أفكار حُـرّة : رئيس التحرير محمد حسين النجفي
صوت معتدل للدفاع عن حقوق الأنسان والعدالة الأجتماعية مع اهتمام خاص بشؤون العراق
تعتبر الكرادة الشرقية من بين اهم ضواحي العاصمة بغداد من حيث تعداد النفوس والمساحة الجغرافية والتنوع السكاني. إلا ان اهم ما يميزها هو كونها شبه جزيرة يلتف حولها نهر دجلة العظيم من ثلاث جهات. كذلك كورنيش ابي نوأس ومقاهيه الجميلة والسمك المسقوف وبهجة وشعبية الكرادة داخل، وروعة ونظافة الكرادة خارج، وتحرر وحداثة عرصات الهندية وأناقة منطقة المسبح. ويعتبر شارع الهندي من بين الشوارع المهمة في قلب الكرادة الشرقية حيث يقع في منطقة البو جمعة ما بين منطقة الهويدي والبوليسخانة. قضينا في شارع الهندي احلى أيام الطفولة والحداثة والمراهقة من عام 1954 لغاية عام 1961، سبعة أعوام مهمة في ترعرع ونمو شخصية أي انسان ورسم ابعاد توجهه في الحياة. لم يكن شارع الهندي منطقة سكنية محدودة، وإنما كان محلة متكاملة وكأنها مدينة صغيرة في قلب الكرادة الشرقية. من بين الأحداث المهمة في هذه الفترة هي افتتاح البث التلفزيوني، والتعداد السكاني لعام 1957، ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958، احداث الموصل في آذار عام 1959، احداث كركوك في تموز عام 1959، محاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم يوم 7 تشرين الثاني عام 1959، ومشاهدة النقل المباشر لمحكمة الشعب (المهداوي).
كانت الألعاب التي نمارسها في الشارع موسمية. ففي الصيف يبدأ موسم الطيارات الورقية من السطوح، وكنا أحيانا نعلق في الخيط فوانيس ورقية بداخلها شمعة كي تضيئ في الليل. واحيانا نغلف الخيط بطحين البامية اليابسة حيث نطحن البامية اليابسة ونمررها على الخيط وننشر الخيط حتى ييبس كي يتحول الخيط حاداً كالسكين اذا ما تقاطع مع خيط آخر لشخص غريم يقطعه ويفقد طيارته الورقية. وهناك موسم “المحية” وهو موسم يستخدم به البوتاز (مفرقعات) نصنعها في البيوت وهي ممنوعة قانونياً ولكن الكل يستعملها. نشتري المادة المتفجرة وهي مسحوق مثل الكركم من “حسن علو” وهو بقال في منطقة سبع قصور. ونجمع حصى في خرقة قماش نضع فيها عدة حصوات وننشر عليها الزرنيخ (المسحوق القابل للانفجار) ونشدها بخيط. وعند رميها في الشارع على ارض صلبة تنفجر وتحدث صوت مدوي. ولعبة الدعبل من اكثر الألعاب ديمومة وعلى مدار السنة. وهناك لعبة المرصع والجعاب والصنطرة توتو، ولعبة البوزة وهي خض بطل الكوكا كولا وفتحه والمراهنة الى أي حد تصل بوزة الكوكا المنسابة من القنينة، وغيرها الكثير من الألعاب. وحينما وصلنا عمر الأحداث كانت لعبة كرة القدم من أهمها وكنا نتابع الفرق الرياضية وخاصة منتخبي آليات الشرطة ومنتخب القوة الجوية ومنتخب الزوراء، ونذهب لمشاهدتها في ساحة الشرطة قرب القصر الأبيض وساحة الكشافة في الأعظمية. ومن بين المشهورين في كرة القدم آن ذاك كان جمولي (جميل عباس)، عمو بابا، ارشاك، يورا، قاسم زوية، حامي الهدف لطيف شندل وحامد فوزي والمعلق الرياضي المشهور مؤيد البدري.
من بيت اهم السكان القاطنين تلك الأيام في شارع الهندي بيت الحاج حسن الأمين الدقاق، من تجار الحبوب المهمين في علاوي الشورجة، ومنهم صديق العمر حكمت محمد جواد الدقاق، وبيت الكاتب والمؤرخ العراقي السيد عبد الرزاق الحسني ومن أبنائه قاسم وأمين وأنور والصديق طارق و زملاء الدراسة في مدرسة الحكمة الابتدائية سليم وابنته أحلام، وبيت مهدي الطالب مالك شاحنات نقل ضخمة، وأبنائه سلمان وسالم والأصدقاء خميس وصباح وحامد، وبيت امير رومايا ومنهم الصديق هلال حنا، وبيت المحامي عبد الحليم القيم ومنهم الصديق علي القيم وبيت السيد عبد الأمير السيد صالح النجفي ومنهم الصديق زكي وسعد، وبيت عبد الأمير الجميلي وعبد الغني الجميلي العائلة المعروفة بصناعة بسكويت الجميلي المشهور وأبنائهم فوأد وأياد ومعن (وقد أعدم فوأد في عام 1979/1980)، وبيت سبع ومنهم علي وسامي وبشير وعلي الزغير، وبيت العقيد يوسف شكوري وهو صيدلي واصبح مدير صحة الشرطة العام، وبيت الدكتور نبيل الذين يعتبرون من أوائل سكنة شارع الهندي وكذلك الحسني، وبيت عبد علي الطحان ومنهم الأخوة سعيد وسمير أبناء الخياطة المشهورة حسنية السورية الأصل وكانت تعمل معها فاطمة النجفية، التي أصبحت تعمل لنفسها في بداية الستينات، وبيت العبيدي ومنهم البقال حميد (قنبل) وبيت الجراح ومنهم ماجد الجراح وبيت الزبيدي ومنهم الصديق إبراهيم وغيرهم كثيرون. لكل واحد من هذه البيوت قصة تحكى ولكل من أصدقائي احداث تاريخية تذكر. ولكن في جميع الأحوال كان ذلك زمناً جميلاً وكان عصرنا الذهبي.
العوائل التي تحدثت عنها واولهم السيد عبد الرزاق الحسني كاتب واديب ومؤرخ أساسي للوزارات العراقية. كان يخرج من بيته صباحاً وبيده كتاب يقرأه من خلال نظاراته الطبية الصغيرة التي يضعها على نهاية انفه، والتي كنت استغرب كيف انها لا تسقط من وجهه الى الأرض. فهو يمشي ويقرأ الى ان يصل ناصية الشارع العام دون النظر يميناً او شمالا ولا يسلم على هذا او ذاك، واعتقد ان ذلك كان مقصوداً. ومن هناك يستخدم سيارات الأجرة (النفرات) للوصول الى ديوان رئاسة الوزراء حيث مقر عمله. لم يكن اجتماعيا مع جيرانه، الا انه في فصل الربيع كان يبعث باقة ورد جوري “ياسمين” صغيرة بيد ابنته أحلام للجيران في الصباح. ظاهرة جميلة لم تكن شائعة ولم يقلدها أي من بقية الجيران. لم تكن علاقته جيدة مع جاره مقابل بيته وهو مهدي الطالب (أبو سلمان)، وهو شخصية محترمة جداً في محلتنا. لأن أبو سلمان كان يملك عدة شاحنات كبيرة لنقل الرمل والحصى، ضوضائها صاخب جدا. لم يعتقد السيد الحسني ان شارعنا كان مناسبا كموقف لمثل هذه الشاحنات. اما الحاج حسن الدقاق وعائلته فهم من اقدم العلاقات العائلية لعائلتنا من قبل الوالد والوالدة. علاقة الوالد معهم قبل نزوحنا الى بغداد من النجف الأشرف. وكانوا اول جار لنا في بغداد محلة الدهانة مقابل جامع المصلوب. وكان من كبار تجار المواد الغذائية التموينية مثل الرز والحبوب، يساعده في ذلك ابناءه محمد جواد (أبو حكمت) وعباس (أبو حيدر). كانوا عائلة كبيرة وكان الصديق حكمت وانا متلازمين دائماً واشتركنا في كل الألعاب ومارسنا كل المسموحات والممنوعات معا وتعرضنا للمسائلة والضغوط والاضطهاد كأننا توأم.
كنا حكمت وانا لدينا معلومات واسعة عما يحدث في شوارع الكرادة سواء المعلنة منها والمخفية. من كان صديق من؟ ومن هي صديقة فلان؟ ومن هو صديق فلانة؟ اي من المعلمين ممن كانوا يعتدون على الطلاب جنسياً؟ من هم الشقاوات في المنطقة؟ من هم الذين يديرون محلات التل خانه ( وهي مقاهي شعبية في النهار تغلق وتتحول بعد منتصف الليل الى نشاطات ممنوعة من بينها لعب القمار). كل تلك المعلومات كانت تصل الينا ونحن مازلنا في بداية عمر المراهقة، إلا انها خلقت لدينا وعياً شارعياً لعب دوراً كبيراً في حمايتنا من الاعتداءات التي كان يتعرض لها الأطفال والأحداث والتي لا تعد ولا تحصى لدرجة انها كانت شائعة لتكون واقع مرير تتستر عليه العوائل لجسامة وفشاحة تداعياته على الضحية والعائلة. كنا نرى ونعلم بتعرض بعض أصدقائنا لهذه الممارسات وكيف يؤثر ذلك على سلوكهم الفردي وانكسارهم النفسي وانسحابهم من الاختلاط الطبيعي مع الآخرين.
وُلد اخي سعد في 7 أيار، عام 1957 واخي سلام في 29 أيلول عام 1959 في شارع الهندي. كذلك توفى جدي لأبي تبعه وفاة جدي لأمي. من طبيعة والدتي انها لا تخرج من البيت إلا نادراً، لأننا والحمد لله خمسة أولاد واختين. لم تكن والدتي تستطيع ان تزور الجيران وذلك لكثرة مشاغلها مع أبنائها، الا انها كانت تستأنس بزيارة جيراننا لنا ومنهم ام حكمت وام حيدر وفاطمة وسنية من بيت الحاج حسن الدقاق وكانوا مثل الأهل معنا يزورونا متى شاءوا بدون اية رسميات.
كان في راس شارع الهندي كرادة داخل (على الجوة) عيادة للدكتور صادق أبو التمن (والد الصديق لؤي لاحقاً)، يقابله على الجانب الآخر عيادة الدكتور صاحب علش. اما على يسار مقدمة شارع الهندي فكان هناك نوعان من المحلات. المحلات الدائمة مثل بقالة عبد الحسن وبياعي الفواكه والخضر الذين يفتحون صباحاً ويغلقون مساءاً، إلا انهم لا متاجر ثابته لهم ومنهم “بيبية” وابنائها سالم وصديقنا نعمة، وكذلك الإخوان هادي ووادي، وغيرهم كثيرون. وعلى يمين شارع الهندي باتجاه الباب الشرقي دكان لصاحبه إبراهيم قربان الذي كان مظهره يدل على انه معلم او موظف مصرفي من انه صاحب بقالة. بينما على مسافة منه قرب موقف باص الأمانة كان محل حميد العبيدي (الملقب بحميد قنبل) الذي كان ملائماً اكثر لمصلحته. وبينهما كان المحل الكبير الواسع لحلويات “الحاج جواد الشكرجي” وهو من الرموز التجارية المعروفة لصنع وتوزيع الحلويات في بغداد والذي يمتلك فروع عديدة ومتميزة.
كانت الكرادة الشرقية تحوي مجتمعات راقية ومجتمعات متدنية في آن واحد. تحوي على العديد من الجوامع والحسينيات ومنها حسينية “عبد الرسول علي” التي كان الشيخ الوائلي يؤممها في العشرة الأيام الأولى من شهر محرم الحرام وعشرة أيام من شهر رمضان. وكان شارع ابي نوأس الذي يبدأ من الباب الشرقي وينتهي في شارع الكنيسة (البوليسخانة) آن ذاك قبل ان يتم تكملته ليصل الى الجسر المعلق ثم ليصل الى الجادرية. كان ابي نوأس مركزاً سياحياً وترفيهياً لعموم بغداد حيث تنتشر على امتداده العديد من المطاعم والمقاهي ومحلات الشرب التي يرتادها الرجال فقط في ذلك الحين ومنها مقهى الحدباء لصاحبها “زناد” الذي كانت مقهاه سابقاً في البتاوين محل عمارة النصر حالياً ولديه مقهى في نهاية سوق التجار وعلى ضفاف نهر دجلة. وثلاثية مقاهي الصفراء والخضراء والحمراء. كذلك كانت الكرادة مركزاً للعديد من المثقفين والسياسيين المعروفين، ومنهم الدكتور إبراهيم كبة وزير الاقتصاد في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم، وشاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري ومؤرخ الوزارات السيد عبد الرزاق الحسني واستاذ القانون الدولي الدكتور محمد علي الدقاق والدكتور الجراح عبد المجيد حسين مؤسس مستشفى عبد المجيد والتجار المعروفين عبد الرسول علي ورضا علوان وجابر مهدي البزاز.
كان شارع الهندي بالنسبة لي مدرسة الحياة التي بنيت فيها معالم شخصيتي وتوجهي في الحياة. في هذا الشارع تنبهت سياسياً لما يدور حولي وكونت توجهاً منحازاً لأفكار ظلت عالقة طول العمر. وفي هذا الشارع بدأت مبكراً في قراءات ثقافية لم يتسع للغير الاهتمام بها. قرأت لعلي الوردي “وعاظ السلاطين” و”مهزلة العقل البشري”، وقرأت لجورج جرداق “علي صوت العدالة الإنسانية“. وفي هذا الشارع تعرفت على الشيخ احمد الوائلي حينما كان في عز شبابه. وفي هذا الشارع بدأت العمل مع والدي في الشورجة. وفي هذا الشارع خفق قلبي لعلاقات عاطفة منها البريء ومنها الغير بريء. وفي هذا الشارع نمت لديّ أفكار سياسية، وعاصرت احداث سياسية جسام مثل ثورة تموز عام 1958، وحركة الشواف في الموصل، ومحاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم في شارع الرشيد.
وفي تلك الأعوام المفصلية في بداية الستينات بدأت الأحداث في العراق تأخذ منحى معاكس. حيث تحول الصراع بين الأفكار والبدائل السياسية الى صراعات دموية سفكت بها دماء السياسيين المتخاصمين، وكانت حصة الأسد في الضحايا من نصيب اليساريين خاصة من سكنة الموصل، مما جعل سفك الدماء بشكل جماعي بعد حركة 8 شباط المشؤومة امراً استمرارياً لما حدث من قبل. وفي نفس الوقت بدأت الدول الخارجية تتدخل بشؤون العراق وخاصة الجمهورية العربية المتحدة (مصر)، والعالم الغربي. إن ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958، لم تكن انقلاباً عسكرياً لتغيير من هم في سدة الحكم، وانما كانت حركة ثورية تنشد التغيير الجذري في الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وعليه اتخذت الثورة خطوات ضربت بها مراكز نفوذ تقليدية في الداخل، وحجمت المصالح الأجنبية في الخارج. ومن بين هذه الخطوات كان قانون الإصلاح الزراعي، وقانون الأحوال الشخصية، وهذين القانونين الحقا الضرر بمصالح ونفوذ رجال الدين الذين يُمولون من قبل رؤساء العشائر وهم في معظم الأحوال ملاك أكبر وأخصب الأراضي الزراعية، التي استولوا عليها أثناء حقبة العهد الملكي. كذلك فعل قانون الأحوال الشخصية، حيث نظم هذا القانون علاقات الزواج والطلاق والإرث بما يضمن حقوق المرأة ويرفع من شأنها. وبذلك انقسم الشعب العراقي بين مؤيد للزعيم ومعادي له. يضم الفريق الأول ما لا يقل عن 80% من الشعب العراقي خاصة الفقراء والعمال والفلاحين والكسبة، وسياسياً الشيوعيين وقسم من الحزب الوطني الديمقراطي. ويضم الفريق الثاني البعثيين والناصرين، وتضامن معهم بعض رجال الدين والإقطاعيين الذين تضررت مصالهم الشخصية، مع اسناد خارجي قوي جداً. وبذلك ابتدأت سلسلة المؤامرات، من عبد السلام عارف، ثم رشيد عالي الكيلاني، ثم حركة الشواف في الموصل، واحداث كركوك الدموية بين الأكراد والتركمان، ومحاولة اغتيال الزعيم في شارع الرشيد
كان لهذه الأحداث ابعاد سياسية واجتماعية أثرت على علاقة الجيران بعضهم ببعض، وعلاقات الصداقة، في المحلة وفي المدرسة. وبدأ الكل يفكر اين موقعه وأين موقع الجيران والأقارب والأصدقاء من ذلك. وبدأت الحوارات في الدوائر الحكومية، والمتاجر التجارية، والمدارس والجامعات، وفي البيوت كلها سياسية. وادى ذلك الى تحول بعض الصداقات الى عداوات، والى انفضاض بعض المجالس بالصياح والعياط، هذا يدافع عن الزعيم وذلك يحب جمال عبد الناصر ويريد الوحدة مع مصر. وكانت محاكمات المهداوي (محكمة الشعب الخاصة) تؤجج هذا الصراع لأنها كانت تُنقل حية عبر شاشات التلفزيون الذي كان الجميع يلتصقون به من اصغر فرد في العائلة حتى اكبرها. واتذكر جيداً ان ابي اشترى التلفزيون وادخله في بيتنا كي يشاهد محكمة الشعب التي ابتدأت بمحاكمة رجال العهد البائد (العهد الملكي) أمثال بهجت العطية وسعيد قزاز. ثم تبعها محاكمة عبد السلام عارف، وكانت اشهرها محاكمة ناظم الطبقجلي ومن ثمّ المشتركين بمحاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم
محمد حسين النجفي
رئيس تحرير موقع أفكار حرة
#محمد_حسين_النجفي #شارع_الهندي #الكرادة_الشرقية #www.afkarhurah.com# www.mhalnajafi.org