المستوطنون لا يصنعون دولة وطن

كما نُشرت في صحيفة المدى البغدادية العدد 5842 الأثنين 3 شباط 2025

المستوطنون لا يصنعون دولة وطن

مصطلح الدولة يعني فيما يعنيه وجود شعب عريق يعيش على ارض معينة بشكل دائمي، يمتلك تاريخ وعادات وتقاليد مشتركة، منتظم في عقد اجتماعي يضمن وجود سلطة قانونية تنظم شؤون الحياة. هذا هو مفهومي لمعنى الدولة بالشكل المتكامل. أما مفهوم وطن فإنه كل ما سبق مضافاً له الانتماء الروحي والمصيري لتلك البقعة الجغرافية المسماة الدولة الفلانية. أطروحتنا في هذا البحث هو ان المستوطنون الجدد لأي بقعة جغرافية لا يمكنهم ان يأسسوا دولة وطن، وإن اسسوها سلماً او قسراً فإنها لا تدوم.

هناك أنواع من الدول تحت مُسميات متعددة، تفتقر لبعض الأسس التي وضعناها في مقدمة هذا الموضوع. فعلى سبيل المثال شهدنا قبل حوالي عشرين عاماً تكوين ما يُسمى “داعش” وهو مختصر “الدولة الإسلامية للعراق والشام”، وذلك عن طريق السيطرة على مناطق صحراوية بين العراق وسوريا والأردن، والتوسع بعد ذلك بغزو مدن واحتلالها مثل مدينة الموصل وتكريت والرمادي ودير الزور والبو كمال، ليسكنها مقاتلو داعش القادمين من آسيا الوسطى ودول عربية مجاورة على شكل استيطان بالقوة.

النموذج الآخر هو أمة الإسلام Nation of Islam التي أسسها أليجا مُحمد ُEligah Muhammad وليقودها بعد ذلك لويس فرخان Luis Farrakhan، وهذا النموذج يخلق ولاءً دينياً وتنظيمياً للمنظمة، يفصلها عن بقية افراد المجتمع، ليجعلها دولة داخل دولة الولايات المتحدة الامريكية.

وهناك النموذج الاقتصادي الذي نمى في القرن التاسع عشر والذي فرض ضرورة التحكم بالسلطة السياسية لضمان المصالح الاقتصادية، وهو نموذج استيطان الأنجلو سكسون في افريقيا، بحثاً عن المعادن الثمينة كالذهب والالماس والنحاس واليورانيوم وغير ذلك، وسارعوا بتكوين محميات او مستوطنات وسلحوا أنفسهم كي يحموا ممتلكاتهم ومصالحهم وحياتهم من الخطر.  وحينما بدأت شعوب هذه الأمم بالتفكير بتكوين دولة حديثة ونيل استقلالها من الدول الأوروبية، توجس السكان البيض بالخطر يُداهم مصالحهم فطوروا الإدارة التجارية الى حكومات والميليشيات المسلحة الى جيش وأجهزة امن وكونوا حكومات عنصرية تتحكم بالسكان الاصلين والموارد الطبيعية فيها، مثال ذلك جنوب افريقيا وروديسيا الجنوبية. حيث أعلنت الأقلية البيضاء الاستقلال من جانب واحد، واسسوا دول مبنية على الانفصال العنصري والتحكم في الأغلبية الذين هم السكان الأصليين.

النموذج الجزائري يتميز بتوسيع الرقعة الجغرافية للدولة المُستعمرة لتشمل ضم أراضي وشعوب لتكون جزءاً منها، مثال ذلك اعتبرت فرنسا ان الجزائر جزء منها منذ ان دخلتها عام 1830، بعد ان كانت الجزائر او قسم منها ضمن الدولة العثمانية. ونظراً لغنى الجزائر زراعياً استثمر بعض الفرنسيين في الجزائر واستوطنوا بها، وحولوا البرامج التعليمية للغة الفرنسية. كان الجنرال ديغول يدافع عن فرنسية الجزائر لغاية عام 1959 حينما تبنى مبدأ تقرير المصير، لأن الشعب الجزائري لم يتقبل ذلك وحدثت العديد من الانتفاضات والثورات منها حركة عبد القادر الجزائري عام 1943، ثم ثورة التحرير الجزائرية بقيادة جبهة التحرير الجزائرية عام 1954. وحينما بدأت فرنسا تُفاوض الجزائريين على شروط الاستقلال، رفض المستوطنون ذلك وشكلوا الجيش الجمهوري السري عام 1961، وهو منظمة إرهابية حاولت الاستقلال عن فرنسا وتشكيل دولة عنصرية في الجزائر يديرها المستوطنون الفرنسيون، وليس السكان الأصليين. استقلت الجزائر بموجب اتفاقية إيفيان في 18 مارس 1962, ويوم الاستقلال 5 تموز 1962.

تجربة الأندلس تُحدثنا ايضاً عن حالة مماثلة، حيث فتح العرب والأمازيغيون المسلمون بقيادة طارق بن زياد وموسى بن نصير شبه جزيرة أيبيريا وهي جنوب اسبانيا، ونجحوا بتأسيس دولة إسلامية عربية هي الأندلس التي توسعت لتصل حدودها الى سويسرا، دامت لحوالي 800 عام من عام 711 لغاية عام 1492 ميلادي، إلا انه رغم كل الإنجازات الثقافية والعمرانية وبناء العديد من المساجد والقصور، إلا انها انتهت دون ان تحول اسبانيا لتتكلم العربية او تعتنق الديانة الإسلامية او ان تكون جزءاً من العالم العربي او الإسلامي.

مع كل هذه التجارب الاستيطانية الفاشلة، هناك تجارب استيطانية ناجحة لحد الآن، ولحد ما. من هذه التجارب الناجحة أستراليا ونيوزلندا وكندا والولايات المتحدة الامريكية، حيث فتح المغامرون والمكتشفون الاوربيون أراضي ما وراء البحار، نائية ولا يُعرف عنها شيئاً، ساعين الى الثراء والسيطرة على موارد اقتصادية غير محدودة. لم تكن الغاية من هذه الاكتشافات والمغامرات تأسيس دول مستقلة، لأن كل هذه الحملات كانت ضمن حملات عسكرية اقتصادية تبشيرية لخدمة التاج البريطاني والاسباني وغيرهم من الدول الاوروبية.

السؤال الذي يفرض نفسه هو لماذا فشل الاستيطان في الجزائر وجنوب افريقيا وروديسيا والاندلس، ونجح في استراليا ونيوزيلاند وكندا والولايات المتحدة الامريكية، وهو سؤال مهم كي نفهم من خلاله، هل أن الهجرة اليهودية المنظمة من أوروبا وعموم العالم الى فلسطين والاستيطان فيها وتأسيس كيان دولة اسرائيل هو أقرب للتجارب الناجحة ام الفاشلة؟

أولاً التجارب الناجحة لا يتجاوز عمرها كدول أكثر من ثلاثمئة عام وأقدمها هي الولايات المتحدة، والنجاح هنا مسألة نسبية قياساً بالتجارب الفاشلة، وهذا النجاح لم يكن يسيراً لأنه بُنيّ على حساب السكان الاصلين لهذه الأراضي المستكشفة قبل ان يكون لها أسماء دول، فعلى سبيل المثال أباد الاوروبيون البيض تسعون بالمئة من سكان القبائل الاصلين في القارة الامريكية والذين أطلق عليهم اسم “الهنود الحمر” لأنهم سُمر ويشبهون سكان شبه القارة الهندية أكثر مما يشبهون الاوروبيين البيض.

اعتقد ان من بين اهم أسباب النجاح هي ان السكان الاصلين لهذه الأراضي المستكشفة للاستيطان لم يكونوا قد وصلوا مرحلة تكوين المدن، وانما كانوا يعيشون على شكل قبائل منتشرة قرب مصادر المياه، يسكنون خيم على اراضي منبسطة لا توفر اي حماية تجاه الغزاة، وان الكثافة السكانية لحجم الأراضي الواسعة ضئيل جداً. بينما حيث فشل الاستيطان كان هناك تجمعات بشرية كثيفة متقدمة نسبياً ويسكنون مدن قابلة للدفاع عنها.

العامل الآخر في اعتقادي ان الاستيطان فشل في السيطرة على شعوب لديها تاريخ وحضارة ولغة ومعتقدات دينية تربط ما بين السكان وتجعلهم قوة موحدة تناهض الغزاة، فعلى سبيل المثال الجزائر لديها الكثير من المدن مثل مدينة الجزائر ووهران وعنابة وقسطنطينة وغيرها الكثير، وسكان هذه المدن تشتركون بتاريخ وعقيدة دينية ومشاعر قومية من الصعب صهرها في بودقة اقلية من جنس آخر حتى وان كانت مُهيمنة عليهم عسكرياً.

ونفس المنطق ينطبق على فشل تجربة الاندلس وان طال الاستيطان العربي الإسلامي ثمانمائة عام، لماذا؟ لأن سكان اسبانيا شعب متجانس نسبياً لديهم لغة مُشتركة ويعتنقون الديانة المسيحية الكاثلوكية والديانة اليهودية، لذا كان من الصعب تحويلهم للديانة الاسلامية او تغيير ثقافتهم ولغتهم الى العربية، وبذلك بقى العرب المسلمون طبقة فوقية حاكمة وليسوا من بُنات الأرض الاسبانية.

العامل الآخر هو مدى قساوة المستكشفين الغزاة في التعامل مع السكان الأصليين، فعلى سبيل المثال كما ذكرنا فإن المستكشفين البيض أبادوا تسعين بالمئة من الهنود الحمر في عموم القارة الامريكية وبالتالي لم يعد هناك شعباً كي يُقاوم، بينما ذلك لا ينطبق على تعامل الفاتحين العرب مع سكان اندلس اسبانيا، وبالتالي بقيّ المجتمع وقادته ومرجعياته الدينية والكنائس والمعابد اليهودية دون تحجيم مبالغ به، لذا استطاعوا ان يستجمعوا قواهم كي ينهو الوجود العربي الإسلامي من اسبانيا.

وفي الختام نأتي الى غاية هذا البحث، وهو هل ان الكيان الاسرائيلي على ارض فلسطين هو أقرب للتجارب الناجحة في الاستيطان ام الفاشلة منها؟ وإن كان الجواب على هذا السؤال ليس بهذه السهولة ولا يمكن ان يكون قطعياً، إلا انني اميل ان يكون ذلك من التجارب الفاشلة في الاستيطان كلياً او على الأقل جزئياً بناء على مُعطيات مستمدة مما تقدم.

مصادر القوة لدى الشعب الفلسطيني هي تاريخهم العريق في ارضهم لآلاف السنين، ولديهم اللغة العربية الموحدة وديانتهم الإسلامية والمسيحية وحتى اليهودية لسكانها الأصليين. والفلسطينيون لديهم مدن عريقة مثل القدس وحيفا ويافا وغزة ونابلس وبيت لحم والناصرة وطبريا وبيسان وصفد وعكا والخليل وغيرها، وهي مدن تاريخية قديمة وعريقة تحمل تراثاً غنياً ومعمارياً مزدهر بالجوامع والكنائس والاديرة والمعابد للأديان الثلاث. ومن المصادر الأخرى لقوة الشعب الفلسطيني هو الكثافة السكانية ونموها المتسارع رغم الظروف المعاشية الصعبة، مُضافاً لذلك قوة العمق الإقليمي للفلسطينيين باعتبارهم جزءاً من الشعب العربي والإسلامي، وما يمثله ذلك من الاسناد والدعم العسكري والمادي والسياسي والثقافي، إلا انه في اعتقادي ان العامل الأساس هو الرابطة الروحية للفلسطينيين بأرضهم ليس لأنها دولة ولكن لأنها وطن.

يقابل ذلك مصادر ضعف للفلسطينيين من بين ذلك عدم قدرتهم على التوحد سياسياً في جبهة واحدة مثل ما حدث في الجزائر وجنوب افريقيا مثلاً، واعتمادهم لحد كبير على المحيط العربي لإنقاذهم، وربما اكثر مما ينبغي، واستمرار الهجرة وخاصة الشباب نتيجة للظروف الصعبة، ووقوف الغرب بقوة وصرامة مع الكيان الاسرائيلي وتبريره دولياً على أساس حق الدفاع ومحاربة معاداة السامية.

أما مصادر ضعف الكيان الإسرائيلي فانه شعب غير متجانس لأن معظمهم مهاجرين من العديد من بلدان اوروبا والشرق الأوسط ويتكلمون العديد من اللغات وان كانوا يحاولون احياء اللغة العبرية ويبذلون جهداً واسعاً لنشرها وتلقينها حتى للعرب وان كان بعدة لهجات مختلفة. عامل ضعف آخر هو ان عقيدتهم الدينية متعددة ومتباينة وتتضمن طوائف متناحرة فيما بينها وان كانت موحدة في الظاهر تجاه الفلسطينيين.

إلا انه اهم مصادر ضعف الكيان الإسرائيلي هو اولاً اعتماده الكلي على مساعدة الولايات المتحدة وانكلترا والدول الاوروبية مالياً وعسكرياً وسياسياً، وفي حالة توقف او ضعف هذا الاسناد لأي سبب من الأسباب مستقبلاً، ستنهار اركان هذا الكيان. والاهم من ذلك هو عدم قدرة الكيان على إرضاء وكسب ود الشعب الفلسطيني صاحب الأرض والشرعية للعيش في بلد آباءه واجداده، وبالتالي يبقي شعباً يعيش معه ولا يتعايش معه بالتراضي، وبالتالي سوف لن يكون هناك تعايش سلمي بين السكان الأصليين وبين المهاجرين المستكشفين والمغامرين الذين يفرضون بقائهم على ارض مغتصبة بالقوة المفرطة.

وبالتالي فإن هذه التجربة الاستيطانية ديموتها ترتهن على قدرتها للتطور بأحد أتجاهين، الأول ان تتحول الى دولة مدنية موحدة غير عنصرية تضم كل الأديان من السكان الأصليين والمهاجرين مثل ما حدث في جنوب أفريقيا وروديسيا الجنوبية (زمبابوي)، او ان تتقبل حل الدولتين كما هو مقترح من قبل العديد من الدول، رغم الشك المُبرر في مصداقيتهم، وقبرص خير مثال على ذلك حيث هناك قبرص اليونانية وقبرص التركية وهناك سلام بين الجانبين عمره أكثر من خمسين عاماً، او حتى الولايات المتحدة الامريكية التي اتفقت مع قبائل السكان الأصليين (الهنود الحمر) وضمنت لهم حقوق ضمن مقاطعات أراضي واسعة تُعد خارج سيادة الولايات المتحدة وتتمتع باستقلالية معقولة.

محمد حسين النجفي
رئيس تحرير موقع أفكار حُرة

www.mhalnajafi.org
www.afkarhurah.com

شباط 2025

  

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

You have successfully subscribed to the newsletter

There was an error while trying to send your request. Please try again.

أفكار حُـرة : رئيس التحرير محمد حسين النجفي will use the information you provide on this form to be in touch with you and to provide updates and marketing.