أفكار حُـرّة : رئيس التحرير محمد حسين النجفي
صوت معتدل للدفاع عن حقوق الأنسان والعدالة الأجتماعية مع اهتمام خاص بشؤون العراق
“ذكريات لندنية”
تعرض إبراهيم لحادث سير عنيف ادى الى تمزق في احشائه الأمامية الوسطى والسفلى. وقد اجريت له عدة عمليات في العراق قبل القدوم الى لندن. جاء معه والده ابو إبراهيم مصاحباً الذي كان مختار محلة في قضاء شيخان شمال الموصل، وهو انسان ذو صفات ومظهر قروي رغم قدومه الى لندن بملابس غربية (أفندي)، عمره في العقد الرابع او الخامس من العمر، حليق الذقن مع شوارب مفتولة نهايتها شامخةً نحو الأعلى، وكأنها شوارب الأغوات ايام زمان، دائم الابتسامة وفي منتهى الخجل والأدب والتواضع.
ابراهيم لا يغادر غرفته إلا نادراً ويفضل العزلة، إلا اننا كنا نسمع دندنته على القيثارة التي كان يقضي معظم اوقاته معها. طلب مني ابو ابراهيم ان اذهب معه لمقابلة طبيب ابراهيم لغرض الترجمة، وذلك لعدم حضور المترجم المخصص له. ذهبنا لمقابلة الطبيب الجراح وكان ابراهيم مرتبكاً بشكل واضح لم يستطع اخفائه، حتى طرح سؤال لا يفارق تفكيره وطلب مني ان اترجمه: دكتور، هل سيأتي اليوم الذي استرد به صحتي ويكتمل به كل جسمي كرجل؟ طرحت السؤال باللغة الإنكليزية على الجراح، ولم أستطع ان اداري عيوني من عيون ابو ابراهيم، الذي تقلصت ولمعت عيونه، ربما لأنه يعلم ما لا نعلمه. كانت اجابة الجراح بمنتهى الصراحة والبرود الإنكليزي المتعارف عليه: إن الأمل ضعيف جداً وانه يجب ان نكون واقعيين. ركز أبو ابراهيم نظراته المتوسلة تجاهي وكأنه يطلب مني الرحمة والشفقة، وحتى من دون ان يطلب مني، لم أكن لأمتلك البرود الانكليزي كي اترجم ما قاله الجراح حرفياً دون تحوير. قلت لإبراهيم بما معناه: إن الجراح يرى ان امامنا طريق طويل للعلاج، وان هناك أمل رغم ان السؤال سابق لأوانه. تنفس أبو ابراهيم الصُعداء من جوابي وابتسم قليلاً، وبرم شاربيه نحو الأعلى، وانبهرت عيناه بلمعان دموع من الفرح هذه المرة.
لم يستطع أبو ابراهيم ان يشكرني بحضور ابنه، إلا انه في اليوم التالي تشكر مني كثيراً، وقال لي: يا ابو جاسم، انت انقذت حياة إبراهيم حينما ترجمت بطريقتك الذكية ما قاله الدكتور، غياب المترجم كان رحمةً من الله. كان ابو ابراهيم ممنوناً جداً مني، وأصبحنا نتحدث بين الحين والآخر.
كان مكتب تأجير الشقق المفروشة الذي يملكه خالي الحاج كريم ويديره اخي الحاج رعد، يقدم خدمات عامة للنزلاء، معلومات عن المطاعم والتسوق وصرافة العملة. كان المكتب مثل خلية النحل في النهار بين القادم الجديد والراحل الى ارض الوطن، بين من يعود بعد الشفاء ومن يرجع مكسور الخاطر. وفي ظهيرة أحد الأيام كنا جالسين في المكتب، خالي واخي وانا وابو ابراهيم وآخرين، دخل علينا أحد النزلاء الجدد (وهو قائم مقام شيخان) من غرفته الى المكتب وبدأ حديثه بالسلام عليكم، وإذا به يتفاجأ بوجود ابو ابراهيم بيننا: مرحبة أبو إبراهيم، سلام خاص من القادم الجديد لأبو إبراهيم. وقف ابو إبراهيم غاضباً وكان جوابه: لا هلا ولا مرحبة، الله لا يرضى عليك ولا يوفقك. اجابه القائم مقام: دقيقة أبو ابراهيم خلي نتفاهم. نتفاهم عن ماذا! بعد ان فصلتني من شغلي، آني مختار شيخان، أباً عن جد، انت طلعتني وعينت واحد زعطوط (طفل) سويته مختار لأنه صار “بعثي”! أجابه أبو إبراهيم وترك المكتب مُسرعاً، دون إعطاءه فرصة للجواب. كانت مواجهة حادة ومفاجئة للجميع وموقف مُربك ومُحير، وذلك لما نعرفه عن ادب وخلق أبو إبراهيم، ولم يحاول القائم مقام الاختلاط بنا بعد تلك التعرية المهينة.
كان مكتب ادارة التأجير يتحول في المساء الى صالة تُعقد بها جلسات سمر لنزلاء المضيف، خاصة في مسائي الجمعة والسبت، حيث كنا نلعب الدومينو والطاولة واحياناً نحتسي بعضاً من البيرة. وفي إحدى تلك الأمسيات الممتعة طالت الجلسة قليلاً، وبين الدومينو والطاولة والبيرة وصوت ام كلثوم، انتعش الجميع. ترخص أبو إبراهيم وقال: يا جماعة تصبحون على خير، وحينما وقف، وقع الكرسي الذي كان جالساً عليه. ارتبك ابو ابراهيم من وقوع الكرسي، واعتذر شديداً دونما يكن هناك حاجة لذلك. مرت عدة ايام لم نرى فيها وجه أبو إبراهيم البشوش، ولم نستمع الى أحاديثه بعربيته ذات النغم الشيخاني الأزدي الكردستاني الجميل. قلقتُ عليه، فذهبت الى غرفته أتفقده، خرج أبو إبراهيم ووجهه يتسم بالخجل وكأن العار قد لحقه. “وينك يا أبو إبراهيم تمْ بالنا عليك”: قلت ذلك بصيغة العتاب، “والله يا أبو جاسم، آني هواية خجلان” قالها وهو محني الرأس. “على شنو أبو إبراهيم! ” قلتها متسائلاً ” هذاك اليوم آني سكرت وخربطت ووّكعت الكرسي”. اذهلني جوابه، واعجبني حيائه، وزاد احترامي له كثيراً، وتذكرت ما فعل به القائم مقام، وقلت له: والله يا أبو إبراهيم ما أنزل للمكتب إلا وأنت معي، وفعلا ارغمته على النزول وكسر حاجز الخجل من حادث بسيط جداً، لا يعير له انتباه اي منا. آه يا أبا إبراهيم لقد نجحت في اختبار المواجهات، فكنت شجاعاً، وحنوناً وخجولاً، كل في محله، ما أحلى طيبتك الفطرية، وشموخ كبريائك وعلو مقامك وخجلك الطفولي الجميل، وإن شواربك المفتولة تمثل الرجولة بكل معانيها. لا زلتُ أتذكرك واتذكر دندنة قيثارة إبراهيم، وإن مضى على هذه الذاكرة أكثر من أربعين عاماً.
#شيخان
بدون مجاملة كل مقالة تكتبها اقراءها رغم قلة وقتي وأستمتع بها كثيرا. عشت استاذ محمد
شكراً جزيلاً دكتور شاكر على المتابعة، وشهادتك في محل اعتزاز لدينا. خالص تحياتي
سلام عليكم اخي ابو عامر عاشت ايدك على هل القصه قصه راءعه ولكن اشعر انه عنوانها لا تشبه شخصيه بطل القصه عندنا الشوارب المفتوله لا ينالها الا الجريء وشايف نفسه ولكن القصه تحاكي شخصية مختلفه تماما طبعا حسب معلوماتي البسيطه
اعتذر منك وارجو لك كل التوفيق والنجاح ويعطيك الصحة والعافية يارب ودمت لي
شكراً عزيزتي ام وسام على المتابعة والمداخلة. سؤال ذو اعتبار حول رمزية الشوارب. كما ذكرت ان بيئة ابو ابراهيم قروية او شبه قروية، إلا انه مختار محلة، وهو مركز مرموق في تلك المجتمعات، والشوارب جزء من المظهر او الملابس. وانا متأكد من انه محترم في محلته. وهناك في تلك الايام الشوارب على شكل ثمانية وهي رمز بعثي يقلدون به صدام حسين. وهناك شوارب ستالينية كان يربيها الشيوعيون في الخمسينات. اما عند العرب والبدو فالشوارب رمز للرجولة، وكثير منهم له شوارب دون رجولة والرجولة هنا هو الشجاعة وعدم الخنوع وهذا ما اثبته ابا ابراهيم، رغم طيبته كان شجاعاً امام القائم مقام البعثي. شواربه كانت مميزة وكان يبرمها كثيراً وكانت جزء مهم في مظهره. الذكر الحسن له حياً او راحلاً.
فعلا قصه لطيفه كانت مألوفة في الزمن الماضي الجميل. قصة من الممكن أن يستغرب لحدوثها الجيل الجديد.
سرد يحوي على الطابع الانساني المتمثل بتصرفاتك المحمودة، و كذلك التنوع الديموغرافي و الاثني الذي كان يسود العراق حيث ان ابو ابراهيم يمثل شمال العراق. محتوى قصير و لكنه جميل ذو محتوى
قصة جميلة ومؤثرة ولها اكثر من مدلول لمن يعي ما يجري حوله.
شكراً دكتور سمير، اكيد الشوارب المبرومة نحو الاعلى لها خصوصية لكم. دمت اخاً عزيزاً دائماً