أفكار حُـرّة : رئيس التحرير محمد حسين النجفي
صوت معتدل للدفاع عن حقوق الأنسان والعدالة الأجتماعية مع اهتمام خاص بشؤون العراق
“مسارات الحروف وكواليس الكتابة”
للدكتور خير الله سعيد
يقدمها: محمد حسين النجفي، كما قُدمت في منصة “زينب كحل الفردوس الثقافية” بعنوان:
المثقف مناضلاً: الدكتور خير الله سعيد أنموذجاً
كما نُشرت في موقع المثقف
يأخذنا التفكير والانبهار عندما نقرأ لـ “يوميات كاتب في المنفى ضمن مسلسل “مسارات الحروف وكواليس الكتابة” للدكتور خير الله سعيد، حيث انني لم أجد كاتباً وما اكثرهم، ولم أرى سياسياً، والكل يثرثر في السياسة هذه الأيام، انما تعرفتُ على طفلاً تغذى من الرزق الحلال ومن بساطة العيش، وتربى في بيئة متواضعة مادياً، غنية اخلاقياً، متفوقة على نفسها وعلى من حولها في الكد والجهد والإنجاز. رأيتُ طفلاً طموحاً ومراهقاً كادحاً وشاباً ملتزماً ورجلاً عصامياً، شق طريق حياته بأيادي عامل البناء الخشنة، وزينها برسوم زاهية مخطوطة بأنامل ريشة خطاط محترف.
حضرت العديد من ندوات الزوم وعلى عدة منصات وتعرفت فيها على الدكتور خير الله سعيد والدكتور محمد عبد الرضا شياع ومجموعة واسعة من المثقفين. لفتت انتباهي مداخلات دكتور سعيد في كل الندوات رغم اختلاف مواضيعها، وتباين مقدميها. رجل ذو معلومات واسعة وذاكرة ذكية وفطنة للتفاصيل التي تطرح امامه. مداخلاته تبدأ وتنتهي بإيجابية صادقة، مع إضافة بُعد ورؤيا ذو قيمة ودلالة للمحاضر ولموضوع المحاضرة. كنت ولا زلت انتظر ما يقوله كاتبنا “السعيد” في محاضراته ومداخلاته وفي الأسئلة التي يطرحها ويسميها “إشكاليات”.
سحرتني من سيرته في مسارات الحروف بداياته، نعم تأثرتُ كثيراً بطفولة ونشأة كاتبنا، التي ميزتها قدرات غير طبيعية وصفات شخصية مكنته من الوقوف بوجه كل الصعاب وتجاوز كل المعضلات، لم يتردد لبدء اول يوم دراسي في ان يذهب للمدرسة حافي القدمين، لأنه ببساطة لا يملك حذاءً، ولم تثنيه قساوة احد معلميه، الغير طبيعية والتي أحس فيها الطفل خير الله انها لم تكن إلا لأسباب سياسية وطائفية ومناطقية، لأنه كما يقول “شروكي” ومن منطقة الشاكرية التي قاومت حركة 8 شباط عام 1963 الدموية، رغم ان “خير الله” كان طفلاً حينها وربما لحسن حظه، ولو كان شاباً، لكان مصيره مثل مصير رفاقه مقتولاً او مسجوناً أو مشردا.
كان الصبي خير الله يبحث عن حلول وعن سُلمٌ للإرتقاء، فكان يُعاني من تلعثم في الكلام خاصة في الكلمات التي تبدأ بحرف الألف، وتعرض للإهانة والضرب من معلميه بسبب ذلك، الى أن نصحه أحد المعلمين الأفاضل، بأن يحفظ الشعر المقفى ويقرأه بصوت عالي وسيتخلص من التلعثم في النطق. فبدل ان ينكسر الصبي “خير الله”، وينطوي على نفسه، حفظ المعلقات السبعة عن ظهر قلب وتخلص من عقدة اللسان.
كما قُلت كان يبحث عن سُلم للرقي، فحينما سمع أحد زملاءه يُلقي قصيدة “أبو القاسم الشابي” في الطابور الصباحي، اعجبته وصادق ذلك الطالب وجعل هذا البيت للشابي مفتاحاً مبدئاً لسيرته أخلص له طيلة حياته:
“خُلقت طليقاً كطيف النسيم وحُراً كنور الضحى في سماه
فما بالك ترضى بذل القيود وتحني لمن كبلوك الجباه”
وتستمر الحياة مع الصبي ليتعلم الخط العربي ويتقنه على يد أشهر خطاطي العراق “هاشم الخطاط”، الذي نصحه حينما رأه متواضعاً اكثر من اللزوم، بأن: “احفظ كبريائك على الدوام”. واستمع الى الدكتور مصطفى جواد وبرنامجه الإذاعي “قل ولا تقل”، وبرنامج “الندوة الثقافية: للدكتور سالم الألوسي وضيفه الدائم د. مصطفى جواد، الذي زرع في نفسه نزعة موسوعية تركزت على تاريخ بغداد في العصر العباسي، وعلى دور “الوراقين” في نشر المعرفة، التي حققها بعد أكثر من ثلاثين عاما.
واستمر في قراءة يوميات كاتب من المنفى، وارافقه وانا اقرأ في رحلة مناضل من مناضلي ما كان يُسمى الزمن الجميل، لأكتشف معها معنى المواطنة عند ذلك الجيل وقيمة الوطن الذي يُعلى ولا يُعلى عليه، وقدرة ذلك الجيل في العطاء الذي لا حدود له، حتى لو كان بضمنها التضحية بالحياة. ان ما يتعرض له الجيل الحالي في العراق او في الوطن العربي، من ظلم واضطهاد، وهو ليس بالقليل، إلا انه لا يقارن لما تعرض له خير الله الطفل، وخير الله الصبي وخير الله الشاب وخير الله الرجل، من ضيق مادي وعوز معاشي واضطهاد طبقي وتعسف وظلم سياسي وصل لحد الحكم بالإعدام، وكلها متلازمة وفي آن واحد، ومع ذلك صمد وصمد وشق طريقه نحو العلى دون ان يذعن او يهادن او ان يساوم على حساب مبادئه. وحينما اضطر لمغادرة وطنه مُرغماً لا مخيراً، لم يأخذ معه من الزاد سوى وصية اخته الكبرى “شلتاغة” التي قالت له باختصار: “اسمع خويه، إنت طالع لديار الغربة، وبعزمك وبإرادتك، يا إما ترفع راسنا، يا إما تعود الآن”، والشواهد تقول انه ظل اميناً لوصية اخته الكبرى.
لذا انني حينما فتشتُ في كواليس ودهاليز الكتابة للدكتور خير الله سعيد لم اجد كاتباً او سياسياً او اكاديمياً او باحثاً، انما وجدتُ مناضلاً، ليس بالمفهوم السياسي فقط وانما مناضلاً سياسياً ذو مبادئ حافظ عليها واعتبرها اعلى من الانتماءات الحزبية، ومناضلاً في سبيل لقمة العيش منذ الطفولة وربما لحد يومنا هذا، ومناضلاً في سبيل الثقافة وبالأخص ما يهم وطنه وتراثه وبغداده التي يُعلّي من شأنها دائماً في بحوثه واستنتاجاته العلمية المرتكزة على مصادر نادرة، اقتناها بالدراهم الأولى حينما عمل كل يوم جمعة عامل بناء، وحينما اشترى مجموعة “مُعجم الأدباء- لياقوت الحموي-20 مجلداً”، اشتراها بكل ما لديه 1500 ليرة سورية بدل ان يدفع ايجار سكنه، غير مبالياً من نتائج عدم دفع الإيجار.
ناضل في سبيل مبادئ آمن بها ودافع عنها وتعرض لاحتمال ان يُعدم كما أعدم صديقه، والعديد من رفاقه، إلا انه لم يساوم لا مع خصومه ولا حتى مع رفاقه الذين اختلف واختلفوا معه في المسيرة رغم الإيمان بقضية واحدة.
الدكتور خير الله سعيد حياته زاخرة في السعي والجهد المتواصل في القراءة والبحث، كان من المواظبين يومياً ولمدة عشر سنوات للجلوس والقراءة والبحث في مكتبة الظاهرية في شارع سينما الحمرا بدمشق، ليجلس مساءاً منفرداً في صومعته للكتابة في مواضيع أفنى حياته في دراستها، التراث والفلكلور العراقي خاصة في العهد العباسي.
علاقاته الثقافية والسياسية واسعة جداً: يعتبر نفسه تلميذاً للراحل هادي العلوي، ومستمعاً جيداً لمصطفى جواد، ومتدرباً على الخط العربي تحت اشراف الخطاط هاشم البغدادي. تعرف شخصياً على النقابي العمالي العراقي النشط في ستينات وسبعينات القرن المنصرم “هاشم علي محسن” الذي كان ايضاً رئيساً لتحرير الجريدة الأسبوعية الناطقة باسم نقابات العمال العراقية والتي منح فيها فرصة لليساريين للكتابة فيها، وكنت انا احد قراءها، ومن الشعراء الفلسطينيين التقدميين محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زيّاد، ومن المثقفين السوريين توفيق سلوم وميشيل كيلو وناجي علوش، ومن القادة السياسيين نايف حواتمة وجورج حبش، ومن الشعراء العراقيين شاكر السماوي وعزيز السماوي وعريان السيد خلف ومظفر النواب، وما هذه إلا امثلة قليلة من العلاقات التي اثرت عليه وأثر عليها.
أقول للدكتور خير الله سعيد: أيها المثقف الموسوعي الكبير، إن امكانياتي الأدبية المتواضعة لا يمكنها ان تعطيك حقك في التقدير والثناء، ولكني أرى مشتركات بيننا غير مقصودة رغم انني أكبر منك عمراً، ففي الوقت الذي كنت تتعرض لاضطهاد لأنك من الشاكرية، كان صاحُبك “المناضل الصغير”، على الجانب الآخر من نهر دجلة، معتقلٌ يُحقَق معه في دهاليز وبيوت غير مُعلمة للحرس القومي للتحقيق معه، وكنا نسمع وقع وصدى رصاص المقاومين ببطولة للانقلاب الفاشي عبر اثير نهر دجلة، من محلة الكريمات ومنطقة الشاكرية المناضلتين.
وحينما اشتريت كتاب للشاعر النجفي “حسين القسام”، كنت انا قد حضرت استعراض مسرحي في أحد الأعراس النجفية، يُقدمها المنلوجست النجفي الرائع “صادق القندرجي” ومُعظم مواد الاستعراض كانت للشاعر والناقد الاجتماعي “حسين القسام”، وكان الإثنين يكملون بعضهما.
اما تسوقك من مكتبة التحرير في الباب الشرقي، فكانت مصدري لشراء الكتب ايضاً، إلا إنك رغم عُسر اليد اشتريت كتابين مرة واحدة، وانا مع يسر اليد كنت بخيلاً لا اشتري عادةً أكثر من كتاب واحد.
قصيدة رمدة الشمس وصلت الينا نهاية الستينات، على أثر انتكاسة حركة الأهوار ومجزرة “الغموكه”، مكتوبة بحبر بخط اليد على ورق خفيف لصنع الطائرات الورقية، وقيل لنا عند الضرورة والمداهمة يمكنكم بلعها. نعم قُدمت الينا باعتبارها للراحل مُظفر النواب ولا لأحد غيره، والتي علمنا لاحقاً انها للشاعر جودت التميمي، ومطلعها:
رمدة الشمس ومعصبات إعيونها بغيم الكِدر
ردْ للسَلف، خبُر زلمنـــــا الما وصل منهم خبر
في الختام أقول للدكتور خير الله سعيد: ان تجاربك واسعة في الحياة، قراءاتك لا حدود منظورة لها، بساطتك وسلاستك ومحبتك للآخرين ونتاجاتهم مُشجعة ومحفزة دائماً. إنك موسوعي وناقد وشاعر وباحث من طراز خاص، ميزتك إنك تكتب للمثقفين فتبهرهم، وتكتب للعامة فتثقفهم وتُسليهم، وهي ازدواجية صعبة الاحتواء، فمعظم الكتاب يسعون إما للوصول للقارئ المثقف، او للمواطن العادي الذي يقرأ للاطلاع والاستمتاع.
ومع ذلك، وللأسف أقول مع ذلك فإن الدكتور خير الله سعيد لم ينل حقه في التقدير والتكريم او التقييم او الأسناد او النشر سواء من الجهات الرسمية الحكومية مثل وزارة الثقافة او من الجامعات ومراكز البحوث ذات الاختصاص او من المراكز المهنية مثل اتحاد الأدباء او غيره، على مدى الحكومات والظروف المتعاقبة، وان هناك من الأدباء من نال الدعم وحصل على الشهرة، لا لإنجاز قدموه ولا لتضحية مشهودة لهم، وانما لوصوليتهم وانتهازيتهم كونهم جلساء السلاطين ومداحي المتنفذين. الدكتور خير الله سعيد مشروع ثقافي وطني لا بد من تعضيده للوصول الى نتائج مضاعفة لهذا الجيل والأجيال المقبلة، وللأسف نكتشف في قراءتنا لـ “مسارات الحروف وكواليس الكتابة” ان هناك مجموعة كبيرة من نتاجه مكتملة وباقية على شكل مخطوطات، بانتظار من يطبعها، وهذه امثلة لبعضها:
استاذنا خير الله سعيد، إني سعيد بمعرفتك وسأقرأ لك أكثر وأكثر، فإنك كريم في غزارة نتاجاتك، ونحن بخلاء في متابعة كتاباتك وإنجازاتك الإبداعية خاصة ما يخص التراث والفلكلور العراقي.
15 حزيران 2023
#خير_الله_سعيد #افكار_حرة #محمد_حسين_النجفي
اي شيء يكتبه المبدع يكون جميلاً فكيف اذا كتب عن الابداع و الحب و الجمال. من الشخصيات التي سعدت جدا بالتعرف عليها من خلال الصالون الثقافي العراقي شخصية المثابر البغدادي الرائع التي يفوح عطرها من جذوره الجنوبية الاصيلة شكرا استاذنا العزيز محمد النجفي لتدون جزء من سيرة شخصية انسانية رائعة لا ارى طريقا لاعطائها حقها او شكرها. ندعو الله له و لكم بالصحة و العافية و دوام النجاح. اخوكم محمد قاسم رشيد.
حبيبي ابو كرار، يجب ان نعطي الرجال حقها، فما بالك بإبي سعاد، الذي يستحق اكثر من هذا بكثير.
شكراً عزيزي حجي رؤوف. مشتاقين جداً
دائما أستاذنا النجفي تتحفنا بسردك الجميل لقصة لولاك لما كانت او تكون لأنها جائت من رحم المعاناة للرسد القصصي المتراكم في خزانة فكرك الوهاج.
تحياتي واشواقي لشخصكم الكريم الندي.