أفكار حُـرّة : رئيس التحرير محمد حسين النجفي
صوت معتدل للدفاع عن حقوق الأنسان والعدالة الأجتماعية مع اهتمام خاص بشؤون العراق
وعلى الرغم من اعتراض اهلي الا انني قررت الخروج والذهاب من الكرادة الشرقية الى مركز بغداد. وانتهى بي المطاف في الباب الشرقي حيث كان هناك الكثير من الناس متجمعيين قرب محطة باصات الأمانة كرادة داخل، وكان ” مجيد الراضي” يقرأ بيانا من الحزب الشيوعي على جمهور حوله وعلى شاكلة الثورة الفرنسية بكل حماس وغضب على ان ” الى السلاح لسحق المؤامرة الاستعمارية الرجعية………….”. كنت اعرف الخطيب حيث كنا موقوفين معا في القلعة السادسة من الموقف العام وبنفس القضية في صيف عام 1962.
الى السلاح ، ومن اين يأتي السلاح. منذر الونداوي يقصف الدفاع من الجو، ودبابات التآمر تزحف على بغداد وبوادر ميليشيات البعث ( الحرس القومي) بدأت بأحتلال ومحاصرة مناطق حساسة في بغداد. بعد ذلك سمعنا كيف ان الزعيم رفض تسليح الجماهيرالتي ذهبت الى وزارة الدفاع للذود عن ثورتهم وللأسف اعتبر نفسه هو المسوؤل عن حماية الثورة وليس الشعب.
عند الظهيرة، عبرت قوات عسكرية من ذوي البيريات الحمراء جسر الجمهورية وتمركزوا عليه. وكان الجميع في ساحة التحرير يسمعون الأذاعة بأنتظار تغيير يحدث وتذاع بيانات مضادة ولكن لم يحدث ذلك. وبقينا على هذه الحال بأنتظار السلاح او تعليمات ولكن لم يصلنا اي شئ بعد البيان الأول.
وتدريجيا بدأت التجمعات البشرية تقل نتيجة يأسها وسماعها بيانات منع التجول. ذهبت الى احد الجنود من ذوي البيريات الحمراء وسألته ان كانوا مع الأنقلاب ام مع الزعيم؟ فقال اذهب الى بيتكم فإن هناك منع تجول. وعندها ايقنت انهم مع الأنقلاب وانهم الفرقة المظلية الرابعة بقيادة عبد الكريم مصطفى نصرت الضابط البعثي المعروف.
واخذت المشي بأتجاه سينما السندباد. واخذت نفرات كرادة خارج متجنبا كرادة داخل الذي تصورت انه سوف تكون به مضايقات. وكانت سيارات كرادة خارج تمر عبر الشارع الوسطي لعرصات الهندية. وحال مرورنا من بداية العرصات رأينا مجموعة من المدنيين يحملون رشاشات ووضعوا على ايديهم يافطة خضراءعليها حرفين ( ح ق) مختصر حرس قومي. كان هؤلاء من المجموعة التي طوقت بيت الشهيد العقيد فاضل عباس المهداوي، محاولة اغتياله ومنعه من الخروج للدفاع عن الثورة. الا انه خرج واقتحم الطوق وذهب لوزارة الدفاع واستشهد لاحقا مع ابن خالته ورفيق دربه الزعيم عبد الكريم قاسم. كنت اعرف عائلة المهداوي لأنه كان لي شرف التعرف على ابنه مناضل المهداوي الذي كان زميلا وصديقا منذ الصف الأول في المتوسطة الشرقية ولحد الآن. وكان لي شرف التعرف على الشهيد وعائلته المتواضعة حينما نلتقي في بيتهم بعض الأحيان.
لقد كنت في الصف الرابع ثانوي في الثانوية الشرقية في الكرادة الشرقية اي انني كنت طفلا او مراهقا في عمر الخامسة عشر عاما، حينما بزغ علينا هذا الفجر الأسود ، فجر 8 شباط عام 1963. فجر اسود ويوم أسود وتسع شهور سوداء كالحة مخضبة بدماء أشرف العراقيين. وفي مساء يوم 9 شباط ضاعت كل الآمال بأحتمال فشل المؤامرة حينما شاهدنا الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم جالسا على كرسي في استيدوهات الأذاعة العراقية في الصالحية فاتح العينين متحدياً غير متخاذلاً، وهو مرمياً برصاصات الغدر والخيانة من قبل من اعفى عنهم، واذا بعريف تافه يبصق على وجه الزعيم السمح المتواضع الخجول. وكان مشهدا مروعا حيث ان المهداوي كان في الأرض غارقا بدماءه وضباط آخرون مقتولون بشكل همجي وبطريقة بدائية. والأدهى من ذلك يعرضون ذلك على شاشات التلفزيون بكل فخر واعتزاز. كانت صورة الزعيم جالساً بكل هيبة فاتحاً عينيه متحديا المتآمرين عليه دلالة على كبريائه وعدم اذلال نفسه امام هؤلاء الخونة. إلا انه مع ذلك كانت نهاية الأحلام الكبيرة وبداية الكابوس الأبدي الذي مازال يعاني منه الشعب العراقي.
كذلك سمح وساهم البرزانيين وحزب البارتي بأضطهاد الحزب الشيوعي وهو الحزب الوحيد الذي يؤمن بعدالة المطالب الشرعية للشعب الكردي والتي اشغل نفسه دفاعاً عنها واعتبرها من القضايا الأساسية والتي كانت من القضايا الرئيسية التي اختلف فيها مع الزعيم .
وكذلك قام الفلسطينيين بتأييد الأنقلاب والأنخراط بصفوف الحرس القومي، علما ان العراق وبأمر من الزعيم كان البلد المؤسس للجيش الفلسطيني، وخصص العديد من المقاعد في الكلية العسكرية العراقية للفلسطينيين لتخريج ضباط ليكونوا نواة هذا الجيش.
وبعد عدة ايام وبعد رفع منع التجول في ساعات النهار، صدرت الأوامر عن طريق الراديو بعودة الموظفون لوظائفهم والطلاب الى مدارسهم. وما كان علي الا ان اذهب الى مدرستي الى الثانوية الشرقية التي كانت لها حكايتها في احداث اضراب الطلاب الذي استخدم للتمهيد للموآمرة الكبرى على العراق. وصلت باب المدرسة وكانت الباب مغلقة ويقف خلفها حفنة من الطلبة بقيادة طالب ( الأكرط) وهو أخ زوجة حسن العامري عضو القيادة القطرية للبعث والذي اصبح وزيرا للتجارة لاحقا . فتح طالب الأكرط باب المدرسة وبيده خنجر موجه الى وجهي وقال “هلا شوفوا منو اجه وصاح ألزموه”، واذا بي ارمي كتبي بوجهه الكالح واهرب بأتجاه كرادة داخل ثم يسارا في اول شارع فرعي ثم يسارا مرة ثانية بأتجاه كرادة خارج وكان الشارع فارغا من المارة موحشا وكل الأبواب مغلقة شعرت فيه برهبة الوحدة واللاقوة وبدأت اسمع صوت سيارة تقاد بسرعة جنونية وينزل منها اربعة من عتاد الطلبة وانهالوا علي لكما وركلا وكلمات حقد دفين والفاظ بذيئةغير مبررة لزميل لهم اختلف معهم في بعض الآراء.
اخذني هؤلاء الابطال الاشاوس الى نادي النهضة الرياضي الذي اضحى مقر عمليات للحرس القومي وهي ميليشيات مسلحة معظمهم من شباب البعث منحوا انفسهم صلاحيات دستورية وقضائية وامنية. سلموني اليهم وكان في الباب ايضا بعض من طلاب الشرقية الذين احسنوا الترحيب بالشتائم الرخيصة. وكان نادي النهضة معروف بأنه واجهة لتنظيم البعث في منطقة البوشجاع كرادة داخل وكان عبارة عن ساحة كبيرة منخفضة عن مستوى الشارع العمومي وبعض الغرف للأدارة وطلبوا مني الأصطفاف مع الأخرين من هم من مثلي والذين ميزت بعضهم آن ذاك. وكان هناك مذياع ومكبرات صوت تنقل مافي اذاعة بغداد من بيانات ما يسمى بمجلس قيادة الثورة واعلانات الأعتقالات والأعدامات بشكل مستمر وموتور وكان يسمع منهم صوت قاسم نعمان السعدي ومذيع فلسطيني اسمه …توفيق وآخرون.
وبين الحين والآخر يقطع الصوت ليقول المذيع المحلي في النادي انه اذا استطاع اي موقوف او محتجز من اي يحصل على تزكية وكفالة من شخص معروف لديهم (اي بعثي) فمن الممكن اخلاء سبيله بهذه الكفالة.
ثم جاء سيد هاشم الموسوي وكان مسؤول البعث في الثانوية الشرقية وكان مسجونا واطلق سراحه بعد 8 شباط واتجه نحوي وكان يضع يشماغ على رقبته والحماس بادي عليه ونظر نحونا ورآني وهز برأسه هزة ذات معاني خلاصتها اننا انتصرنا وانتم خسرتم. المهم اتجه نحونا وطلبت منه ان يتكفلني بأعتباري زميله في الدراسة، وكان جوابه اترى ذلك الشخص انه اخي وهو موقوف وسوف لن اتكفله لانه شيوعي مثلك ورحل. وكنت اعرف اخاه كان خياطا في البوشجاع ومعروف بآرائه التقدمية.
انتهى النهار واظلمت الدنيا علينا وبدأ القلق يساورني أكثر وفكرت بأن اهلي ربما عرفوا الأن ما حدث لي وعسى ان يفعلوا شيئا. وفعلا عند المساء جاء حسين حبيب المهداوي الملقب بحسين الأعور وكان صاحب محل بقالة مقابل مدرسة الحرية الأبتدائية في سبع قصور كرادة داخل. وكان اخوه أكرم حبيب المهداوي عضو فرع بغداد بحزب البعث ويسكنون في شارعنا في سبع قصور. المهم تكفلني وكنت مستغربا كيف حدث هذا. واخذني بسيارته واوصلني الى البيت وتلقتني امي المسكينة وهي تنظر الي بشموخ وكبرياء وفخر. ولكني كنت ارى الخوف والقلق والألام في داخلها. أما ابي فلم يقل شيئاً وكان لايطفئ سيكارته الا بأخرى مثلها. اما انا فقد احسست بعمق الكارثة من انها ليست انقلاب ضد الزعيم وان عبد السلام اصبح رئيسا وانتهى الموضوع. كلا انها عملية تصفية جسدية وفكرية وحضارية لكل ما حدث بين 14 تموز عام 1958 و8 شباط 1963. وعلمت يقينا من ان القادمات اهول واتعس وقصة كفالتي هذه سوف لن تشفع لي كثيرا. وسألت والدي كي استطعت اقناع ابو علي كي يتكفلني فقال ان حسين سبق وان عمل عند جابر البزاز وحدثت له مشاكل معهم وتوسطت له وساعدته وهو يرد الجميل.
وفي هذه الأثناء جاءوا بصديقي وزميلي مناضل المهداوي والتقت عينانا ومنحنا بعضنا البعض نظرات دعم معنوي من اننا على حق على الرغم من هذه الأنتكاسة البشعة، وكان يبدوا عليه الأتزان والصمود والكبرياء، على الرغم من انهم قد عرضوا صور اباه فاضل عباس المهداوي رئيس محكمة الشعب، على شاشات التلفزيون مقتولا بشكل وحشي ووجهه مخضب بالدماء.
هذه المرة جاء شخص آخر يوزع الماء علينا وعلى كتفه رشاشة، وجلس الى جانبي وقال لي انني اعتقد ان الأتجاه الصيني افضل من الأتجاه الروسي وبدأ يداعبني بحديث ثقافي حول الأفكار العالمية والخلاف العقائدي بين روسيا والصين، ورأيت نفسي اناقشه في مواضيع عدة. وفي النهاية نهض وقال لي حينما قالوا لي بأن اسمك جاء ضمن الأعترافات وانك عضو هام لم اصدق، ولكن من خلال حديثي معك الآن اصدق وضحك وتركني. علمت بأن هذا الشخص كان صلاح عمر العلي التكريتي عضو القيادة القطرية ومسوؤل قاطع الكرادة الشرقية عام 1963، والذي اصبح عضو القيادة القطرية وعضو مجلس قيادة الثورة ووزير الاعلام بعد انقلاب 1968.
عند ذلك اخرجوني من غرفة التحقيق الى النظارة مرة اخرى. ومنذ ان قال لي صلاح التكريتي بأن هناك اعتراف عليّ ولعلمي ان ماذكره حول موقعي في التنظيم كان صحيحا، كان شغلي الشاغل هو كيفية التعامل مع هذه الأعترافات دون كشف ماهو غير معلوم ودون الحاق اي ضرر بالآخرين او التنظيم. وبعد منتصف الليل جاؤوا بأحد زملائي واوقفوه امامي وقالوا له هل تشهد بكذا وكذا؟ قال نعم . هل ان محمد كذا وكذا؟ قال نعم. نظرت الى زميلي وهو بالبجامة والروب، ويرتجف من الخوف والرعب وأشفقت عليه وعلى نفسي وكنت على وشك ان اعتذر منه لما سببته له من أذى في هذا الليل المقيت. وسألوني ان كنت اريد شاهدا آخر فقلت كلا لأنني لا اريد ان يرعبوهم ويرعبوا اهلهم في هذا الليل البارد الرطب الثقيل.
وهنا ادخلوني الى غرفة التحقيق مرة اخرى وسألوني هل اوافق على ما قاله زميلي من اني كذا وكذا ؟ قلت نعم . وهل انك مسؤول عن آخرين؟ قلت كلا .هل تعرف تنظيمات اخرى في الشرقية؟ قلت كلا. وهنا سألني جاسم البحراني لماذا اصبحت شيوعيا وليس بعثيا؟ فكرت وقلت لنفسي سوف لن اقع في الفخ مرة اخرى واجبت بسذاجة من انني كنت اتصور انكم تريدون تسليم العراق لمصر، وهنا انتفض جاسم وقال: “انتوا خطآنيين كل عقلكم احنه نتعب ونسلمة لمصر”. وطلبت منه اذا انتهى التحقيق اريد الذهاب الى اهلي. فقال جاسم يجب ان تقدم براءة من الحزب كألاخرين كي يطلق سراحك. فقلت له هذا لا يمكن وقال لماذا قلت لأنها اهانة شخصية وعلى اية حال كان هناك صراع انتهى بأنتصاركم وكل شئ مكشوف لكم الآن واني اعدك بأني لن اقوم بأي نشاط سياسي. وألح علي جاسم بكتابة البراءة فرفضت وتحججت بأنها اهانة شخصية ولا دخل لها في السياسة. واثناء ما كان هذا الحوار المخيف محتدم واذا بأصوات عالية تلعلع من انهم قبضوا على فلان لا اتذكر اسمه وبدأ نوع من الفوضى او الأحتفال وصاح جاسم بأحد الحرس ان يأخذني الى البيت وكان الوقت في حدود الساعة الثالثة بعد منتصف الليل وكان هناك منع تجول وكنت في سيارة حرس قومي واوقفونا عدة مرات الى ان وصلت البيت.
وحال وقوف السيارة امام منزلنا رأيت نور سيكارة ابي من وراء الستائر، حيث ان غرفة نومهم تطل على الشارع. وانهم مازالوا ينتظرون ابنهم البكر كي يعود. نعم عُدت ولكن لم اعد نفس الشخص الشامخ المتكبر الواثق من نفسه. لقد كسرونا واذلونا وحطموا معنوياتنا. ولكنهم ليسوا على حق ولم نكن نحن على باطل. ومع اني كنت فخورا بنفسي من انني لم اعطي براءة ولم اكشف اية معلومات تنظيمية، الا انني كنت اتمنى ان لا اوافق على اعتراف الأخرين، وكنت اشعر بالذنب لأني مازلت على قيد الحياة ويستشهد الأخرون. كان ابي في حالة هلع بادية عليه ولم يستطع قول اي شئ. اما امي فكانت تحضنني وتشد ازري وخائفة عليّ ليس منهم وانما من نفسي. ولذلك أخفت خوفها ولم يلمني احد على شئ ولم يقولوا لي لماذا عملت هكذا بنفسك وبنا؟ وهذا شئ لم استطع فهمه بالكامل لحد الآن.
طبعا علمت ان عملية اطلاق سراحي تمت بوساطة أبو علي مرة أخرى. وبما انني اعلم من انني لم اعترف بشي سوى قبولي لما قاله زميلي في اعترافه، وبما انني اعلم ان هناك الكثير ممكن ان يكتشف وان الأمور لا نهاية لها، بدأت بحملة لتنظيف البيت من كل الكتب والكراريس والصور والمناشير الموزعة والمخبئة في عموم ارجاء البيت، فولعنا الحمام وكانت حملة مخجلة لأننا نحرق الثقافة بدل ان ننشرها. الا انها ضرورية وحرقت ما يزيد على ثلاثين كتابا ومئات الممنوعات. وقررت ان ابتعد عن اصدقائي وزملائي كي لا اعرض نفسي او اعرضهم لأي خطر. وبعد ايام ذهبت الى المدرسة محاولا تجنب المشاكل. ولكن حينما رآني بعض البعثيين لم تعجبهم عودتي اطلاقا. المشكلة الكبرى هو ان الكل يأتي اليّ يسألني ما الذي حدث لك؟ ما هو الجديد؟ وما ألعمل؟ وكنت احاول ان افهمهم ان عليهم الهدوء لفترة ولكن لم انجح واتذكر منهم الزميل فريد قرياقوس الذي كان في شعبتي وكان طيبا وملحا لدرجة خطيرة، ويريد ان يفعل شيئا غير عابئ من العواقب.
وبعد عدة ايام سحبني سيد هاشم الموسوي من الصف وكان مسؤول البعث في الشرقية، وجاء بزميلي وهو نبيه خضر، وطلب منه ان يعترف، وطلب مني ان اشهد عليه، ولكني انكرت وانكر نبيه ارتباطه في الحزب وهددنا سيد هاشم بأن يأخذنا الى الحرس القومي والتحقيق معنا، ومع ذلك انكرنا، واخيرا طلبت من سيد هاشم الأنفراد للحديث مع نبيه فوافق وقلت لنبيه انه لا اعتراف عليه وعليه ان ينكر والا ستسمر الاعترافات، واتفقنا على ذلك. وعدنا الى سيد هاشم وقلت له ان نبيه يقول انه لا علاقة له وانا اصدقه، ونحن زملائك في المدرسة وتحت رقابتك وحمايتك فماذا سنفعل؟ ولماذا تريد ان تعاقبنا؟ واخيرا القى علينا محاضرة تهديدية وتركنا.
كنت التقي مع سامي بعد المدرسة، واتجول في عرض الكرادة وطولها بأستخدام الدراجة الهوائية. ولم يلقوا القبض على سامي لانه لم ياتي الى المدرسة وكان يسكن في بيت جده وليس في بيت اهله. وكانت تأتي معلومات اليه من خلال خط النساء، ولكن كانت المسألة تضعف كل يوم نتيجة الأعتقالات التي شملت خط النساء ايضا.
وبعد 8 شباط تم اطلاق سراح كل البعثيين الذين كانوا في المعتقل والمشاركين في اضراب الطلبة. والغريب هنا انه تم اطلاق سراح بعض زملائنا المعتقلين قبل الأنقلاب عن طريق الخطأ، ومنهم حبيب عمران وهادي منتظر وبهاء وغيرهم. واتصلت بحبيب وبقى في البيت كي لا يعلم احد بأطلاق سراحه. والسبب على مايبدوا انه اطلق سراحهم، لانهم اساسا اعتقلوا بوشاية على انهم من منظمي الأضراب وليس من معارضيه.
كنا نرى بعض القادة على شاشات التلفزيون ممن انهارت قواهم امام هول التعذيب وكان عدنان جلميران اكثرهم تجريحا وايذاءا. وكان يوم 9 آذار يوم اعلان استشهاد سلام عادل وحسن عوينة ومحمد حسين ابو العيس اكثر الأيام حزنا وارتباكا وضعفا ، وفي نفس الوقت كان يوم شرف واعتزاز وكبرياء لأنهم والجميع يعلم استشهدوا تحت ابشع انواع التعذيب ولم يخذلوا الوطن والقضية. وعلى الرغم من الخسارة الكبيرة بأستشهاد سلام عادل ورفاقه، الا انها رفعت رأسنا وعلت معنوياتنا ومنحتنا الثقة مجددا بالحزب والقيادة.
وفي الأيام التالية عرضت موضوع السفر على سامي وحبيب ووافق الأثنان على السفر واخذنا منهم صور شمسية وذهبنا الى مكتب في شارع الرشيد قرب سوق الصفافير. وبعد عدة ايام تم تسليم الجوازات، ودفع سامي المطلوب الا ان حبيب سافر دون ان يودعنا او يدفع المبلغ. وهذا ما احرجنا مع اناس من هذا النوع وانتهينا ان اعطيناهم ما نستطيع تجنبا للمشاكل!
وطبعا فإن الكل يعلم بأن مدير الثانوية الشرقية يونس الطائي كان متعاوناً مع الامن. وكان يبعث بأسماء شباب أتحاد الطلبة على اساس انهم من القائمين بأضراب الطلبة الذي سبق 8 شباط الأسود. وبموجب ذلك تم اعتقال مسوؤل الشرقية حبيب عمران، ومهدي منتظر وبهاء . وكان اسمي في القائمة حيث اخبرني الزميل والصديق حكمت بأنهم اعتقلوا زميل له في الشعبة اسمه محمد حسين بدلا عني عن طريق الخطأ وهو لا يتدخل في السياسة ابدا. واوصاني بأن اكون حذرا. وكان المدرس علي الشديدي من البعثيين المعروفين في منطقة الزوية . وكان من جانبنا الأستاذ عادل الياس خريج علوم وكان في مرحلة التطبيق، وكذلك الاستاذ علي مدرس الجبر الذي كان منقول سياسيا من الكاظمية، والأستاذ عبد الجبار عبد السادة والهرزي وانطوان القس . وبعد شباط الأسود تعرضوا جميعا للأعتقال بينما ترقى علي الشديدي ليصبح معاون المدير ثم مديرا عاما في التربية.
كنت انتظرانتهاء السنة الدراسية بفارغ الصبر كي اتخلص من عيون اللئم والنظرات الخبيثة من قبل البعثيين الذين كانوا يبالغوا بشماتتهم فينا ومضايقتهم لنا. كذلك كان من الصعب تجنب الزملاء الذين يلحون بالتسائل والأتصالات ولا يقدرون ان الظروف قد تغيرت كليا. لقد اصبح زملائنا الذين نختلف معهم في الرأي ممكن ان يلقوا القبض علينا اعتباطينا في اية لحظة، ويلقونا فريسة للوحوش الكاسرة.
وانتهى العام الدراسي في حزيران 1963 ولا ادري كيف نجحت هذا العام. وكالعادة وفي كل صيف اذهب للدوام مع ابي في سوق الشورجة. وصدفة التقيت بزميل تعرفت عليه في القلعة السادسة في الموقف العام في باب المعظم. والتقينا في كهوة على شارع الجمهورية قرب جامع بنات الحسن. وكان مهدي حبيب من عمال الخياطة النشطين، ويعمل في شارع الرشيد في معمل للخياطة وقد زرته عدة مرات. وكان على اتصال بمجموعة سليم الفخري، وطلب مني ان اهيئ ملابس عسكرية، حيث ان هناك حركة مرتقبةممكن ان تحدث في اية لحظة وعندها البس ملابس جندي والتحق حسب الأوامر. وكان لدي بنطرون خاكي وحذاء أسود، وذهبت الى سوق السراي لشراء قميص وسدارة كشافة. واصبحنا نلتقي في الأسبوع مرتين على الأقل في نفس المكان واحيانا مع شخص ثالث هو شكر الله، من الأخوة الفيلية، حيث لايعرفنا احد وهو قريب على الشورجة.
في يوم 3 تموز سمعنا بحدوث حركة في معسكر الرشيد، وقيل ان قائدها ابو سلام خباز في سبع قصور بمعنى في راس شارعنا. وبدأت أفكرأهي الحركة التي وعدنا بها مهدي ام لا؟ وللأسف الشديد سمعنا بعد ذلك انه قد تمت السيطرة عليها وان الحركة لم تنجح. وبطبيعة الحال فإن من المؤكد سيعقب ذلك حملة اعتقالات جماعية. وخوفا من حركات مماثلة في المستقبل قررت السلطة الجائرة بأن ترسل جميع معتقلي سجن رقم واحد الى نقرة السلمان، مع التخطيط ان يموت معظمهم في الطريق. الا ان سائق قطار الموت الشهم وأهالي السماوة الطيبين والمتعاطفين مع المعتقلين أفشلوا المخطط ولم يستشهد سوى الرائد يحيى نادر من اهالي اربيل.
وفي يوم 4 أو 5 تموز، أتصلت امي بأبي يرحمهم الله تلفونيا لتقول له بأن الحرس القومي جاءوا بثلاث سيارات وطوقوا البيت يبحثون عني لأعتقالي. وقلت لأبي ما العمل؟ فقال الأفضل ان تذهب الى حسين المهداوي وهو يقول لك ماذا تعمل. طبعا حسين هو حرس قومي واخوا اكرم المهداوي عضو قيادة بغداد وقد اصبح مدير تربية بغداد. ذهبت الى ابوعلي حسب توصية ابي وثقته بحسين. وحينما رآني حسين قال لي ماذا تفعل هنا؟ قلت له بأن ابي بعثني اليك كي ترشدنا. وهنا رأيت علامات اندهاش وخوف عليه ونظر الى اعلى حيث كانت الشقة العلوية في تلك البناية مقرا للحرس القومي وكان هو بملابس الحرس القومي. فقال لي وبجدية لا تقبل الشك ” أذهب من هنا وأختل عند اقارب لك بعيدا عن الكرادة الى ان تصفى الأمور”.
وركبت الباص وذهبت الى منطقة النواب في الكاظمية الباسلة التي قاومت الأنقلاب لعدة أيام وكان آخر المقاوميين فيها الشهيد سعيد متروك الذي شهد له الجميع بالشهامة والبطولة وسمعت عنه الكثير من حسين المصفايجي في الشورجة. كذلك كنت اسمع من حسين المصفايجي ما قام به جماعة الخالصي من تصفيات في سراديب جامعهم ومدرستهم الدينية. وذهبت الى بيت خوالي محسن وكريم وخالتي حياة وبيبيتي. وبقيت عندهم واستمريت في الذهاب الى الشورجة صباحا والمبيت في الكاظمية مساءا.
وفي بداية ايلول كان الوضع قد استتب للأنقلابيين، وشعر اهلي وكذلك شعرت انا من انه من الممكن ان التحق في المدرسة. وذهبت يوم التسجيل وهو تسجيل روتيني، بأعتباري انا طالب في المدرسة وناجح من الصف الرابع الى الصف الخامس. كان مسوؤل التسجيل هو عبد الستار النداف، مدرس العلوم في المتوسطة الشرقية والذي رقي الى معاون مدير الثانوية الشرقية لميوله البعثية. حينما رآني، طلب مني ان استقدم ولي امري للتسجيل لانه يعرفني جيدا. اخذت ابي في اليوم الثاني، واخذ من والدي تعهد بأن لا اتدخل في السياسة كشرط قبل ان يسجلني. شعرت بالخجل والمرارة من اني وضعت ابي في هذه المهانة من قبل حثالة يتحكمون بنا.
وبعد يومين او ثلاثة من بدأ العام الدراسي 1963/1964 جاء احد طلاب الأتحاد الوطني وطلب حضوري الى مكتب مدير المدرسة، وذهبت معه وكان ينتظرني في مكتب المدير احد افراد جهاز الأمن وهو مفوض الأمن موسى عمران حيث كان يسكن محلتنا وكان اخوه عباس عمران من عمرنا. اخذني مع شخص آخر بسيارة فولكس واكن الى بيت امن سري في ارخيته. وعند خروجنا من غرفة المدير رأيت مخلص عبد الجليل ( وهو اخو غانم عبد الجليل عضو القيادة القطرية للبعث) يراقب من بعيد فعلمت انه كان وراء هذه الأخبارية. كذلك علمت لاحقا من انه طلب من شخص آخر ان يطلبني من الصف وقال له “انت روح جيبه لأنه صديقي ما اكدر” ( كنا في نفس الصف لثلاث سنيين في المتوسطة الشرقية). طلبت من الأمن ان اتصل بأهلي كي اعلمهم، فقال لي المفوض موسى عمران وهو يضحك هسه يعرفون ان عصابات الأمن قد اختطفتك.
وصلت للأمن العامة ووضعوني في الخفارة مجددا. ورأيت من بعيد في مكتبه أبو صباح ( نوري العاني) ورآني من بعيد وهو يعرفني وشعرت بالراحة لأنه صديق والدي وعمل في الشورجة وكيل اخراج كمركي بعد ان فصل من الأمن العامة بعد ثورة 14 تموز لأنه كان من المقربين لبهجت العطية مدير الأمن العام في عهد نوري السعيد والذي حكم عليه بألاعدام في عهد الثورة ونفذ امر الأعدام به. وقد ارجع ابو صباح الى الخدمة بعد ردة شباط ( وهذا يفسر من كان وراء الأنقلاب). المهم كانت الأخبارية على نفس موضوع محكمة العرفي الثاني. وحينما استدعاني ابو صباح للتحقيق، شرحت له الأمر من انني جئت بمحض ارادتي قبل اسبوعين وخرجت بكفالة، وان هذه الأخبارية قديمة. المهم اخرجني بكفالة اخرى بعد ان قضيت كل اليوم في الأمن العامة مرة اخرى. وحينما كنت في موقف الأمن العامة كان هناك بين الموقفين العدد الكبير من القوميين العرب الذين شاركوا البعثيين في ردة 8 شباط.
بعد ذلك بأسابيع بدأ ت الأشاعات حول وجود خلاف بين الخط العسكري والخط المدني في حزب البعث. ثم تطور ذلك الى صراع بين معظم اعضاء القيادة القطرية والجيش من جهة وبين علي صالح السعدي ومعظم قيادة بغداد مدعومة من قبل الحرس القومي والنقابات والتنظيمات المدنية من جهة اخرى. وعلى اثر ذلك اصبح الكلام في العلن . قسم يطالب بحل الحرس القومي والآخر يعتبر ذلك مؤآمرة على الثورة ( في تعبيرهم). وجاء ميشيل عفلق ومجموعة القيادة القومية للتوسط بين الفريقين المتنازعين، واعلن منع التجول ونزل الحرس القومي للشوارع واحتل الساحات الرئيسة.
وفي يوم 18 تشرين الثاني سنة 1963، اعلن عبد السلام عارف حل الحرس اللا قومي، متهما اياهم بأرتكاب ابشع الجرائم بحق الشعب العراقي ومعلنا تغييرا وزاريا عازلا فيه علي صالح السعدي والوزراء البعثيين المدنيين مثل حازم جواد وطالب شبيب ومبقيا على طاهر يحيى وصالح مهدي عماش واحمد حسن البكر وحردان التكريتي. وكان يبدوا للتو من ان البعث باقي في الحكم حيث لم يصدر اي بيان ضد حزب البعث وانما كانت الحركة تبدوا وكأنها ضد الحرس القومي فقط. وقد لعب عبد الرحمن عارف دورا اساسيا في الزحف على بغداد مصحوبا بتأييد عشائر الأنبار. بعد ذلك طلب من افراد الحرس اللاقومي تسليم السلاح والبقاء في البيوت. وهذا ما تم دون مقاومة تذكر بالرغم من كل السلاح والعتاد الذي كان بحوزتهم.