن الرسم، ليصبح فناناً تشكيلياً، وأحد رواد الفن العراقي الحديث. كان رائداً في القضايا الأجتماعية والسياسية في خمسينات القرن الماضي. درس الفن في أكاديمية موسكو للرسم والنحت والعمارة. عضواً مؤسساً في “جماعة الرواد” في عام 1950 مع فائق حسن. لديه عدة مطبوعات عن الفن والفلسفة والسياسة باللغتين العربية والأنكليزية. يقول عنه الناقد جبرا إبراهيم جبرا: (كان لمحمود صبري تخطيط قوي جعله الأساس في ما يرسم من مشاهد الفقر والشظف والتمرد، مؤكداً على الطريقة العراقية في الحياة، جاعلاً منها صرخة عنيفة في وجه الظالم، إجتماعياً كان أم سياسياً.
- الدكتور رحيم عجينة:
وُلد في مدينة النجف الأشرف عام 1925. ترعرع في محلة “البراك” في شارع موسكو، وهي محلة حاضنة للناشطين اليساريين. من العوائل التي سكنت تلك المحلة عائلة الوجيه “محسن عجينة” والد الدكتور رحيم، وعائلة السيد أحمد الرضي الموسوي والد الشهيد حسين أحمد الرضي “سلام عادل” سكرتير الحزب الشيوعي العراقي أبان ردة 8 شباط 1963. تخرج دكتور عجينة طبيباً وتخصص بالأمراض المستوطنة وتزوج المناضلة دكتور بشرى برتو، من عائلة برتو المعروفة بمواقفها الوطنية. رئيس جمعية الطلبة العراقيين في لندن، ومن قادة الحزب الشيوعي العراقي. يقول عنه عديله الدكتور فاروق برتو في نعيه له بعد وفاته ودفنه في لندن عام 1996: يمتاز بـ (الخلق الرفيع وعفة اللسان والأدب الجم حد الخجل، يحمر وجهه خجلاً ويهرب من المجلس الذي يلفظ فيه قبيح الكلام. الصدق والأمانة خصلتان متميزتان من خصاله. ذا فكر واسع جوال، عاكفاً بأستمرار على القراءة والبحث والمتابعة اللصيقة بالأحداث والتيارات الفكرية الهامة).
- عزيز الحاج علي حيدر:
وُلد في مدينة الكاظمية عام 1926. تخرج من دار المعلمين العالية عام 1947. إنتسب للحزب الشيوعي العراقي عام 1946، وحُكم عليه بالمؤبد عام 1948 التي قضى معظمها في نقرة السلمان، لحين إطلاق سراحه بعد ثورة 14 تموز 1958. درس في موسكو وبراغ، واصبح قياديا في الحزب الشيوعي، ليقود بعد ذلك أكبر إنشقاق في الحزب عام 1967، تحت تسمية ” القيادة المركزية”، التي سرعان ما أنتهت بعد اعتقاله من قبل سلطة البعث عام 1969، وإعترافات عزيز وبقية القادة تحت وطأة التعذيب. عُين سفيراً للعراق لدى اليونسكو لمدة ثلاثين عاماً. أستطاع في تلك الفترة من ان ينشر ثلاثين كتاباً عن سيرته وتجاربه السياسية التي كان من أهمها ” شهادة للتاريخ: أوراق في السيرة الذاتية”. يقول عنه الكاتب والناشط السياسي، الدكتور عبد الخالق حسين: (كان في منتهى الوطنية والأنسانية والطيبة والأخلاق الرفيعة). توفى ودُفن في باريس عام 2020.
الخلاصة:
كيف يمكن لأي سلطة مهما كانت غاشمة ان تُبعد رواداً للثقافة في بلدها. إنها مجموعة تتودد الدول الأخرى لأحتضانهم والأستفادة من نتاجهم الفكري والتعليمي. هؤلاء عينة لما حدث في عام 1963 بعد ردة 8 شباط الدموية. حيث تمّ إعتقال الآلآف من الطلبة والمعلمين والأساتذة الجامعيين والعمال الناشطين، ورميهم بالسجون وتعذيبهم وقتل العديد منهم. ردة شباط عام 1963 مسؤولة بشكل مباشر عن تردي المستوى الثقافي والعلمي في العراق لأنها حاربت المثقفين المخلصين بشتى الوسائل ومنها إسقاط الجنسية عن الذين لم تستطع ان تضع ايديها على أعناقهم. جرائم لا زالت بلا عقاب.
محمد حسين النجفي
www.afkarhurah.com
شباط 2022
كما نُشرت في طريق الشعب العدد (51) 7 شباط 2022، الصفحة الثامنة