حركة 14 تموز 1958: ثورة شعبية أم انقلاب عسكري

كما نشرت في الحوار المتمدن العدد 8036 بتاريخ 2024/7/12 
حركة 14 تموز 1958: ثورة شعبية أم أنقلاب عسكري

مقدمة نظرية:
ليس هدف هذا البحث تمجيد حركة 14 تموز 1958 أو ذمها، ليس الهدف الدفاع عنها او استنكارها، إنما غاية هذا البحث هو تقييم هذه الحركة من حيث موقعها من التاريخ، هل انها كانت مجرد انقلاب عسكري أدى الى تغيير لبعض رموز السلطة، اما انها كانت حدثاً سياسياً واجتماعياً شاملاً لشتى نواحي الحياة في الدولة العراقية. ولكي نستطيع ربط احداث تموز ومنحها التسميات المناسبة لابد لنا من الرجوع الى تعريف مسميات الثورة والانقلاب وغيرها من التسميات، ومحاولة فهم الفارق بينهما من خلال عرض لبعض النماذج التأريخية ومقارنتها بأحداث تموز 1958.

ما بين الانقلاب والثورة، هناك الكثير من المصطلحات السياسية التي تستخدم في محلها واحياناً في غير محلها. فعلا سبيل المثال إذا كان المتحدث يتفاعل مع الحدث ايجابياً يسميه ثورة ويطلق على القائمين به لقب الثوار. وان كان يعارض الحدث يسميه انقلاب او مؤامرة او تمرد، ويمنح القائمين به شتى النعوت السلبية. وسنحاول قدر الإمكان التجرد عن المشاعر والانتماء، ولو لحين كي نفهم حركة 14 من تموز عام 1958. وقبل ان نُعرف معنى الثورة والانقلاب دعونا نجري مسحاً لمصطلحات عديدة ضمن هذا المجال:

ولنبدأ بمصطلح: انتفاضة او وثبة فهي تعني هبة الجماهير ضد السلطة لتحقيق مطلب معين او لاستنكار قرار قانون حكومي تعسفي. مثال ذلك وثبة كانون الثاني عام 1948 ضد معاهدة بورت سموث، وانتفاضة تشرين عام 1952 ضد الملكية تضمنت اضراب عمال موانئ البصرة وطلاب صيدلة جامعة بغداد.
الاصطلاح الآخر هو الأضراب: أي التعطيل عن العمل سواء كلياً او جزئياً، لمدة محدودة او لحين تحقيق المطالب، مثال اضراب سائقي السيارات وما سميّ اضراب البنزين نتيجة رفع الحكومة سعر البنزين عام 1962. مثال آخر اضراب عمال السكاير عام 1959 لتحسين ظروفهم المادية وظروف العمل.
العصيان والتمرد كلمتان متقاربتان عادة تطلق هذه التسميات على الأشخاص او المجموعات التي تتمرد او تعصي الانصياع لأوامر السلطة، مثلاً أطلقت كلمة العصاة على قوات البيشمركة من قبل السلطة في بغداد، بينما هم يسمون أنفسهم ثوار.
وتطلق كلمة مؤامرة ومتآمرين على ثوار او انقلابيين حينما تفشل حركتهم، على سبيل المثال مؤامرة الشواف عام 1959، ومحاولتي عارف عبد الرزاق الانقلابية حينما كان رئيساً للوزراء.
الانقلاب: تعرف ويكيبديا الانقلاب على انه السيطرة وازالة الحكومة من السلطة. وعادة يكون الاستئثار بالسلطة بشكل غير قانوني، من قِبل مجموعة سياسية او قوى متمردة او ديكتاتور. ويعتبر الانقلاب ناجحاً إذا مسك السلطة لمدة أسبوع. اما يور دكشنري فيعرف الانقلاب على انه تغير مفاجئ وسريع للقيادة في السلطة. وأفضل امثلة على ذلك انقلاب بكر صدقي عام 1936، انقلاب عبد السلام عارف 18 تشرين 1963، وانقلابي 17- 30 تموز 1969. ومن أنواع الانقلابات: انقلاب عسكري، انقلاب دستوري مثل ما يحدث في تونس (قيس سعيد) وانقلاب قصر مثل ما يحدث في السعودية ودول الخليج.

إذن لم يبقى لنا سوى ان نعرف الثورة: تعرف ويكيبيديا الثورة من انها تعني تغيير جذري وفوري في السلطة السياسية، التي عادةً تحدث حينما تتمرد الجماهير على السلطة بسبب اضطهادها لها او بسبب عدم كفاءتها. والثورات تحدث في كل الأزمنة وبمختلف الطرق والظروف والدوافع السياسية. وتكون مصحوبة عادة بتغيير جوهري في الطروحات الاجتماعية والسياسية كرد فعل للمعاناة من سلطة الحاكم المطلق. ومن بين اهم الأمثلة المتفق عليها على الثورة هي: الثورة الأمريكية (1775-1783)، الثورة الفرنسية (1799-1789)، الثورة البلشفية (1917)، الثورة الصينية (1940’ s)، الثورة الكوبية (1959)، الثورة الإيرانية (1979).
أما شارلس تيلي Charles Tilly، الباحث المعاصر في مفهوم الثورات فإنه يرى ان الانقلاب هو تغيير فوقي للسلطة، اما الثورة وخاصة الثورة العظيمة The Great Revolution، فهي الحركة التي تؤدي الى تحولات اجتماعية واقتصادية جذرية، مصحوبة بتغيير في طبيعة المؤسسات السياسية، ويضرب بذلك مثلاً الثورة الفرنسية والبلشفية والإيرانية.
اما مفهوم الثورة بالمعنى الماركسي فإنها كما يقول لينين “هدم بالعنف لبناء فوقي سياسي قديم ولى عهدهُ، وأدى تناقضه مع علاقات الإنتاج الجديدة، في لحظة معينة الى افلاسه” (لينين: خطتا الاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية، ص 206). وتحقيق “الهدم “هنا مشروط بوجود حزب بروليتاري يقودها. ووفق القانون الماركسي فإن الثورة تعني القطع مع النمط الاقتصادي الاجتماعي القائم، وتأسيس نمط جديد (سلامة كيلة: الثورة في الماركسية).
برز تفسير في القرن التاسع عشر بين الأحزاب اليسارية ومفكريها، وتبلور وتحدد فيما بعد في إطار النظرية “الماركسية اللينينية” وعرف بـ “التفسير المادي للتاريخ” وينطلق هذا التفسير من ان الثورات تحدث نتيجة وجود مقدمات وشروط محددة تبرز في إطار تطور المجتمع، تؤدي إلى وجود تناقضات أساسية تتحدد في التناقض بين الطابع الاجتماعي للإنتاج، وشكل التملك الاحتكاري الخاص. ويؤدي ذلك إلى اتساع الشعور بالظلم والاستغلال الذي يمارس من قبل فئة قليلة مالكة ضد بقية فئات الشعب. وتؤدي هذه التناقضات إلى «أزمة سياسية» عميقة، تحمل معها نشوء حالة «ثورية» تتجسد بنشاط الجماهير السياسي الواسع من خلال التمرد على الواقع بأشكال ومظاهر متعددة مثل الاضطرابات، والمظاهرات والاجتماعات والانقلابات (التفسير النقدي الارتقائي المتفائل (موقع المعرفة www.marefa.org.).

 إنَّ الحالة الثورية هي تعبير عن التناقضات الموجودة في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية بل هي ذروة تفاقمها. وفي معرض الحديث عن أسباب الثورة، ذكر ماركس في مقدمته «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي» أنه في مرحلة معينة من تطور المجتمع تدخل القوى المنتجة في تناقض مع العلاقات الإنتاجية، التي كانت حتى ذلك الحين تتطور في إطارها. وتتحول هذه العلاقات المختلفة من صيغة لتطور القوى المنتجة إلى عوامل معوقة لتطوّرها، وعندئذٍ يحصل عصر الثورة. وعليه فإن الصراع بين القوى المنتجة الجديدة وبين العلاقات الإنتاجية القديمة يشكل الأساس الموضوعي الاقتصادي للثورة. وإنَّ تصفية العلاقات الإنتاجية القديمة، واستبدالها بعلاقات جديدة، لا تحدث تلقائيَّاً وإنَّما من خلال توحيد القوى التقدمية كافة التي تعمل على إنهاء النظام الاجتماعي القديم.

 وتشير النظرية “الماركسية اللينينية” إلى أهمية الحزب الثوري ودوره في توحيد القوى الثورية وتنظيمها، وأهمية العوامل الذاتية في توعية الجماهير وقيادتها. وتشكل وحدة الظروف الموضوعية والذاتية، عند لينين، القانون الأساسي للثورة. والثورة تحلّ جملة من القضايا المتعلقة بالتغيير الاجتماعي، إنَّها تهدم القديم وتبني الجديد. ومن القضايا الهامة والبارزة التي تواجهها الثورة هي «قضية انتقال السلطة إلى أيدي الطبقة الثورية». وكما يرى لينين فإن سلطة الدولة هي المسألة الرئيسية في أية ثورة. ويرتبط ذلك بجوهر الدولة، بوصفها أداة خاصة أقامتها الطبقة الحاكمة، كوسيلة للسيطرة والتحكم والحفاظ على النظام القائم. ويرتبط بالمهام التي يترتب على الثورة تنفيذها، من خلال مقاومة القوى الاجتماعية المالكة السابقة. ونتيجة ذلك تركز «الماركسية اللينينية» على أهمية الفهم الصحيح للعلاقة بين «الثورة والسلطة». فالثورة مقدمة ووسيلة لاستلام السلطة. واستلام السلطة شرط ضروري للتغييرات الجذرية التي يجب تحقيقها في المجتمع من خلال السلطة الجديدة التي تجسد مصلحة الجماهير وتعمل لتحقيق أهدافها.

ورأى لينين فيما بعد أن السيطرة الاستعمارية وما يرافقها من نهب واستغلال للشعوب المستعمرة يمكن أن تشكل مقدمات لقيام ثورات وطنية ذات طابع تحرري ضد الدول الاستعمارية. وعرفت هذه الثورات بـ«ثورات التحرر الوطنية». وأن المرحلة الإمبريالية لابد أن تؤدي إلى توسيع هذه الثورات، وبالتالي إلى حتميتها أيضاً، وحتمية حروب الطبقة العاملة ضدَّ «الطبقة البرجوازية»، وحتمية الجمع بين كلا هذين النوعين من الحروب الثورية.

نماذج منتخبة من التجارب العالمية

الثورة الفرنسية (5 مايو 1789 – 14 يوليو 1799):
تعتبر الثورة الفرنسية أم الثورات ونموذجاً رائداً يتغنى به الثوريون والليبراليون والعلمانيون، لأنها لم تكن عبارة عن تغيير اشخاص العائلة المالكة، انما أحدثت تغييرات سياسية اقتصادية واجتماعية، وتركت طابعها الأبدي على البشرية. سبق الثورة الفرنسية سبع سنوات من الحروب القاسية على القوات الفرنسية وخسارتها الفادحة. أدى ذلك الى تضخم الدين العام وزيادة الضرائب على الملاكين والمواطنين لتغطيته، مما خلق تذمر تحول الى اضطرابات اجتماعية وسياسية. تفاعل الجوع والبؤس في الأحياء الفقيرة من باريس، مما دفع الجماهير للهجوم على قلاع سجن الباستيل يوم 14 تموز 1789، وكان ذلك بداية الثورة الفرنسية.

أعقب ذلك مسيرة النساء الساخطات اللاتي قررنا الزحف الى قصر فرساي حاملين سكاكين مطبخية وكل ما يستطيعون لإرغام الملك لويس السادس عشر للعودة الى باريس لأداره الشؤون بشكل مباشر. لم يستطع لويس السادس عشر من السيطرة على الأوضاع المضطربة او تلبية احتياجات الجماهير الهاجة التي أسقطت الملكية المطلقة وأعلنت قيام الجمهورية في سبتمبر عام 1792 وإعدام لويس السادس عشر وعائلته في شهر كانون الثاني من عام 1793.

بعد ذلك سيطر روبسبير واليعاقبة عامي 1793 و1974 لتشهد فرنسا فترة إرهاب واعدامات في المحاكم الثورية التي راح ضحيتها ما بين 16,000 الى 40,000. اهم منجزات الثورة الفرنسية هي الغائها للملكية المطلقة وتأسيس النظام الجمهوري، وإلغاء الأقطاع والامتيازات الخاصة، وفصل الدين عن الدولة، وإعلان لائحة حقوق الأنسان التي شملت النساء والعبيد.  وعلى الرغم من انها ابتدأت بتحالف البورجوازية مع العمال والمعدمين، إلا انها انتهت بسيطرة البورجوازية بالتحالف مع نابليون بونابرت.

كومونة باريس:
ابتدأت الثورة الفرنسيّة بتحالف البورجوازية مع العمال والمُعدمين، وانتهت بسيطرة البورجوازية بالتحالف مع نابليون بونابرت. أعقب ذلك ثورة أخرى هي “كومونة باريس” التي حدثت نتيجة لخسارة نابليون الثالث الحرب مع بروسيا ودخول الجيش البروسي واحتلال باريس. وتعتبر كومونة باريس أول ثورة اشتراكية.

 الثورة البلشفيَّة في روسيا (أكتوبر 1917):
من بين اهم الأحداث التي سبقت ثورة أكتوبر هو دخول روسيا في حرب مع اليابان عام 1904، كانت نتيجتها خسارة فادحة للأسطول البحري الروسي. أعقب ذلك ما يعرف بالأحد الدامي، حيث تمّ إطلاق النار على مسيرة سلميَّة مطلبيَّة متوجّهة لقصر الشتاء في سانت بطرسبرغ، بتاريخ 22 شباط 1905، مما أدى إلى سقوط المئات ويقال الآلاف بين قتيل وجريح. تبع ذلك نجاح ثورة 23 شباط 1905، وإرغام القيصر نيقولا الثاني على قبول المشاركة في الحكم وضمان بعض الحريّات المدنيَّة.
كان لاندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914 وتَكَبُّدُ روسيا خسائرَ فادحة بلغت بحدود المليون وستمئة ألف قتيل ونحو مليوني أسير، دور كبير لتدهور الأوضاع السياسية والمعيشية، مما أدى الى العديد من الاضطرابات من بينها، مغادرة 90,000 امرأة عاملة يوم عيد الأم 23 شباط 1917 المصانع في بترو غراد ودخولهن الشوارع باتجاه القصر الشتوي يهتفن بـ “الخبز” و”أوقفوا الحرب” و”تسقط الأوتوقراطية”، في وقت كان معظم الرجال يحاربون في الجبهة. أعقب ذلك في اليوم التالي 24 شباط 1917، خروج نحو 150,000 رجل وامرأة لنفس السبب، مما أدى الى تمرّد بعض رجالات الشرطة والجيش وانضمامهم للمتظاهرين، وجد القيصر نيقولا الثاني مرغماً للتنازل عن الحكم يوم 13 آذار 1917.

 تشكلت بعد ذلك حكومة مؤقتة برئاسة كيرنسكي، ألغت أحكام الإعدام وأطلقت سراح السجناء، وعفت عن المنفيين ومنهم “لينين”، الذي لم يُضع وقتاً وعاد من منفاه في زيورخ الى بترو غراد يوم 3 نيسان 1917 مستقبَلاً من قبل آلاف العمال والجنود. اكتسح البلاشفة يوم 31 آب انتخابات العمال في معظم المدن الصناعيّة، حيث بدأت الإضرابات العماليَّة. رفض “لينين” سلطة الحكومة المؤقتة برئاسة “ألكسندر كيرنسكي”.
تحولت الاضطرابات العمالية الى تحركات قام بها الجنود وبعض الضباط وسيطروا على الطرَّاد “أورورا” وإعدام قبطانه يوم 24 اكتوبر 1917. تحول ذلك الى ثورة مسلحة يوم 25 أكتوبر 1917 بسيطرة العمال والجنود على جميع مدن بترو غراد الحيويَّة ما عدا قصر الشتاء. خُتمت الاحداث بقصف الطرَّاد “اورورا” قصر الشتاء، وإعدام القيصر نيقولا الثاني وجميع أفراد عائلته بضمنهم المرافقون والخدم يومي 16-17 تموز 1918.
 أهم إنجازات ثورة أكتوبر كانت إسقاط النظام القيصري الإقطاعي، وتأسيس نظام جمهوري شعبي، يطمح لبناء مجتمع اشتراكي. تُوجَّتْ ثورة أكتوبر بتأسيس الاتحاد السوفيتي الذي دام أكثر من سبعين عاماً.

 حركة بكر صدقي (العراق) (1936- 1937):
إبّان الحرب العالميَّة الثانية واحتدام الصراع بين دول المحور بقيادة ألمانيا النازيَّة، وبين دول الحلفاء متجسّدة ببريطانيا وأمريكا والاتحاد السوفيتي، حدث صراعٌ في العراق بين الملك غازي وبين مُوالي الإنكليز في العراق متمثلاً بعبد الإله ونوري السعيد.

أول انقلاب في الدول العربيَّة حصل في العراق على يد الفريق الركن بكر صدقي يوم 29 تشرين الأول 1936، وشاركه العقيد محمّد علي جواد قائد القوة الجويّة وعبد اللطيف النوري، مستفيدين من ميل الملك غازي نحو ألمانيا. هدف الحركة إسقاط وزارة “ياسين الهاشمي” وإضعاف نفوذ نوري السعيد والإنكليز.

 بيان الحركة: أيّها الشعب العراقي الكريم: لقد نفد صبر الجيش المؤلف من أبنائكم، من الحالة التي تعانونها، من جراء اهتمام الحكومة الحاضرة لمصالحها وغاياتها الشخصية، من دون أن تكترث لصالحكم ورفاهكم. نطلب الى صاحب الجلالة الملك المعظّم إقالة الوزارة القائمة، وتأليف وزارة من أبناء الشعب المخلصين.

توقيع: قائد القوة الوطنيّة الإصلاحيّة: الفريق بكر صدقي العسكري

تبع ذلك اغتيال جعفر العسكري وزير الدفاع وصهر نوري السعيد، وهو من المقرَّبين جدَّاً للملك فيصل الأول من قبل الحركة. أقال الملك غازي ياسين الهاشمي وكلَّفَ “حكمت سُليمان” لرئاسة الوزارة، بالاتفاق مع بكر صدقي الذي أصبح رئيساً لأركان الجيش. ضمّت الوزارة: صالح جبر للعدليَّة، ناجي الأصيل للخارجيَّة، كامل الجادرجي للاقتصاد والمواصلات، يوسف إبراهيم للمعارف، جعفر أبو التمن للماليَّة.

 لم يمض وقت طويل حتى تمّ اغتيال بكر صدقي ومحمد علي جواد في الموصل قبل سفرهما إلى تركيا عام 1937. بكر صدقي معروفٌ بقسوته تجاه اللاجئين الآشوريين من سوريا عام 1933، وضد عشائر الفرات الأوسط عام 1935، وضد حركة البرزانيين. انتهت الحركة من دون تغيير يُذكر في الهيكل الأساسي للدولة أو في سياساتها العامة.

 حركة رشيد عالي الكيلاني (العراق) (شباط – أيار 1941):
استمراراً للحرب العالمية الثانية واحتدام الصراع بين دول المحور بقيادة ألمانيا النازيّة، وبين دول الحلفاء متجسّدة ببريطانيا وأمريكا والاتحاد السوفيتي، وضمن هذه الظروف تحرّكت مجموعة من الضباط المعادين للإنكليز وعبد الإله ونوري السعيد، شارك فيها: حسين فهمي رئيس أركان الجيش، العقداء الأربعة: صلاح الدين الصبَّاغ، فهمي سعيد، كامل شبيب، محمود سلمان في شباط من عام 1941. أحاطت قطعات عسكرية القصر الملكي وأُجبر رئيس الوزراء طه الهاشمي على الاستقالة. تمَّ تشكيل وزارة إنقاذ برئاسة رشيد عالي الكيلاني من دون تكليف من الوصي عبد الإله.
أدى ذلك إلى هروب نوري السعيد إلى الأردن، وهروب عبد الإله إلى البصرة ثم نقله الإنكليز إلى عَمّان. ألغى البرلمان وصاية عبد الإله وعَيَّنَ “الشريف شرف” وهو من العائلة المالكة، وصيَّاً على الملك بدلاً عنه. انتهت الحركة بتدخّل عسكري بريطاني، وجرت معارك غير متكافئة في الشعيبة والحبانيَّة. أدى ذلك إلى هروب رشيد عالي الكيلاني وأتباعه إلى إيران.
أعقب ذلك فراغٌ أمنيٌّ في بغداد، حيث استفاد من ذلك الغوغاء يوم 1 حزيران 1941 إذ قاموا بإحداث ما يسمى بـ “فرهود اليهود” الذي قُتل فيه 179 وجرح 2118 أثناء عمليات سلب ونهب بيوت ومحلات اليهود، وقيل إنّها شَمِلَتْ غير اليهود أيضاً. تمَّ اعتقال العُقداء وجرى إعدامهم علناً في مناطق رئيسة ومتفرقة من مدينة بغداد، وتُركتْ أجسادهم معلَّقةً لساعات ممّا أثار حنق العسكر على الوصي ونوري السعيد.

 الثورة المصريَّة (23 يوليو “تموز” 1952):
طبيعة الظروف السياسية والاقتصادية التي سبقت الثورة: حكمٌ ملكيٌّ تابعٌ بشكلٍ وآخر للإمبراطوريّة البريطانيّة، خلافاتٌ سياسيّة بين الوفديين والسعديين والبلاط الملكي والشعب المصري، وجود معارضة سريَّة يقودها حزبان متناقضان “الاخوان المسلمين” و “الشيوعيون المصريون”. نمو طبقة مثقفة من الأدباء والفنانين والجامعيين المصريين، مصحوباً بنمو الروح الوطنيّة والقوميّة لدى الضباط المصريين الذين ينحدر معظمهم من عائلات فقيرة. نتائج الحرب العربيّة الإسرائيليّة عام 1948 ونكبة فلسطين، وتجهيز الجيش المصري بالأسلحة الفاسدة كانت عاملاً أساسيّاً في نقمة الضباط الأحرار على الملك فاروق والإنكليز.
 ابتدأت الثورة بتحرّك مجموعة من الضباط الأحرار وسيطرتهم على مقاليد الحكم يوم 23 يوليو “تموز” 1952. أُذِيْعَ البيانُ الأولُ بصوت “محمد أنور السادات”. لم يحدث أيُّ صِدامٍ عسكريٍّ، وكان انقلاباً أبيض. قاد الحركة مجلس قيادة ثورة من 13 ضابطاً برئاسة اللواء “محمد نجيب”. أُجْبِرَ الملكُ فاروق على التنازل عن العرش لولي العهد “أحمد فؤاد”. أُلغيت الملكيّة وأُعلنت الجمهوريّة يوم 18 يونيو “حزيران” 1953. بروز شخصية “جمال عبد الناصر” من بين الضباط الأحرار.
 من بين اهم اهداف الثورة المصرية، مناهضتها للاستعمار، وإقامة جيش وطني قوي، والقضاء على الإقطاع، وتحقيق العدالة الاجتماعيّة، وإقامة حياة ديمقراطيّة. كان من أهم إنجازاتها: الإصلاح الزراعي وإعادة توزيع الأراضي، إجلاء القوات الأجنبيّة وتأميم قناة السويس، وبناء السد العالي ومجانيَّة التعليم بجميع مراحله.

تقييم التجارب العالميَّة:

  • معظم الثورات تأتي بعد المرور بمعاناةٍ وظلمٍ وحيفٍ يُبرِّرُ هياج الجماهير.
  • معظم الثورات الشعبيّة، شارك الجيش بإنجاحها بشكلٍ وآخر.
  • الجماهير أسهمتْ بشكلٍ فعَّالٍ في الثورة الفرنسيّة والثورة البلشفيّة في روسيا.
  • الجيش قام بحركة يوليو المصريَّة من دون مشاركة جماهيريّة، إلا أن التطورات والقوانين التي أعقبتها حوّلتها إلى ثورة لتبنّيها مطالب الجماهير.
  • حركتا بكر صدقي ورشيد عالي الكيلاني حركتان مبنيتان على تغيير بعض رموز النظام من دون تغيير طبيعته؛ لذا فهما أقرب إلى الانقلاب منهما إلى الثورة.
  • الانقلابُ حدثٌ مفاجئٌ وآنيٌّ، بينما الثورةُ هي سلسلةٌ من الأحداث المتلاحقة التي تهدف إلى تغييرٍ جذريٍّ في طبيعة السلطة السياسيّة وأهدافها من الناحية الاقتصاديّة والاجتماعيّة.

 التجـــــــــربة العـــــــراقية

العراق قبل تموز 1958 (العهد الملكي: 1921-1958):
اتسمت الأوضاع السياسية طيلت تلك الفترة بسيطرة القوات البريطانية على سيادة العراق، وهيمنة نوري السعيد وعبد الإله على الأوضاع السياسية، ودخول العراق في حلف بغداد 1955. أما النظام برلماني نتائجه مسيطر عليها باعتماد دوائر انتخابيه متحكم بها، والحرية السياسية محدودة لبعض الأحزاب السياسية المعتدلة مثل حزب الاستقلال والحزب الوطني الديمقراطي، واحزاب يسارية محدودة الحرية مثل حزب الشعب لعزيز شريف وحزب الاتحاد الوطني لعبد الفتاح إبراهيم، أما الحزب الشيوعي فكان دوره بارزاً في النشاطات السياسية المعادية للسلطة وبرز ذلك بوضوح في انتفاضة تشرين 1952 ووثبة كانون الثاني 1948 (معاهدة بورت سموث). توجت أحزاب المعارضة العراقية نشاطها بتكوين جبهة الاتحاد الوطني عام 1957 التي كانت على اتصال بتنظيم الضباط الأحرار.  

أما الأوضاع الاقتصادية فكانت تحت سيطرة وهيمنة الشركات الإنكليزية على مصادر الثروة النفطية، وتبعية العملة العراقية لنظام الإسترليني. أما الاقتصاد الزراعي فكان تحت هيمنة الأقطاع وكبار الملاك الذين يملكون 75% من الأراضي الزراعية، ولم تكن حصة المزارعين تتجاوز الـ 30 % من المحصول الزراعي. إيجابياً كان قد بدأ مجلس الأعمار بخطة واسعة تتضمن مشاريع البنى التحتية مثل سدة الثرثار وبحيرة الحبانية ومشروع المسيب الكبير.

اجتماعيا كان هناك تطور في المدن مما أدى الى نمو الطبقة الوسطى وجيل من المثقفين، اما الريف الذي كان يعاني من قهر وظلم الاقطاع واستقوائهم بقانون العشائر، الذي أدى الى هجرة الايدي العاملة من جنوب العراق الى بغداد وتكوين عشوائيات سكان الصرائف. أما الأحوال المدنية فكانت مرهونة فقط بتفسير رجال الدين.

القوات المسلحة وحركة الضباط الأحرار:
كانت المراتب العليا في الجيش موالية للملك ولنوري باشا وللإنكليز، أما المراتب الوسطى والدنيا فكان ولاءهم للوطن ويرومون التغيير. وقد تأثر الجيل الجديد من الضباط بما يلي:

    • كمال اتاتورك تركيا وهتلر وموسوليني
    • ثورة اكتوبر وشخصية ستالين
    • تقسيم فلسطين وخيانة الملوك والحكام العرب
    • امين الحسيني وتأجيجه الشعور القومي
    • حركة رشيد عالي الكيلاني والعقداء الأربعة 1941
    • ثورة 23 يوليو وقائدها جمال عبد الناصر
    • هيمنة الإنكليز على الجيش العراقي
    • الانتفاضات والوثبات والمظاهرات التي كانت تتكرر باستمرار
    • الأفكار الثورية والتحررية التي كانت تنشرها أحزاب المعارضة

كل ذلك أدى الى تكوين عدة تنظيمات عسكرية سرية تروم اسقاط الملكية وتأسيس حكم جمهوري مستقل عن المملكة المتحدة. توحدت كل هذه التنظيمات في تجمع سري واحد تحت قيادة الزعيم الركن عبد الكريم قاسم وحوالي ثلاثمائة ضابط في كل أصناف القوات المسلحة العراقية.

كان تنظيم الضباط الاحرار على اتصال مستمر بشخصيات من تنظيم جبهة الاتحاد الوطني وخاصة بالحزب الوطني الديمقراطي والحزب الشيوعي العراقي، والذين ابلغا بموعد قيام الحركة بعدة أيام.

حركة 14 تموز 1958 واهم منجزاتها:
لم تكتفي حركة 14 تموز 1958 بتغيير الهيكل السياسي العام من حكم ملكي دستوري، الى حكم جمهوري، إنما سنت تشريعات وقوانين وبرامج غيرت جذرياً الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومنها:

  • اعلان الدستور المؤقت ونصه على ان العرب والأكراد شركاء في الوطن.
  • قانون الإصلاح الزراعي رقم 30 لسنة 1958.
  • ألغاء قانون العشائر وقانون تسوية الأراضي.
  • العفو عن المسجونين والمبعدين السياسيين والأكراد البرزانيين.
  • تأسيس مدينة الثورة ومدينة الشعلة والغاء الصرائف العشوائية.
  • إصدار قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 لرفع الحيف عن المرأة.
  • انجاز العديد من مشاريع مجلس الأعمار.
  • مساهمة الجيش في البناء مثل شق قناة الجيش.
  • اتفاقية التعاون الاقتصادي مع الاتحاد السوفيتي واقامة 25 مصنعا استراتيجياً موزعة على كافة المدن العراقية والتي اسست النواة الرئيسة للصناعة العراقية.
  • بناء الدور السكنية وتوزيعها على الضباط وموظفي الدولة.
  • تكوين الجمعيات المهنية وتوزيع الأراضي السكنية على منتسبيها بأسعار زهيدة.
  • قانون رقم 80 لسنة 1961 الذي استعاد 99.8% من الأراضي العراقية الداخلة في امتياز شركات النفط إلا انها غير مستثمرة.
  • الخروج من حلف بغداد واجلاء الإنكليز من الحبانية والشعيبة.
  • المطالبة بعودة الكويت للوطن الأم.
  • اسناد حركات التحرر في فلسطين والجزائر وعُمان وعدن.
  • قانون مكافحة الأمية والتعليم الإلزامي ومجانية التعليم من الابتدائي الى التعليم الجامعي.
  • في خلال أربع سنوات تمت مضاعفة عدد طلاب الابتدائية والمدارس الابتدائية والمدارس الثانوية وعدد المعلمين.
  • قانون تنظيم الحياة الحزبية لسنة 1960.

الخلاصة والاستنتاجات:
يشير الكاتب د. عبد الخالق حسين في كتابه ثورة وزعيم من ان المستشرق الفرنسي مكسيم رودنسون قال ان: ” ثورة 14 تموز العراقية ھي الثورة الوحيدة في العالم العربي “. أما حنا بطاطو فيقول ” أننا امام ثورة اصيلة، ليس لأنها اضعفت النفوذ الغربي فقط، وإنما لأنها “دمرت لحد كبير السلطة الاجتماعية لأكبر مُلاكي الأراضي، وعززت موقع العمال والشرائح الوسطى والدنيا في المدن، ولإلغائها نظام النزاعات القبلية وإدخال الريف في صلب القانون الوطني. ويرى إسماعيل العارف أن “عبد الكريم قاسم شخصية قيادية فذة، وتجربته هي إحدى اغنى التجارب الثورية في العالم الثالث”.

ويرى الباحث نتيجة المعايشة، ودراسة المفاهيم والمقارنات العالمية من ان: “حركة 14 تموز 1958 أقرب الى ان تكون ثورة شعبية منها الى انقلاب عسكري، بالمقارنة مع الثورة المصرية عام 1952. وقد استمدت شرعيتها الثورية عن طريق التنسيق مع عموم المعارضة ابان العهد الملكي متمثلةً بـ “جبهة الاتحاد الوطني” ببرامجها وقياداتها واعضائها، وبالمشاركة الشعبية العفوية والتأييد الواسع من قبل الجماهير، ومن التغييرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي احدثتها.

إلا ان ثورة 14 تموز 1958 لم ترقى لتكون “الثورة العظيمة” كما تحدث عنها شارس تيلي التي من المفروض ان تؤدي الى تحولات جذرية للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية، المصحوبةً بتغيير شامل في طبيعة المؤسسات السياسية.  وهي ليست ثورة بالمفهوم الماركسي، لأنها لم تقم بناء على صراع طبقي مسبق، ولم يكن هدفها إزالة الفوارق الطبقية او بناء مجتمع اشتراكي، ولم يقودها حزب بروليتاري. وبالتالي فهي ثورة تحرر وطني متكاملة شارك فيها الجيش والشعب، هدفها الأساس تحرير العراق من النفوذ الأجنبي وبناء اقتصاد وطني مستقل، وتحقيق إصلاحات اجتماعية واقتصادية لصالح الفقراء والمحرومين.

المصادر:

  • معايشة شخصيَّة للأحداث.
  • تشارلز تيلي: نشوء الدول وطبيعة الثورات.
  • لينين: خطتا الاشتراكيّة الديمقراطيّة في الثورة الديمقراطيّة، ص 206.
  • التفسير النقدي الارتقائي المتفائل (موقع المعرفة).
  • سلامة كيلة: الثورة في الماركسيّة.
  • حنا بطاطو: العراق: ثلاثة أجزاء.
  • إسماعيل العارف: أسرار ثورة 14 تموز وتأسيس الجمهوريّة في العراق.
  • ليث عبد الحسن الزبيدي: ثورة 14 تموز 1958 في العراق.
  • عامر عبد الله: خواطر وذكريات: بمناسبة الذكرى 44 لثورة 14 تموز المجيدة.
  • نجم محمود: المقايضة: برلين- بغداد، ثورة 14 تموز العراقيّة في السياسة الدوليّة.
  • عبد الخالق حسين: ثورة وزعيم.

محمد_حسين_النجفي#

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

You have successfully subscribed to the newsletter

There was an error while trying to send your request. Please try again.

أفكار حُـرة : رئيس التحرير محمد حسين النجفي will use the information you provide on this form to be in touch with you and to provide updates and marketing.