أفكار حُـرّة : رئيس التحرير محمد حسين النجفي
صوت معتدل للدفاع عن حقوق الأنسان والعدالة الأجتماعية مع اهتمام خاص بشؤون العراق
قصة حب حزينة ومؤلمة جداً لا زالت عالقة في مخيلتي منذ أيام طفولتي. إنها قصة جميل الذي أحب أبنة خالته جميلة. كانوا في مقتبل العمر، وكان جميل ما يزال في طور شق طريقه وبناء مستقبله، كي يُأهل نفسه للزواج. ولما كانت الحياة الاجتماعية في خمسينات القرن الماضي، مبنية على الزواج المبكر، قرر جميل ان يستعجل ويتقدم لخطبة ابنة خالته قبل ان يتقدم لها الآخرون، خاصة وان جميلة كانت اسماً على مُسمى، ومن عائلة محترمة جداً وذويها من تجار بغداد المعروفين. كانت عائلة جميلة، عائلة تقليدية تعتمد في قراراتها على حكمة الأخ الأكبر لهذه العائلة، الذي ارتأى ان جميل لا يصلح ان يكون زوجاً لأخته الوحيدة. فرفض طلبه وإن كان من أقربائه. كان قرار الأخ الأكبر يعتمد على بعض المُسببات الوجيهة كالتكافؤ المالي والتحصيل العلمي والمركز الاجتماعي، وربما وجود بعض المشاكسات والخلافات التي تعاني منها كل العوائل. إلا ان ذلك لا يمنع ان يُقابل ذلك توفر مُسببات أخرى تدعو للقبول، منها انه يحبها وهي تحبه، وانه شاب مستقيم، ومجتهد في عمله، وربما سيكون له مستقبل تفتخر به العائلة. المهم ظل هذا الموضوع مُعلقاً.
كانت عائلة جميلة وعائلتنا متقاربتان جداً، حيث كان اخاها الكبير على علاقة تجارية مع والدي تطورت الى علاقة صداقة عائلية في بداية حياته التجارية في بغداد. كانت جميلة تزور والدتي كثيراً، لأن بيت والدتي كان مضيفاً مفتوحاً للأقارب والجيران، وخاصة النساء اللواتي يتعرضن للتعسف والظلم الاجتماعيين. كان حديث جميلة مع أمي عن جميل ومظلوميتها وحيرتها، بين احترام قرار أخيها الأكبر وبين نداء الحب المتسلط على مشاعرها. كنت أرى وجه جميلة يفقد ببشاشته ونوره وآخذاً في الذبول تدريجياً. جميل شاب محترم لا يستطيع ان يتخطى الخطوط الحمراء التي أرسى أسسها المجتمع والتقاليد والعرف والدين. وبالتالي ظل الموضوع قيد الحفظ، وكلما يثار بين فترة وأخرى، يُسدل عليه الستار بسرعة.
مرت الأيام وإذا بالأخ الأكبر يتعرض لمرض عصي أدى في نهاية الأمر الى وفاته وهو في عز شبابه. كانت مأساة عائلية ومصاب جلل، لأنه كان الشخصية التي ترتكز عليه هذه العائلة الكبيرة من حيث الإدارة التربوية والمسؤولية المالية. جميل لم ينسى حبه الأبدي، جدد محاولته لخطبة جميلة من بقية الأخوة وبعد مضي وقت مناسب. كان الجواب هذه المرة: لقد قرر المرحوم، ولا نستطيع كسر قراره ورغبته بعد وفاته. كنت استمع الى هذه الأحاديث بين جميلة وأمي، وكنت أرى شحوب وجه جميلة وهي تتحدث عن ذلك، وأرى أمي كيف تتأسى عليها وتُطيب خاطرها دون ان توجهها لقرار معين. كانت تشاركها حزنها، وتعطف على مأساتها وعلى حرمانها من حقها في الاختيار دون ان تشجعها على الخروج عن طاعة عائلتها.
كان جميل الذي يعمل في سوق الشورجة مثلنا، شخصية محبوبة جداً، نظيف في سلوكه وهندامه. المرح والبشاشة في وجهه من طباعه الفطرية، إلا انها لم تستطيع ان تخفي تلك الغصة الأبدية في قلبه، والأسى من حرمانه لتكون حبيبته شريكة حياته. وأنا في عمر المراهقة كنت اتحسس مأساة جميل وجميلة اللذين يكبرانني بحدود العشرة أعوام. كنت حينما ارى اي منهما استذكر القصة برمتها، وكأنها قصة قيس وليلى او قصة روميو وجوليت. حاول جميل مرات ومرات ان يخطبها من إخوتها ابناء خالته، إلا انهم كانوا دائماً يردون عليه بنفس الجواب دون زيادة او نقصان، من أنهم لا يستطيعون ان يكسروا قرار المرحوم. لم يستطيعوا كسر قرار مضى عليه زمن، إلا انهم كسروا قلبين طيلة العمر كله.
ومرت على هذه القصة سنين طوال. ورغم أنى فارقتهم منذ أربعين عاماً، إلا انني لا زلت اتذكرهم كلما سمعت قصة حب مؤلمة. لا أدري ما حل بهما، هل تزوجا، أم انتهى حبهما كما بدأ عذرياً. وخوفي أنهما فارقا الحياة دون ان يجمعهما سقف واحد أو يذوقا طعم العناق.
محمد حسين النجفي
رئيس تحرير موقع أفكار حُرة
www.afkarhurah.com
قصة رائعة تعكس جانبا من الاستبداد والعقلية المغلقة لبعض الأشخاص وقراراتهم التي تدمر مستقبل الكثير من الأبرياء
شكرا جزيلا على المشاركة استاذ محمد
تسلم عزيزي أبا أحمد. نعم مجتمعاتنا رغم طيبتها إلا انها تخفي تحت جوانحها مآسي ومظلوميات لا ت,عد ولا تُحصى. خالص تحياتي
هكذا هي سردياتك تكتبها بعين الخيال الذي يأخذ الواقع بين كفيه مثل غرفة ماء لا يسقط منها شيء من بين أنامل الغارف.
معاينة واقعية لمجتمع يعيش مأساته، فهو محكوم ببدائية الوعي الذي لم يدرك معنى الروح، وما يفيض منها من ضوء حب، حيث يحتضن العقل المتخشب الجسد.
لله درك أبا عامر، فاسلم تكتب بفكرك الحر ما يمهّد محجّات السفر إلى الضفاف البعيدة، التي تضيؤها ابتسامة عاشقين.
يوم المرأة العالمي يوم سعيد لنساء الأرض، وهن ينثرن الجمال جدوال تسقي صحراء حياة الرجال بنور المعنى.
محبّتي العالية صديق القلب أبا عامر الورد!
أستاذي وصديقي الغالي أبا إيناس، نكتب ذكرياتنا بحلوها ومُرها. ذكريات اختزنت في اعماقنا لسنين طوال. ووفاءً للمظلومين وكي لا تتكرر المآسي بحجة قيم ما أنزل الله بها من سلطان. ألف شكر لمروركم رغم إنشغالكم، ويُشرفنا ثنائكم أبا إيناس الغالي