أفكار حُـرّة : رئيس التحرير محمد حسين النجفي
صوت معتدل للدفاع عن حقوق الأنسان والعدالة الأجتماعية مع اهتمام خاص بشؤون العراق
تعتبر الكرادة الشرقية من بين اهم ضواحي العاصمة بغداد من حيث تعداد النفوس والمساحة الجغرافية والتنوع السكاني في أعوام الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن العشرين. إن اهم ما يميزها هو كونها شبه جزيرة يلتف حولها نهر دجلة العظيم من ثلاث جهات. كذلك كورنيش شارع ابي نؤأس ومقاهيه الجميلة والسمك المسكوف وبهجة وشعبية الكرادة داخل، وروعة ونظافة الكرادة خارج، وتحرر وحداثة عرصات الهندية وأناقة وهدوء منطقة المسبح.
كانت الكرادة الشرقية تحوي مجتمعات راقية ومجتمعات متدنية في آن واحد. تحوي على العديد من الجوامع والحسينيات ومنها جامع التميمي وحسينية مباركة وحسينية “عبد الرسول علي” التي كان الشيخ الوائلي يؤمها في العشرة الأيام الأولى من شهر محرم الحرام وعشرة ايام من شهر رمضان. كان شارع ابي نؤآس الذي يبدأ من الباب الشرقي وينتهي في شارع الكنيسة (البوليسخانة) آن ذاك قبل ان يتم تكملته ليصل الى الجسر المعلق ثم ليصل الى الجادرية. كان شارع ابي نؤأس مركزاً سياحياً وترفيهياً لعموم أهالي بغداد، ومركزاً سياحياً لزوار بغداد من المحافظات الأخرى او ضيوف العراق الأجانب، حيث تنتشر على امتداده العديد من الفنادق والمطاعم والمقاهي ومحلات الشرب التي يرتادها الرجال فقط في ذلك الحين، ومنها مقهى الحدباء لصاحبها “زناد” الذي كانت مقهاه سابقاً في البتاوين محل سينما اطلس حالياً، ولديه مقهى في نهاية سوق التجار وعلى ضفاف نهر دجلة. وفي منتصف الستينات افتتحت امانة العاصمة ثلاث مقاهي جميلة جداً هي ثلاثية مقاهي الصفراء والخضراء والحمراء.
كذلك كانت الكرادة مركزاً للعديد من المثقفين والسياسين المعروفين، ومنهم الدكتور ابراهيم كبة وزير الأقتصاد في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم والذي سُميّ الشارع الذي كان يسكنه بأسم شارع الوزير. كذلك سكن الكرادة شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري ومؤرخ الوزارات العراقية الكاتب السيد عبد الرزاق الحسني واستاذ القانون الدولي الدكتور محمد علي الدقاق والدكتور الجراح عبد المجيد حسين مؤسس مستشفى عبد المجيد حسين، والتجار المعروفين عبد الرسول علي ورضا علوان وجابر مهدي البزاز. يوجد في الكرادة العديد من عيادات الاطباء المعروفين ومنهمم صاحب علش وصادق ابو التمن وعليم حسون. كذلك العديد من المستشفيات ذات السمعة العالية مثل مستشفى الراهبات في منطقة أرخيته ومستشفى الأمام في منطقة أبو قلام ومستشفى عبد المجيد حسين في البو شجاع.
وفي تلك الأعوام المفصلية في بداية الستينات بدأت الأحداث في العراق تأخذ منحى معاكس. حيث تحول الصراع بين الأفكار والبدائل السياسية الى صراعات دموية سُفكت فيها دماء الشباب السياسين المتخاصمين، وكانت حصة الأسد في الضحايا من نصيب اليساريين خاصة من سكنة الموصل، مما جعل سفك الدماء بشكل جماعي بعد حركة 8 شباط 1963 المشؤومة، امراً استمرارياً لما حدث من قبل. وفي نفس الوقت بدأت الدول الخارجية تتدخل بشؤون العراق وخاصة الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا)، والدول الغربية متمثلةً ببريطانيا وامريكا. إن ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958، لم تكن إنقلاباً عسكرياً لتغيير من هُم في سدة الحكم، وانما كانت حركة ثورية تنشد التغيير الجذري في الشؤون السياسية والأقتصادية والأجتماعية. وعليه اتخذت الثورة خطوات ضربت بها مراكز نفوذ تقليدية في الداخل، وحجمت مصالح الشركات الأجنبية المرتبطة بالخارج. ومن بين هذه الخطوات وأهمها كان قانون الأصلاح الزراعي، وقانون الأحوال الشخصية. وهذين القانونين الحقا الضرر بمصالح ونفوذ رجال الدين الذين يُمولون من قبل رؤوساء العشائر، وهم في معظم الأحيان مُلاك أكبر وأخصب الأراضي الزراعية، التي استولوا عليها أثناء حقبة الدولة العثمانية والعهد الملكي. كذلك فعل قانون الأحوال الشخصية، حيث نظم هذا القانون علاقات الزواج والطلاق والأرث بما يضمن حقوق أفضل المرأة في الأرث ويرفع من شأن دورها في الزواج والطلاق.
وبذلك انقسم الشعب العراقي بين مؤيد للزعيم وبين معادي له. يضم الفريق الأول ما لايقل عن 80% من الشعب العراقي خاصة الفقراء والعمال والفلاحين والكسبة، وسياسياً الشيوعيين وقسم من الحزب الوطني الديمقراطي. ويضم الفريق الثاني البعثيين والناصرين، وتضامن معهم بعض رجال الدين والأقطاعيين الذين تضررت مصالهم الشخصية، مع اسناد خارجي قوي جداً. وبذلك ابتدأت سلسلة المؤآمرات الواحدة تلو الأخرى، من إنشقاق عبد السلام عارف ومطالبته بالوحدة الفورية مع مصر وسوريا بقيادة جمال عبد الناصر دون قيد أو شرط، ثم حركة السياسي المخضرم رشيد عالي الكيلاني، ثم حركة الشواف في الموصل والأحداث التي تلتها، واحداث كركوك الدموية بين الأكراد والتركمان، ومحاولة اغتيال الزعيم في شارع الرشيد.
كان لهذه الأحداث ابعاد سياسية واجتماعية أثرت على علاقة الجيران بعضهم ببعض، وعلاقات الصداقة في المحلة وفي المدرسة. وبدأ الكل يفكر اين موقعه واين موقع الجيران والأقارب والأصدقاء من ذلك. وبدأت تتركز معظم الحوارات في الدوائر الحكومية، والمتاجر التجارية، والمدارس والجامعات، وفي البيوت حول السياسية. وادى ذلك الى تحول بعض الصداقات الى عداوات، والى انفضاض بعض المجالس بالصياح والغضب وأحياناً الأشتباك بالأيدي، هذا يدافع عن الزعيم وذلك يحب جمال عبد الناصر ويريد الوحدة مع مصر. وكانت محاكمات المهداوي (محكمة الشعب الخاصة) تؤجج هذا الصراع، لأنها كانت تُنقل حية عبر شاشات التلفزيون الذي كان الجميع يلتصقون به من اصغر فرد في العائلة حتى اكبرها. واتذكر جيداً ان أبي أشترى التلفزيون وادخله في بيتنا، كي يشاهد محكمة الشعب التي ابتدأت بمحاكمة رجال العهد البائد (العهد الملكي) امثال بهجت العطية وسعيد قزاز. ثم محاكمة عبد السلام عارف، وكانت اشهرها محاكمة ناظم الطبقجلي، ومن ثمّ المشتركين بمحاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم في شارع الرشيد.
ادى انشطار الشارع العراقي الى قسمين رئيسين الأول الزعيم والشيوعيين من جهة، والثاني البعثيين والقوميين من جهة اخرى، الى مصدامات دموية، ومنها احداث كركوك في يوم الأحتفال الأول بذكرى 14 تموز 1959، مما ادى الى اراقة الدماء بين الأكراد والتركمان والتي استغلتها القوى المعادية للثورة وتلبيسها برقبة الشيوعيين. وانعكس ذلك في خطاب الزعيم حينما افتتح كنيسة مار يوسف في 17 تموز 1959 في الكرادة الشرقية، والقى كلمة ابدى فيها غضبه على الشيوعيين والأكراد واسماهم بـ “الفوضويون”. استغلت اجهزة الأمن والمخابرات التي كانت مُسيطر عليها من قبل القوى المناوئة للثورة، وقامت بحملة اعتقالات واسعة، في الموصل وكركوك وبغداد، وعلى وجه الخصوص للقيادات العمالية والفلاحية والناشطين المعروفين. بعد هذا الخطاب انشطر العراق الى ثلاثة اقسام، الزعيم والقاسميين والمؤيدين له وهم عموم الناس، ولكن خصوصاً الفقراء الذين رعاهم ورفع من مستواهم المعاشي والأجتماعي، القسم الآخر هم الشيوعيين الذين ابعدهم الزعيم عن دائرته وابعدهم عن المناصب الحساسة في اجهزة الدولة وخاصة الجيش، إلا انهم أستمروا في ولائهم لثورة تموز والدفاع عن مكاسبها. اما القسم الثالث فهم البعثيون والقوميون والذين اعتمدوا بتقوية قواهم على اسناد من الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا) والتعاون مع القوى التي تضررت من الثورة، وهم جماعة العهد الملكي والأقطاعيين والأغوات الأكراد المتضررين من قانون الأصلاح الزراعي، ورجال الدين الذين سحب قانون الأحوال الشخصية البساط من تحت اقدامهم، عزز ذلك فتوى الراحل السيد محسن الحكيم من أن “الشيوعية كفر وألحاد”.
#العراق #عبد_الكريم_قاسم #حزب_البعث_العربي_الأشتراكي #السيد_محسن_الحكيم