أفكار حُـرّة : رئيس التحرير محمد حسين النجفي
صوت معتدل للدفاع عن حقوق الأنسان والعدالة الأجتماعية مع اهتمام خاص بشؤون العراق
هذه المقالة عبارة عن ذكريات عاشها الكاتب مع زملائه في الأعوام 1962 و 1963 التي سبقت ردة 8 شباط 1963، وكيف ان شباب في عمر المراهقة توقعت وحاولت منع نجاح الموآمرة الكبرى على العراق، بينما كان الكبار اما يتآمرون عليه، أوينتظرون حدوث الكارثة دون تهيأة مناسبة لمقاومتها:
بعد ان فشلت محاولة عبد السلام عارف في ازاحة الزعيم عبد الكريم قاسم في الأشهر الأولى لثورة 14 تموز عام 1958، وبعد ان أُجهضت مؤامرة الشواف في الموصل وفشلت محاولة اغتيال الزعيم في شارع الرشيد، بدء البعثيون يخططون للقيام بتغيير الأوضاع السياسية في العراق بشكل اكثر ذكاءً وحنكةً. فتحالفوا مع القوميين ورجال العهد البائد وبعض رجال الدين والمخابرات المصرية والأمريكية، وبتمويل من الكويت وشركات النفط والشركات والأشخاص الذين تضررت مصالحهم بعد الثورة والأقطاعيين والأغوات والرجعيين. فكان لابد من مشاغلة الزعيم بأحداث جانبية كي يستطيعوا من إلهاء السلطة من جهة وموآزريها من جهة اخرى. وكي يتمكنوا من الأستمرار بالعمل السري الدؤوب دون ان تنكشف مخططاتهم التآمرية. وكان البعثيون بارعون في قدرتهم على استغلال اي حدث او ازمة او اي تشريع كي يثيروا الضجة حوله ويستثمروه لخدمة مشاريعهم للوصول للسلطة والأنفراد بها. وهكذا استطاعوا من استثمار الخلاف بين الزعيم عبد الكريم قاسم والعقيد عبد السلام عارف وكذلك استغلال الخلاف بين الزعيم والملا مصطفى البارزاني. كذلك تمت الأستفادة القصوى من احداث الموصل وكركوك وتغيير الحقائق والظهور بمظهر الضحية، واحداث الجفاء القاتل بين الزعيم والقوى الوطنية وخصوصاً الحزب الشيوعي. وكانوا اكثر المستفيدين من فتوى الراحل السيد محسن الحكيم، وكذلك تهويل أضرار رفع اسعار البنزين بنسبة ضئيلة والتي ادت الى ما يعرف بأضراب البنزين.
كان عام 1962 الفترة التي بدء بها الأعداد الكامل للأنقلاب. وكانت مناطق الكاظمية والأعظمية والكرادة الشرقية من المناطق الرئيسة التي تشهد نشاطاً سياسياً في بغداد. حيث كانت الأعظمية منطقة نفوذ قومي
وبعثي وكانت الكاظمية مغلقة تقريباً للشيوعيين. اما الكرادة الشرقية فكانت منطقة صراع، حيث ان هناك تواجد كثيف للشيوعيين وخاصة في منطقة الزوية بينما كان هناك هيمنة للبعثيين في منطقة البو شجاع. ولقد انعكس ذلك على ما كان يدور في المتوسطة الشرقية والثانوية الشرقية. ولذلك تمثل احداث الثانوية الشرقية اهمية بالغة في هذا المنوال ذلك لأنها الحدث الذي سبق ردة 8 شباط عام 1963 واسُتغل بمهارة فائقة للتمهيد اليها.
كنا في المتوسطة الشرقية نسمع منذ سنتين عما يتعرض له زملائنا اعضاء ومؤيدي الأتحاد العام لطلبة العراق في الأعدادية الشرقية من اضطهاد واعتداء يومي من قبل البعثيين وحلفائهم. وعليه كنا نتوقع ان يحدث لنا ذات الشئ حينما ننتقل من المتوسطة الشرقية الى الأعدادية الشرقية. إلا اننا في المتوسطة الشرقية كنا قد مارسنا النشاط السياسي مبكراً، وتمرسنا عليه مما جعلنا اكثر استعداداً لمواجهة مثل هذه الأعتداءات.
كان “الأتحاد العام لطلبة العراق” هو المنظمة الطلابية الوحيدة المعترف بها رسمياً وعالمياً والتي تمثل مصالح الطلبة والدفاع عنهم. إلا انه كان شبه مجمد حيث لم تجري انتخابات خلال الأعوام
1960/1961 والعام 1961/1962. وحينما لم يفز البعثيون في آخر انتخابات اقيمت عام 1959/1960 اسسوا لهم اتحاد منفصل تحت اسم “الأتحاد الوطني لطلبة العراق”. وكان الناشطون في الأتحاد العام لطلبة العراق يمثلون نخبة وطنية شابة حريصة على الوطن وعلى مكتسبات ثورة تموز المجيدة. وكان من الذين تعرفت عليهم وشاركتهم العمل ولازلت اتذكرهم من طلاب الصف الرابع والخامس في الثانوية الشرقية حبييب عمران وكان قياديا هادئً ووسام شكوري شاباً نشطاً وفريد عطو مثقفا ملتزماً وحكمت الدقاق مخضرما وملماً بمعلومات كثيرة وسامي التكمجي رزناً وجدياً ومناضل المهداوي بطيبته وتواضعه وبساطته والمرحوم احسان عبد المحسن الجلبي وقدرته الحوارية وهدوئه في النقاش وفريد قرياقوس وحماسه وطاقته على العمل والعطاء وليث الخفاف وعلي البستاني وعلي عزيز ونبيه خضر وباسل لطفي طاهر ولؤي ابو التمن ووليد عبو وفوآد ناجي والعديد من الزملاء والأصدقاء.
لقد كان لوجود مناضل فاضل عباس المهداوي في الثانوية الشرقية بيننا مصدر اعتزاز ودفع معنوي وفخر لنا، وفي نفس الوقت كان يعتبر مصدر تهديد واستفزاز لسيطرة البعثيين او الموالين للأتحاد الوطني لطلبة العراق. وعليه قرروا على ما يبدوا منذ بداية العام الدراسي 1962/1963 البدء بالحملة الأستفزازية بعد انتهاء الدوام عصر كل يوم. حيث يقود سيد هاشم الموسوي* مجموعة من اتباعه ويسيرون بشكل جماعي وراء مناضل ومن يسير معه ويبدئون بالشتائم على رموز محددة.
وكان يحدث ذلك كل يوم وللأسف لم نستطع الحراك لكثرة عددهم وقلة عددنا وكبر عمرهم وابدانهم وضعف قدراتنا البدنية. لقد كانوا من الطلبة الذي رسبوا لعدة سنوات بينما مجموعتنا كانت من الطلبة المجتهدين المؤدبين الذين لم يمارسوا حياة الشوارع. وكنا نناقش ذلك يومياً مع القيادات ويطالبونا بعدم الأحتكاك وتجنب المشاكل. وبعد ان تعرضنا للعديد من الأهانات والأستفزازات قررنا اخذ بعض المبادرات:
وكانت النتائج مذهلة، حيث تبين ان 70% من الطلبة هم الى جانبنا وهي نتائج قوت من عزيمتنا ورفعت من معنوياتنا وبدأنا نسأل انفسنا لماذا نتحمل الذل من هؤلاء الذين يهينوننا ويعتدون علينا كل يوم بعد انتهاء الدوام. وهنا بدأنا التعرف على مجموعات كبيرة من الطلبة من غير المتوسطة الشرقية ومنهم، منير سعيد، طارق علي شيخو، هادي حسين موسى ، مصطفى اسماعيل البرزنجي ، سالم، ناجي عليوي، بهنام، شاكر حسين، رحيم جويي اللامي*، فوآد ناجي، هادي العطار، سمير سحار، عامر، ليث موسى، هادي منتظر، فريد الرماحي، عبد الأمير الحجاج، ماربين وكثيرون لا تسعفني الذاكرة بأسمائهم. وبعد ان قوينا ترابط مؤيدينا في الشُعب وخاصة في الصف الرابع، قررنا عدم الخروج انفراداً من المدرسة وانما نتجمع على شكل ثلاثة او اربع طلاب. ومع ذلك استمر المهرجان اليومي في السخرية والسب والشتم والأعتداء.
بعد ذلك بدأت مرحلة الأعتداء علينا بالضرب . حيث تم الأعتداء على رحيم جويي وفريد قرياقوس وغيرهم لا لشيء إلا لأنهم من الناشطين في اتحاد الطلبة. واستمرت عملية تكوين المحورين الأساسين، مجموعة البعثيون الملتفون حول سيد هاشم ومنهم ليث الرفيعي* وعصام كبة* والأخوة سالم وسلمان من الزوية ومخلص عبد الجليل (اخ غانم عبد الجليل) وطالب (الأقرط) ( عديل حسن العامري وزير التجارة) وصباح البحراني. والمجموعة الثانية كانت تتجمع حول مناضل المهداوي لمكانته ومكانة والده العقيد فاضل عباس المهداوي رئيس محكمة الشعب.
وحينما بدأت مجموعتنا تكبر عند الخروج من المدرسة بدأ سيد هاشم يستعين بشقاوات وفتوة وابناء شوارع الكرادة ومن طلاب ثانوية ابن حيان وهي ثانوية القسم الأدبي عكس الشرقية المخصصة للقسم العلمي، وكان نفوذ البعث فيها اكبر. وكان طلاب ابن حيان اكبر سناً منا بكثير وذو اجسام كبيرة ويذكر منهم سليم الزيبق وسامي العجمي وطارق رحيم.
كان حبيب عمران وفريد عطو وليث الخفاف من طلبة الصف الخامس اي من الدورة الصباحية بينما الصف الرابع كان يبدأ ظهراً وينتهي عصراً. وعليه لم يروا المهانة التي كنا نتعرض لها. وعلى ذلك قررنا ان نأخذ الحل بأيدينا. وقررنا ان ندافع عن انفسنا ونستعين ببعض الأصدقاء من خارج المدرسة. واستعنا بالصديق ” ابراهيم تينة” من الزوية وهو شاب مثالي قوي العود صاحب نخوة وحمية. واستعان عبد الأمير الخياط بعامل فرن فيلي في منطقة المسبح. وحددنا اليوم الذي سنتحداهم به ونمنعهم من الأعتداء علينا. وكانت الخطة كما يلي:
وفعلاً قررنا عمل ذلك دون اخذ موافقة من احد. وعندما بدأ موكب سيد هاشم الموسوي الأعتدائي بالسب والشتم، لم يستطع ناجي عليوي انتظار الأشارة، ولملم طابوق كسر في يديه الأثنين وصاح واحد، اثنين، ثلاثة بسرعة فائقة وعمل الجميع مثله. وبدأ الطابوق والحصى ينهال عليهم كالمطر، ولاذوا بالفرار جميعاً دون النظر الى الوراء. وكان يوماً لنا في التاريخ استطعنا ان نقف فيه بوجه الذين منحوا انفسهم حق السب والشتم والضرب والأعتداء وحتى القتل. وقد ابلي عامل الفرن بلاءً حسناً حيث استطاع ان يمسك بسيد هاشم ويكيل له الضربات سدادا للديون التي كان يعتدي بها على زملائنا كل يوم.
استمرينا في المشي بأتجاه كرادة خارج وكنا في اعلى معنوياتنا فرحين للدفاع عن كرامتنا. وعلى العكس مما اشيع لاحقاً من ان مرافق (وليس مرافقي) مناضل ابن المهداوي قد شارك في ذلك. حيث انه لايعرف بتاتاً في الأمر، وكانت مفاجئة له، ولم يشارك بما حدث بأي شكل من الأشكال. حيث كان مناضل يأتي بسيارة والده ويوصله مرافق واحد الى باب المدرسة، ثم يذهب. وعند انتهاء الدوام يأتي ليرافقه الى السيارة ليذهب الى البيت. حيث ان من المعروف ان المهداوي وعائلته كانوا من المستهدفين وذلك لأنه كان رئيس محكمة الشعب التي اصدرت احكام اعدام بحق بعض رجالات نوري السعيد، ومجموعة من الذين تآمروا على الزعيم والثورة.
ومافاتنا اننا لم نحسب ما الذي سيحدث بعد ذلك؟ وعلى الرغم من انها كانت مفاجئة، الا انها كان يجب ان تكون متوقعة. وقبل ان يبدأ دوامنا في اليوم التالي ظهراً، وصلنا خبر عن طريق حبيب عمران الذي هو من طلبة الصف الخامس، بأن مجموعة من اشقياء ثانوية ابن حيان وبمشاركة بعثيي الشرقية قد اعتدوا بالضرب المبرح على مجموعة كبيرة من زملائنا مما ادى الى ارسال خمسة طلاب بألاسعاف الى مستشفى الطوارئ ومنهم ليث الخفاف وفريد عطو ووسام شكوري الذين كُسرت انوفهم، وطلب منا عدم الذهاب الى المدرسة في ذلك اليوم.
وفي اليوم التالي تطور الأمر بسرعة ملفة للنظر. حيث صدر بيان من الأتحاد الوطني لطلبة العراق وهو الواجهة الطلابية لحزب البعث ، يدين فيه ” اعتداء ابن المهداوي وزمرته ” على الطلبة. ويتهم فيه ابن المهداوي ومرافقيه العسكريين بالمشاركة بألاحداث، وهذا مخالف للحقيقة جملةً وتفصيلا. ويستمر البيان ” وبناء عليه نعلن الأضراب العام في الجامعات والمدارس”. وبعد ذلك توالت الأحداث واعتصم البعثيون في رئاسة جامعة بغداد، وفقدنا زمام المبادرة واصبحنا ملاحقين من قبل اشقياء وفتوة البعث في عموم شوارع وازقة الكرادة الشرقية.
وحدثت لنا مشاجرات عديدة في الشوارع واحدة منها في مدينة الضباط والأخرى في عرصات الهندية ، لأننا كنا ندور على الدراجات الهوائية لتوزيع المناشير وحشد الطاقة بأتجاه كسر الأضراب. قررنا بعد ذلك ان نذهب للدوام ونطلب من الجميع عدم ترك الصف. وكان العديد من الأساتذة التقدميين يقفون بوجه منظمي الأضراب ليس لأغراض علمية او تربوية فقط، وانما لعلمهم بأن هذا الأضراب ماهو إلا تمهيدا لمؤآمرة كبرى. وكان من بينهم استاذ الجبر عبد الجبار عبد السادة ومدرس الفيزياء عادل الياس وكان قد تخرج لتوه من كلية العلوم وكان نشطا جداً في مقاومة الأضراب واستاذ المثلثات البهرزي واستاذ الكيمياء انطوان القس.
وفي احد الأيام واثناء درس الجبر، حصل ان احتشد بعض الطلاب يطلبون منا ان نشارك في الأضراب. وكان أستاذ الجبر هو استاذ علي لا يدري ما الذي يجب ان يفعله. فما كان عليّ إلا ان انبري واتصدر الصف وبدأت بالهتاف:
“عاش اتحاد الطلبة هو ونضالاته، يسقط الأستعمار هو وعصاباته”
وردد الصف معي الهتاف بمنتهى الحماس، حيث كانت شعبتي، شعبة (ط) المجيدة شعبة على اهبة الأستعداد لمقاومتهم. وكان فيها من المتحمسن جداً فريد قرياقوس وطارق علي شيخو ومنير وجبار سعيد وغيرهم من شباب الأتحاد النشطين. وهكذا استمرينا بالهتاف مدويين بصراخنا جميع اركان المدرسة. ولما يأسوا من كسرنا ذهبوا وقرعوا جرس انتهاء الحصة قبل الأوان. وطلبت من استاذ علي (الذي كان قد نقل من الكاظمية لأسباب سياسية) الأستمرار لان الوقت الفعلي لم ينتهي، الا انه آثر على الأنصراف.
وفي اروقة الثانوية الشرقية كان يجري حوار حاد بيننا وبين البعثيين. هم يقولون ان الزعيم دكتاتور وعليكم ان تشاركونا في الثورة عليه، ونحن نقول ان هناك مؤامرة رجعية استعمارية ضد الثورة ومكتسباتها خاصة بعد صدور بيان رقم (80) الذي حدد نشاط استثمارات شركات النفط وحرر 99.5% من اراضي العراق كي تستثمر وطنياً. يطالبونا بالمشاركة بألاضراب ونطالبهم بكسره لانه يمهد للانقلاب على الثورة. نحن ندافع عن الثورة ومنجزاتها وهم ينكلون بالزعيم واحداث الموصل وكركوك. وكانوا دائماً يذكروننا بأننا خارج الحكم حالياً وان الزعيم قد اعتقل العديد منكم ، وانكم اولى ان تثورون عليه منا. وكان هذا حق اريد به باطل.
وفي احد الأيام طلب منا البعثيون المفاوضات خارج المدرسة. واتفقنا على اللقاء في منطقة العلوية في القهوة المطلة على ساحة الجندي المجهول (سابقاً) وهي ساحة الفردوس حالياً ( الموقع جزء من فندق خمس نجوم حالياً). وكان ممثلونا حبيب عمران وسامي وكنت انا وآخرين مرافقيين ومراقبين عن كثب. ومنهم كان صباح البحراني ولا اتذكر من كان معه. وعلى كل حال هم يحاولون اقناعنا بالمشاركة في الأضراب ونحن نطالبهم بأنهائه. وعلى هذا انتهت المحادثات الا انها كانت تجربه فريدة لشباب تتراوح اعمارهم بين الخامسة عشر والتاسعة عشر يتصرفون وكأنهم قادة حركات سياسية.
واصبح هناك تركيز عالي على نشاطنا، واخذنا نعقد اجتماعات شبه يومية معظمها في بيت جد سامي. وكان يأتينا مشرفيين من قيادات الأتحاد ومنهم شهيد وعصام القاضي والزهاوي. وبدأنا نشعر بأهمية عملنا وبأن الكل يعول علينا. وطلبوا منا ان ننظم تظاهرة في داخل الثانوية الشرقية لأتحاد الطلبة تتضمن الهتافات وكلمة يلقيها احدنا ووقع الأختيار على وسام. وبالفعل، قمنا بالتحدي وفي احدى الفرص تجمع حوالي ثلاثين طالباً وبدأنا بالهتاف:
“عاش اتحاد الطلبة هو ونضالاته يسقط الأستعمار هو وعصاباته”
جاء مدير المدرسة يونس الطائي الذي كان منحازاً، وسحب حبيب عمران من التظاهرة واستمرينا بالهتاف و بدأ البعثيون بهتافاتهم ايضاً، وقرع الجرس لبدأ الحصة القادمة ولم تتح الفرصة لوسام بألقاء الكلمة. كان تحدياً كبيراً لم يتوقعه احد.
ولقد ادى الخلاف بين الزعيم عبد الكريم قاسم والملا مصطفى البرزاني والقيادة الكردية الى اشتعال نار الحرب بين الجيش العراقي وقوات البيش مركة. وقد احرج هذا الخلاف القوى الوطنية ولذلك طالبت الجهتين بالمفاوضات السلمية لضمان حقوق الأكراد من جهة والحفاظ على عراق موحد من شماله الى جنوبه. ولكي نعلن عن هذا الرأئ كان لابد من القيام بمخاطرة اخرى وتحدي آخر. فذهبت بعد منتصف احد الليالي وكان معي ابن عمتي حسن وعبرنا سياج المدرسة وخطينا على الجدران الخلفية للمدرسة اهم شعار في تلك المرحلة وهو:
“السلم في كردستان”
طوق الأنضباط العسكري الثانوية الشرقية، الا انهم لم يدخلوا حرمها. وبدأنا نذهب الى المدرسة ونحاول الممانعة في ان نجعل الأضراب ينجح. حيث ان الأضراب لم يكن طوعاً في اية مرحلة من مراحله وفي اي مدرسة او كلية وانما كان البعثيون يستخدمون اساليب القسر والتهديد والضرب واستخدام اسلحة غير نارية مثل المديات وبوكسات الحديد والسكاكين. فعلى سبيل المثال تم الأعتداء على هادي منتظر وبهاء بالضرب لرفضهم الأنصياع بعدم الدخول للصف. ومع ذلك استطعنا ان نكسر الأضراب وبدأ الدوام يكون شبه منتظماً وانتهت مرحلة هيمنية البعثيين على الثانوية الشرقية. وفي هذه المرحلة بدأت حملة اعتقالات. حيث اعتقل سيد هاشم من البعثيين، اما الباقون فإن معظمهم كانوا من جماعتنا. وكان ذلك غريباً جداً. حيث اعتقلوا حبيب عمران وبهاء ومهدي منتظر. كذلك جاء امراً بأعتقالي، الا انهم اعتقلوا زميل آخر اسمه محمد حسين في شعبة (ه) عن طريق الخطأ، وهو شاب لا يتدخل في السياسة مطلقاً، كما اخبري بذلك الزميل حكمت الذي كان في نفس الشعبة. كذلك قام الأمن بأعتقال فريد قرياقوس مع زملاء آخرين والأعتداء عليهم وتبويخهم لأنهم من مناهضي الأضراب. وبعد 14 رمضان تم اطلاق سراح جماعتنا، ومعنى ذلك انهم اعتقلوا لوجود تلفيق في الأخبارية من انهم منظمين للأضراب وليسوا من المقاومين له. وبذلك نعلم ان البعثيين كانوا يحاربوننا بشتى الوسائل، وان يدهم كانت تطول اجهزة الأمن والشرطة اضافة الى الجيش.
وكان ملفتاً للأنتباه ايضا ان الأذاعات المصرية وخاصة اذاعة صوت العرب ومديرها سئ الصيت أحمد سعيد كانت مهمته الأساسية هي معادات العراق والزعيم عبد الكريم قاسم وتسميته قاسم العراق. كان الرئيس جمال عبد الناصر مركزاً بشدة على معاداة الزعيم وذلك بأتهامه بالتحالف مع الشيوعيين والشعوبيين ضد آمال الوحدة العربية التي كان ينادي بها. وكان البعثيون يتظاهرون من انهم من المؤمنين والمدافعين عن زعامة عبد الناصر للأمة العربية، إلا انهم اثبتوا عكس ذلك حين اعتلوا منصة الحكم. كذلك دعمت سفارة الجمهورية العربية المتحدة ( وهذا كان اسم مصر وسوريا اثناء الوحدة) الأضراب عن طريق الترويج له وطبع المنشورات لهم في السفارة، مما اضطر الحكومة العراقية الى طرد احد الملحقين في السفارة في 24 كانون الثاني 1963 اي قبل خمسة عشر يوماً من 8 شباط 1963. كذلك تم الهجوم على رئاسة جامعة بغداد التي كان البعثيون معتصمين بها مما ادى الى اعتقالهم وكان من بينهم شخص اعرفه من كربلاء اسمه مهدي مغنص من كلية اللغات.
ونتيجة لأعتقال زملائنا قررنا ان نقابل وزير التربية والتعليم اسماعيل العارف. حيث ذهبنا انا وسامي ومناضل وعلي وربما شخص آخر الى ديوان الوزارة في منطقة السراي في باب المعظم. وطلبنا من السكرتير مقابلة الوزير ممثلين لأتحاد طلبة الثانوية الشرقية. استقبلنا الوزير في مكتبه دون تردد او تفتيش او تحقيق. وقلنا له ان سلطات الأمن قد اعتقلت العديد من زملائنا، ونحن ضد الأضراب ولسنا معه. وشرحنا له احداث الشرقية التي كنا نحن فيها ضحايا ولم نكن المعتدين. وبينا له من ان الأضراب كان مفروضاً بالقوة على الطلبة وليس طوعياً. كان الوزير ينظر الينا بتعجب وعيونه النمرية تلمع مع ابتسامة وقورة في وجهه. وربما كان لسان حاله يقول ما الذي يفعله مراهقون بهذا العمر في مكتبي ويتكلمون وكأنهم ساسة في البرلمان البريطاني. وفي الختام شكرنا لحضورنا وطالبنا ان نركز على دروسنا وصافحنا مودعاً. خرجنا من مكتبه غير مصدقين انهم لم يعتقلونا، حيث كان ذلك وارد جداً في حساباتنا.
لم يمر من الوقت كثيراً حتى سمعنا ما كان متوقع. ففي يوم ظلامي قاتم، هو يوم الجمعة 8 شباط 1963 وفي الساعة التاسعة صباحاً والمصادف الرابع عشر من رمضان، اذيع البيان رقم واحد وبيان رقم (13) المشوؤمين، وبذلك دخل العراق في بحر من الدماء، اغتيل على اثره زعماء ثورة تموز المخلصين من الذين مازالوا في السلطة مثل الزعيم عبد الكريم قاسم والزعيم الركن الطيار جلال الأوقاتي والزعيم عبد الكريم الجدة والعقيد طه الشيخ احمد وكنعان حداد او الذين كانوا مبعدين والتحقوا للدفاع عن الثورة مثل العقيد فاضل عباس المهداوي ووصفي طاهر. واستشهد خيرت ابناء الشعب العراقي بين المقاومة للأنقلابين في العديد من معسكرات الجيش وفي المحلات الشعيبة الموالة للثورة والزعيم عبد الكريم قاسم مثل تصدرتها مدينة الكاظمية ومحلة عكد الأكراد والشاكرية والشواكة او تحت التعذيب الوحشي في قصر النهاية او في مقرات الحرس اللاقومي في الأعظمية والكرادة والكاظمية وعموم مدن العراق. وتم اعتقال وفصل الآلاف من افضل مهني موظفي اجهزة الدولة مثل المعلميين والمهندسين والأطباء وخيرة الكفويين من اجهزة الدولة. ودخلنا نحن طلبة الثانوية الشرقية الذين لم نكن سوى بعمر المراهقة، والعديد من اساتذتنا الوطنيين مرحلة جديدة من الأعتقالات والتحقيقات والمضايقات التي لا تعد ولا تحصى لمدة تسعة اشهر سوداء مقيتة لحين ما انقلب عبد السلام عارف على البعثيين في يوم 18 تشرين الثاني 1963.
محمد حسين النجفي
3 شباط 2018
ملاحظات:
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________
#الثانوية الشرقية# ردة شباط 1963# محمد حسين النجفي
جزيل الشكر لتوثيق هذه الفترة. رغم انني كنت في تلك الفترة في الفريق المقابل ورغم انني سبقتكم في الشرقية ببضع سنين، فإنني لا ازال أعيش في مخياتي تلك الفترة الحرجة من تاريخ العراق وأتمنى كما تتمنى انت ان يضيف كل من عاش تلك الفترة ما لديه من ذكريات..الصراع الذي حدث عندذاك مهم ولعب دورا أساسيا في تطور الأحداث بعد ذلك
تحياتي
غسان
عزيزي غسان
اسف لعدم اجابتك في الوقت المناسب. على اية حال هذا الجانب وذاك مسألة تاريخية وتجربة في حينها. كلنا الآن في خندق واحد ندعوا لعراق افضل. تحياتي
Different kind of generation and different level of loyalty.
Thanks a lot for your encouragement brother Samer
I am so impressed with the level of sophistication that you guys had when you were just in the middle school?? This is amazing in all aspects, and that gives me an idea how educated the people/community were in those days…I am also impressed with your ability to remeber all the names who were with you in the Middle and/or High School…I have to admire what you wrote dear brother Mohammed and wish you best of health.