أفكار حُـرّة : رئيس التحرير محمد حسين النجفي
صوت معتدل للدفاع عن حقوق الأنسان والعدالة الأجتماعية مع اهتمام خاص بشؤون العراق
كما نُشرت في صحيفة طريق الشعب صفحة 9 العدد 143 السنة 89 الثلاثاء 30 تموز 2024
الأستاذ والصحفي والمناضل: أبو سعيد أنموذجاً
سمعنا بعض الطلبة يتحدثون فيما بينهم، من ان استاذاً جديداً سيُدرسنا المواد العلمية للصف الثالث المتوسط في المتوسطة الشرقية في الكرادة الشرقية. كان ذلك في بداية النصف الثاني من العام الدراسي 1962/1961، قالوا ان اسمه “عبد الجبار وهبي”، وهو شيوعي قيادي، وسوف يستهزؤون به ويسخرون منه قبل وبعد المحاضرات وأثناءها. من هو عبد الجبار وهبي! لم نعلم بشخص بهذا الاسم. جاءنا الزميل مناضل فاضل عباس المهداوي في اليوم الثاني بالخبر اليقين، وقال انه “أبو سعيد”! الكل يعرف أبو سعيد، وان كان عمرنا آن ذاك ثلاث أو أربع عشرة سنة، إلا أننا كنا نقرأ الكتب والمجلات والصحف وخاصة صحيفة “أتحاد الشعب” وأول ما نقرأه فيها هو عمود “كلمة اليوم” في الصفحة الثامنة وهي آخر صفحة، الذي يحلل فيه الصحفي الساخر والذي يكتب مقاله على شكل حتوته يحاكي فيها مشكلة او معاناة او آفة اجتماعية او تقاليد بالية او نقد سياسي بدون مجاملة، بأسلوب سلس ولاذع وممتع في آن واحد وتحت اسم مستعار “أبو سعيد”.
أُغلقتْ صحيفة “اتحاد الشعب” في آذار من عام 1960، اعقبها اعتقال رئيس التحرير عبد القادر اسماعيل البستاني واعتقال عبد الجبار وهبي (أبو سعيد) ثم ابعاده الى مدينة الرمادي تحت الإقامة الجبريَّة. وبعد انتهاء محكوميته، نُسب الى مدرستنا، المتوسطة الشرقية لتدريس العلوم لأنه اصلاً من الطلاب المتفوقين الذي حصل على بعثة للحصول على بكالوريوس علوم من الجامعة الامريكية في بيروت.
كُنت في ذلك العام الدراسي في اوج نشاطي السياسي، لذا كنت راسباً في ثلاث مواد علمية، وبالتالي سوف لن يسمح لي بدخول امتحان بكلوريا الثالث متوسط، إلا ان قدوم أبو سعيد الصحفي الذي كنا نقرأ عموده كل يوم، غيّر المقاييس كلها، فكيف لي أن أكون كسولاً واستاذي أبو سعيد! فمثلما هيأ البعثيون أنفسهم لاستفزاز الاستاذ عبد الجبار وهبي، تهيأنا انا ومناضل وآخرين للوقوف بوجههم ولصد استفزازاتهم الوقحة.
وأخيراً جاء اليوم الأول لحضور الأستاذ عبد الجبار وهبي الى الصف بعد انتظار مقلق. كان مشهداً لا يوصف، أستاذ في منتهى الهندام، انيق دون مبالغة، لا تسمع أصوات خطواته لكياستها، قصير القامة نحيف البدن ذو رأس مُثلث كبير الحجم نسبياً، يملأ وجهه نظارات طبية مبالغ في حجمها. دخل الصف من وسطه وكأنه ملاكٌ ذو سطوة ساحرة، دخل في الدرس مباشرة وإذا بمادة العلوم الجافة تتحول بالطريقة التي يشرحها لنا كأنها حكاية، نستمع اليها بشغف وخشوع وكأننا في كنيسة نستمع فيها الى تراتيل كاثوليكية باللغة اللاتينية في الفاتيكان، الصف كله آذان صاغية له، لم يجرئ أحد مهما كانت وقاحته ان يكسر حاجز الوقار الذي يملكه هذا الإنسان الذي بدى لنا في حينه انه من غير كوكبنا. أُعتقل في العهد الملكي والعهد القاسمي، واعتقل بعد حركة 8 شباط 1963 الدموية، وعُذِّبَ وقُطِّعَ جسدُهُ في قصر النهاية وهو حيٌّ وبشهود عيان, وأعلن عن استشهاده مع رفاقه محمد صالح العبلي وجمال الحيدري في 19 تموز 1963. وهم خير ما تنطبق عليهم هذه الأبيات من قصيدة مفاتيح المستقبل للعظيم محمد مهدي الجواهري:
نم قرير العين استاذي، فبعد ستون عاماً على رحيلك مازلنا كما تركتنا، نناضل بلا هوادة، نُضطهدُ بلا ملل او كلل، وما زلنا مخلصين لأفكارنا بسذاجة، ومعذرةً منك ومن كل الشهداء لأننا لم ننتقم لكم ولم نثأر لمظلوميتكم، ولم نُحاسب مُعذبيكم ولم نُشتكِ عليهم في المحاكم المحلية او المحافل الدولية، ولم نقاطع جلاديكم، ولم نسجل دعوى عليهم في مراكز الشرطة او في مضايف العشائر ولا حتى عند المراجع العظام. هُدر دمكم وهُتك عرضكم وسُلب مالكم تحت أنظار أعيان القوم ورؤساء العشائر وقراء المنابر لمدة تسعين عاماً ونيف ولازال، ولازالت مطاحن الأنذال تطحن بنا وما زلنا نغني لشعبنا أنشودة حب ابدي لوطن لازال ليس حُراً ولشعب ليس سعيداً، إلا اننا ما زلنا نستذكركم بيننا أستاذي، نحن بقايا زمن نضالكم المُشرف.
محمد حسين النجفي
31 تموز 2024
Very nice writing.
Thank Aziz Abu-Ali.
من الجميل ان نذكر أيامنا الصعبه ونذكر أستاذتنا الكرام الله يرحمه برحمته الواسعه ..بس انته بشرنا نجحت بالبكالوريا هذيج آلسنه
شكراً عزيزي ابو حسين
كنت احتاج ٨٠ او اكثر في الفصل الثاني لمادتين كي ادخل البكلوريا، وبفضل شخصية استاذي حفزني وحصلت فوق التسعين ودخلت البكلوريا إكمال بدرس واحد ونجحت في البكلوريا من اول دور، وجائتني النتيجة وانا في المعتقل. وهلمّ جراً
نضال رائع وعرفان رائع ومقال رائع
شكراً عزيزي ابو وسام، ما يقدم لأستاذي وامثاله لا يكفي تعويضاً ولا تسديداً ولا تذكيراً، ولكن هذا كل ما نستطيع.خالص التحية